د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
يجمع المختصين إن النصوص القانونية عموما والنصوص الدستورية على وجه الخصوص لتطبق على أرض الواقع وتنتقل إلى الحالة الحركية تحتاج بالغالب إلى تفسيرها من قبل الجهات المختصة للوقوف على معناها الحقيقي باستجلاء إرادة المؤسس الدستوري، ومعرفة الحكمة من النص، واستكمال ما نقص من عملية التنظيم أو الوقوف على حالة الغموض والإبهام بإزالتها وتوضيح المغزى من البناء القانوني، والمختصين بالتفسير الدستوري يذهبون أحياناً إلى القول إن لكل نص دستوري معنى خاص، في حين يرى البعض الآخر إن النصوص كالنسيج لابد من أن يستنبط معنى كل نص في إطار النصوص الأخرى وسياقها لمنع التعارض وإزالة التضاد.
ونحن نرى أن الرأي الثاني هو الأصوب لكون القانون الدستوري وليس فقط الوثيقة الدستورية ينبغي أن يكون منسجماً متوافقاً فلا يتسبب بالأزمات والخلافات بل يكون هو مصدر الحل وليس المشكلة، فغاية المفسر هي الكشف عن إرادة السلطة التأسيسية الأصلية التي تعد بشكل عام هي الشعب معبراً عن إرادته بنفسه عبر النصوص الدستورية التي وافق عليها بالاستفتاء الشعبي العام، أو التي ارتضاها بشكل غير مباشر حين ينتخب سلطة أو لجنة أو مجلس تختص بوضع الدستور.
في وقت لا يمكن ان نعتبر الحاكم الذي يضع دستورا لشعبه بطريق غير ديمقراطي سلطة تأسيسية وان ظهر بهذا المظهر كونه يفتقد للشرعية الشعبية، ومن الثابت ان النص يوضع في وقت سابق ويطبق في وقت لاحق، والتطبيق هو من سيكشف المشاكل التي حملها النص من عيوب صياغية وتعبيرية أو من بناء غير مكتمل، فنكون بحاجة إلى تفسير ليمكن ان يطبق على أرض الواقع في عمل السلطات العامة للدولة، وهنا قد تكون إرادة السلطة التأسيسية واضحة ويمكن البناء عليها في استكمال النقص أو إزالة الغموض وقد تكون مستترة فيتم الركون إلى الاستنباط لمعرفة الإرادة الضمنية للمؤسس الدستوري وهي تعني البناء الدستوري للمؤسس لو عرضت عليه المساءلة عند تشريع الدستور.
لذا ينبغي أن يكون استنباط هذه الإرادة من قبل القاضي والمشرع متوافقاً مع بقية النصوص بالفلسفة ذاتها والمقاصد عينها، ووسائل المفسر عديدة بعضها لغوي بالاعتماد على النصوص القانونية ذاتها من حيث صياغتها اللغوية ومعرفة الرجوع للاستعمالات اللغوية للنص أو الركون إلى دلالات الألفاظ الاصطلاحية في لغة القانون، كما يمكن الاستعانة بالأعمال التحضيرية ومحاضر اللجنة التي تولت كتابة مواد الدستور، أو المصادر التاريخية التي إنتهلت لجنة كتابة الدستور منها بعض الأحكام أو الأفكار والمبادئ كالدساتير السابقة الوطنية منها أو العالمية، والإعلانات والمواثيق الدولية لاسيما المتصلة بحقوق الإنسان.
ويضيف البعض إن التفسير قد ينصرف إلى الوظيفة القانونية للنص الدستوري لهذا ينبغي التفسير في ضوء الظروف السائدة عند التطبيق سواءً منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، إذ يرى البعض ان النص الدستوري ينفصل عن واضعه ويعيش حياته الخاصة بمجرد دخوله حيز التنفيذ متوافقاً مع الحاجات العامة للدولة ومستجدات حياة المجتمع، ونرى ان الأمر لا يخلو من الصحة في الفرضين المتقدمين والعبرة في ترجيح احدهما بنوع النظام السياسي هل هو دكتاتوري؟ ام ديمقراطي يرجح الإرادة الشعبية على إرادة الطبقة الحاكمة.
والملاحظ أن الدساتير في الدول التي تشهد تغييرات سياسية عميقة نتيجة الإطاحة بنظام ومجيء نظام سياسي مغاير بالعادة تتضمن نصوصها تغييرات واسعة في معناها ومحتواها، ولكن الصعوبة في البلدان التي تتكون من مكونات عرقية تتمركز في جغرافية محددة حيث إن صياغة الوثيقة القانونية الأم في ذلك البلد ستكون ثمرة لتوافق جهات عدة غير متشابهة أيدلوجيا، فتكون الصياغة بالعادة متصفة بالعمومية الشديدة واستخدام العبارات ذات المعنى المزدوج “المطاطية” إذ تقبل التفسير الواسع والتأويل للوصول إلى تراضي بين تلك الأطراف.
وسننتظر بعد ذلك تغلب فهم إحدى المكونات التي ستستأثر بالحكم بشكل أو بأخر في المستقبل، لتفرض إرادتها ورؤيتها في فهم الدستور، وقد يساعدها على ما تقدم هيمنتها بشكل أو بأخر على السلطة القضائية أو التشريعية المختصة بالتفسير الدستوري، وعندها لا يتم الحديث عن إرادة السلطة التأسيسية الأصلية لا الصريحة ولا الضمنية بل عن رؤية القابض على السلطة ومدى قدرته على تمرير فهمه للنصوص وإرادته للتغيير في الفهم والتطبيق.
ويؤيد ما تقدم ان النصوص توضع في وقت وتستمر بالتطبيق في وقت أخر فتتغير الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية ما يحتم المرونة في فهم النصوص أيضاً ولنعط لما تقدم مثال، إذ ان دستور الولايات المتحدة الأمريكية من أقدم اللوائح الدستورية المكتوبة قد نص في تعديله (الرابع عشر) على المساواة في حماية القانون بيد انه أي مساواة يقصد “هي المساواة بين الرجال البيض فحسب” إذ كانت النساء محرومة من الحقوق السياسية مثلا إلى أربعينيات القرن الماضي، والأمريكيين الملونين استمر التمييز ضدهم إلى وقت أقرب مما تقدم في بعض الولايات.
وذهب بعض الفقه إلى إن التفسير عملية علمية ليست كاشفة فحسب عن المعنى الحقيقي للنص بل ان الجهة المختصة دستوريا بالتفسير قد تكشف عن المعنى حينما يشوب الغموض النص الدستوري في حين قد يكون عملها مكمل للنص أو منشأ لحكم قانوني معين، لاسيما عندما يكون النص ناقصاً أو غير مستوعبا للحالات العملية المطروحة على أرض الواقع ولنعط مثال على ما تقدم حيث نجد ان دستور جمهورية العراق للعام 2005 نظم اختيار رئيس الوزراء وسحب الثقة منه وكذا حالة خلو منصبه بالموت أو ما سواه وأهمل تنظيم حالة الاستقالة وحين استقالت الحكومة العراقية السابقة بقي الأمر غير محسوم هل تستمر بعملها، أم تتحول إلى حكومة تصريف أعمال؟ وهل يبقى على رأسها رئيس مجلس الوزراء، أم يحل محله رئيس الجمهورية؟
لذا أنصار هذا الاتجاه يعتقدون ان المفسر يوجد الحكم القانوني واجب التطبيق، لذا هو ينشأ ولا يكشف فحسب، فالسلطة التأسيسية الأصلية تبقى فكرة نظرية أكثر مما هي واقعية عندما يدخل الدستور حيز النفاذ فلا تملك ان تلزم المفسر بانتهاج فهم معين كونها لم تتمكن من إبداء إرادتها الصريحة في كل المسائل مهما كانت قد بذلت من جهد لتغطي أكبر مساحة من التنظيم الدستوري للسلطات العامة ولاختصاصاتها ولعلاقتها بالأفراد، فالسلطة التأسيسية قائمة وقت وضع وإنفاذ الدستور لكنها غير موجودة عملياً وقت تنفيذه، إلا إن أخذ الشعب زمام المبادرة وكان للرأي العام دور بكل تجلياته في الرقابة المستمرة عل الهيئات العامة، بما فيها القضاء.
وفي جميع الأحول سيكون هذا الرأي العام عامل ضغط فقط وليس عامل صياغة وتأسيس لأحكام قانونية بل ستختص المحاكم والمشرع بذلك دون سواهما، والأمر ذاته يتكرر مع الحكومات التي تستند إلى أغلبية برلمانية مريحة إذ تمضي في ممارسة سلطاتها بشكل أقرب ما يكون إلى النظام الدكتاتوري بعد ان أمنت من المساءلة البرلمانية والذريعة دائما في خرق القواعد الدستورية المصلحة العامة أو مقتضياتها التي تعبر عن مصلحة الطبقة الحاكمة في حقيقة الأمر.
ويتشابه ما تقدم مع حصول انقلاب عسكري أو سياسي معين إذ يتنصل المنقلبون عن الكثير من النصوص الدستورية بحجة إصلاح الوضع وإحياء النظم الديمقراطية، والقانون، والمساءلة، وإنهاء حالة الفوضى والاضطراب، وإعادة الحال إلى ما كانت عليه من شرعية مستندة لإرادة الشعب وحينها يكون هو المؤسس الدستوري وكأنه المؤتمن على المصالح الشعبية والأخطر ان المحكمة الدستورية قد تساير هذه الإرادة السياسية إما لخشية أعضائها على مناصبهم ورغبتهم في البقاء لأطول وقت ممكن أو لخوفهم من التصفية الجسدية كما حصل في باكستان العام 2000، حيث قام برفيز مشرف بانقلاب خطير على السلطة الحاكمة وعندما تم الطعن أمام المحكمة العليا في البلاد قررت صحة عزل الرئيس المنتخب بحجة الفساد المستشري، ما يعني إهمال إرادة الشعب والإرادة الصريحة للسلطة التأسيسية وإحلال إرادة الحاكم الفعلي محلها.
كما إن المحاكم الدستورية بالعادة تتراجع عن بعض التفسيرات الدستورية استجابة للمعطيات التشريعية والتنفيذية من جهة والظروف السياسية بالدرجة الأساس، مثال ذلك التفسير الذي تبنته المحكمة الاتحادية العليا في العراق العام 2010، بتفسيرها للمادة (60) بخصوص اقتراح مشاريع القوانين من السلطات التنفيذية وتقديم مقترحات القوانين من عشرة من النواب أو إحدى لجان مجلس النواب المختصة حيث ورد في حكم المحكمة الاتحادية رقم (44/2010 في 12/7/2020) ان مشروعات القوانين تقدم من السلطة التنفيذية ويلزم ان تقدم من الجهات ذات الاختصاص…. بينما تراجعت المحكمة الاتحادية عن هذا الفهم للنص الدستوري في العديد من قراراتها منها القرار رقم (79/2013 في 23/10/2013) والذي انتهت فيه المحكمة إلى ان أي مشروع قانون يحمل الجنبة المالية لابد أن توافق عليه الحكومة، وما عدا ذلك فيمكن تشريعه ولو كان مجرد مقترح قانون أو مجرد فكرة كما عبرت عن ذلك المحكمة الاتحادية العليا.
رابط المصدر: