عادل رفيق
نشر مركز ويلسون الأمريكي بواشنطن العاصمة في 21 يونيو 2022 مقالاً لمارينا أوتاوي، الباحث الأول بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي سابقاً، والمهتمة بقضايا التحوُّل السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك تحت عنوان: “مصر وسحر القوة العسكرية”، خلصت فيه إلى أنه “على الرغم من أن مصر لم تتورط حتى الآن في مغامرات عسكرية كما فعلت أيام الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن المعدلات المرتفعة لشراء الأسلحة، بالإضافة للتحشيد العسكري الحالي، يمكن أن يكون له عواقب سياسية وخيمة قد تؤدي في نهاية الأمر إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة هي غير مستقرة من الأساس.” وقد جاء المقال على النحو التالي:
منذ الانقلاب العسكري بمصر عام 2013 الذي جاء بالجنرال عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، والبلاد تعكف على تعزيز بناء جيشها وشراء الأسلحة بمعدلات متزايدة ومن مصادر متنوعة.
يثير هوس الإنفاق العسكري هذا من جانب بلد يعاني من ركود اقتصادي ولا يواجه أي تهديدات أمنية خارجية رئيسية، العديد من الأسئلة:
- لماذا ا؟
- من هم الأعداء الذين تسعى الدولة لحماية نفسها منهم؟
- كيف تدفع الدولة ثمن مشتريات لا تظهر في ميزانية الدفاع الرسمية؟
وتشير الإجابات على كل هذه الأسئلة وأمثالها إلى دولة ذات شعور متضخم بالعظمة، حيث تخضع لهيمنة الجيش بشكل متزايد، وتبني ترسانة من الأسلحة لا علاقة لها البتة بالتحديات الأمنية الحقيقية للبلاد – أي التمرد المسلح الدائر في سيناء، وليس تهديداً عسكرياً من أعداء خارجيين أقوياء. ولذلك، يبرز هنا سؤال أخير يثير القلق، وهو ما إذا كان مثل هذا التعزيز للقوة العسكرية والذي لا يبدو مبرراً بأي تهديدات حقيقية حالياً، قد يدفع البلاد إلى تبني سياسات من شأنها تزيد من خطر نشوب حرب في المستقبل.
ويمكن تفسير تعزيز القوة العسكرية في مصر باعتبارات سياسية براجماتية، بالإضافة إلى أسباب أخرى أيديولوجية. فقد كان الجيش في قلب السياسة المصرية منذ عام 1952، بشكل علني أحياناً، وبشكل أكثر تخفياً وتحرزاً في أحيان أخرى. وقد جاء جميع رؤساء مصر (منذ انتهاء الملكية) من الجيش، باستثناء محمد مرسي، الذي حاء من الإخوان المسلمين حيث تم انتخابه في عام 2012 في الانتخابات الرئاسية التنافسية العادلة الوحيدة التي أجرتها مصر عبر تاريخها على الإطلاق، قبل أن يتم الإطاحة به في انقلاب عسكري (قاده الجنرال السيسي) بعد عام واحد من تولي مرسي السلطة. وعندما قاربت الثلاثة عقود التي قضاها حسني مبارك في الحكم على الانتهاء، كان الدور السياسي للجيش قد بدأ ينحسر في خلفية الأحداث، مما أثار تكهنات حول ما إذا كان قد تلاشى تماماً. ولكن الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في يناير عام2011 وضعت نهاية مفاجئة لمثل تلك التكهنات، حيث تدخل الجيش بشكل مباشر في الصراع السياسي الدائر آنذاك. وأجبر العسكر مبارك على الاستقالة، وتولوا حكم البلاد لمدة عام من خلال المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثم تظاهروا بالتنازل عن السلطة، عند انتخاب الرئيس محمد مرسي، قبل أن يقوموا بالإطاحة به في يوليو 2013.
واليوم، لا يوجد شيء يتم التكتم عليه أو الاحتراز منه بشأن الطابع العسكري للنظام. فالسيسي مدين بمنصبه الذي يشغله حالياً (على رأس السلطة) للجيش. وجولتا الانتخابات الرئاسية التي تم إجراؤهما بعد الانقلاب – على سبيل الأمر الواقع، دون منافسين – والتي استهدفت تثبيت أقدامه في سدة الحكم، كانت مجرد تجميل وخداع. ولذلك، فإذا انقلب الجيش على السيسي، فإن وضعه “الانتخابي” هذا لن يحميه. وبالتالي، فهو بحاجة إلى إبقاء الجيش راضياً عنه. أما عملية تحديث التسليح، والدور الرئيسي الذي يلعبه الجيش في الاقتصاد، وتعيين الضباط المتقاعدين في مناصب في الإدارات الحكومية، كلها جزء من آلية الدعم المتبادل بين الجيش ورأس الدولة. ولكن يكاد يكون من المستحيل على أي شخص من خارج المنظومة أن يعرف ما يحدث بالفعل داخل القوات المسلحة، سواء ما إذا كان للسيسي منافسين موثوقين، أو ما إذا كان الضباط الساخطون الذين يتطلعون إلى استبداله يتربصون له في مكان ما هناك. لكن من الواضح أن الرئيس الذي يأتي من الجيش ويعتمد عليه يجب أن يجعله راضيا عنه على طول الخط.
هناك أيضاً أسباب أيديولوجية لحمى التسليح والحشد العسكري. لذلك من المهم أن نفهم كيف تفضل مصر تصوير مكانتها في العالم، وما هو تصور السيسي للدولة المصرية. في الحقيقة، تعطينا ديباجة الدستور المصري لعام 2014 نظرة ثاقبة عما يفضل حكام مصر أن يروا مكانة بلادهم على مستوى العالم. ومن المعروف أنه لا يتقيد أحد بالتزام الدقة التاريخية إلى حد كبير في صياغة التمهيدات الدستورية، والتي غالباً ما تذخر دائماً بالخطاب البلاغي والمبالغات التعبيرية؛ لكن الوثيقة المصرية بهذا الخصوص في غاية التطرف بكل المقاييس. حيث تعلن الوثيقة الدستورية المصرية أن “مصر هبة النيل” – وهو خطاب قياسي – ولكنها تعلن أيضاً أن “مصر هبة المصريين للإنسانية”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن “مصر قلب العالم كله”. وبناء على ذلك، فإنه يجب أن تكون مثل هذه الدولة، بحكم هذا التعريف، قوية ونافذة.
وتعزز خطابات السيسي فكرة الدولة المصرية ككيان شبه ميتافيزيقي، شيء له واقع يتجاوز الخيارات العرَضية التي تتخذها حكومات أو أفراد معينون. حيث لا يوجد شيء اسمه نظام حاكم. إنما هناك ما يسمى بالدولة المصرية .. فالشعب المصري ينتخب رئيساً يكون قادراً على ضمان استقرار البلاد وليس نظاماً يتغير باستمرار. فهذا غير مقبول”. وعلى ذلك، فإن الدولة هي محور اهتمام السيسي وليس مواطنيها. وفي خطاب ألقاه في 26 أبريل 2020 بمناسبة الذكرى السنوية لعودة سيناء إلى مصر، أعلن السيسي أن الغاية الأسمى للدولة، هي المحافظة على بقائها، وحفظ الأمن والأمان لمواطنيها. حيث يأتي تعظيم السلطات الشاملة للدولة على رأس أولويات الدولة المصرية “. مثل هذه الأفكار تجعل تعزيز القوة العسكرية أمراً لا مفر منه.
العدو
تستنفذ كل من السياسة والأيديولوجيا كثيراً من الجهد في سبيل تفسير الأسباب التي دفعت السيسي والجيش للدخول في شراء هذا الكم الهائل من الأسلحة والمعدات العسكرية. فالتهديدات الأمنية التي تواجهها مصر لا تستلزم كل ذلك. ثم إن هذه التهديدات داخلية وليست خارجية. ولا يبدو حتى أن أنواع الأسلحة التي تحصل عليها الدولة مناسبة لمواجهة مثل هذه التحديات الداخلية، التي قد تؤثر على استقرار النظام ولكن ليس على بقاء الدولة. لقد خاضت مصر الحرب الأخيرة مع إسرائيل عام 1973 ولا يهددها أي من جيرانها الآخرين. وجميع القوى الإقليمية – تركيا وإيران والسعودية – لا تهدد الدولة المصرية بل تتنافس فقط على الهيمنة الإقليمية. قد تشكل الإمارات العربية المتحدة، بحكم اقتصادها الديناميكي وعلاقاتها المتنامية بإسرائيل، تحدياً يدفع مصر لضرورة الشعور بالتفوق، لكنها في نفس الوقت ليست عدواً. ومع أن القاهرة تعتبر إثيوبيا بمثابة تهديد لأمنها المائي لأنها تبني سدا ضخماً على النيل، إلا أن هذه أيضاً ليست مشكلة عسكرية.
في الحقيقة، هناك نوعان من المشاكل الداخلية التي تهدد الاستقرار الداخلي في مصر: أولهما، وجود جماعات إسلامية “متطرفة” مرتبطة بشكل غامض بتنظيم الدولة (داعش) في سيناء (والتي تُعتبر على الأقل مشكلة عسكرية ولو جزئياً)؛ وثانيهما، إمكانية اندلاع انتفاضات جديدة مثل تلك التي هزت البلاد في عام 2011، والتي لا يُعتبر الجيش القوي وسيلة للوقاية منها. ورغم حجم الجيش المصري الكبير، إلا إنه مثل كل الجيوش التقليدية يواجه صعوبة في محاربة التمرد المسلح، على شاكلة ذلك التمرد الدائر في سيناء. وكما تعلمت الولايات المتحدة بالطريقة الصعبة في أفغانستان، وفي وقت سابق في فيتنام، فإن التفوق العسكري لا يضاهي عدواً مصمماً ومراوغاً. وبالإضافة إلى ذلك، فلا يبدو أن لدى مصر استراتيجية لكسب القلوب والعقول، من أجل كسب سكان تلك المناطق النائية والمهملة. ومن المؤكد أن الطائرات المقاتلة وحاملات المروحيات التي تستوردها مصر لا يمكنها فعل الكثير ضد تلك المجموعات الصغيرة من المقاتلين الذين يوقعون الخسائر باستمرار بالقوات النظامية قبل أن يختفوا من جديد.
ليست سيناء هي المصدر الوحيد لعدم الاستقرار الداخلي في مصر. فلا تزال الظروف التي أدت إلى انتفاضة 2011 والإطاحة بمبارك والاضطرابات التي أعقبت ذلك قائمة بالفعل. ومعظم المشاريع الاقتصادية الضخمة التي يفخر بها السيسي، مثل توسعة قناة السويس وبناء العاصمة الإدارية الجديدة التي لم يتم تحديد اسمها بعد – في منتصف الطريق بين القاهرة والسويس – لا تعالج المشاكل الأساسية المتمثلة في الفقر والبطالة وسوء السكن والمستقبل القاتم للشباب. ومن المرجح أن يزداد معدل الفقر بشكل أكبر، لأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا تهدد بشكل مباشر إمدادات القمح في مصر. حيث تستورد الدولة أكثر من نصف احتياجاتها من القمح (حيث لا يُعلم على وجه الدقة كميات محددة، نظراً لتقلبها من عام إلى آخر، حسب الحصاد المحلي). ويأتي ٨٠% من القمح المستورد عادة من روسيا وأوكرانيا.
تراكم التسليح
لم تتغير ميزانية وزارة الدفاع المصرية كثيرا منذ استيلاء الجيش على السلطة. حيث تُظهر دراسة موثقة بطريقة جيدة أجراها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) في عام 2020 أنه، اعتماداً على وحدة القياس المستخدمة، زادت الميزانية بشكل طفيف أو حتى انخفضت – فخفض قيمة الجنيه المصري بنسبة 48% في عام 2016 يعقّد الحسابات من هذا القبيل. وإذا حسبنا ذلك بالدولار الأمريكي، فقد تقلصت الميزانية العسكرية الرسمية بشكل طفيف من 3.7 مليار دولار في العام المالي 2011-2012، قبل الانقلاب مباشرة، إلى 3.3 مليار دولار في عام 2019-2020. وإذا حسبناها بالجنيه المصري، فقد تقلصت الميزانية بنسبة 18% في تلك السنوات. وتشير أرقام الميزانية الرسمية أيضاً إلى أن مصر احتلت المرتبة الأخيرة بين دول الشرق الأوسط الاثني عشر من حيث العبء العسكري في عام 2019، أي إنفاقها العسكري كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، حيث خصصت فقط 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي للجيش، في حين كان متوسط نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يبلغ 4.4%.
أما على أرض الواقع، فقد زاد الإنفاق العسكري في مصر بشكل كبير بعد عام 2014، بالنظر إلى وجود جزء كبير من هذا الإنفاق خارج الميزانية العسكرية الرسمية، والتي تستثني رواتب القوات المسلحة وشراء السلع والخدمات. (بحسب دراسة SIPRI، ص 7)، كما أنها تستثني الإنفاق على قوات الأمن المركزي التي يشارك جزء منها في الحرب التي تدور رحاها ضد التمرد في سيناء. حيث تظهر تلك النفقات في موازنة وزارة الداخلية.
ولا تظهر مشتريات الأسلحة في ميزانية وزارة الدفاع المصرية أيضاً، ولكن هذا هو السبب وراء الزيادة الحادة في الإنفاق العسكري.
ففي خلال الفترة 2014-2019، بعد الانتخابات الرئاسية التي أوصلته بشكل رسمي إلى سدة الحكم، زادت مشتريات الأسلحة بسرعة وتنوعت كذلك مصادرها. وفي الفترة 2000-2009، جاء 75% من الأسلحة المستوردة من الولايات المتحدة، ولكن بين عامي 2010 و 2019، جاء 23% فقط من أمريكا، وأصبحت فرنسا وروسيا أكبر الموردين للأسلحة لمصر. فاشترت مصر طائرات مقاتلة من طراز رافال، وفرقاطة مسلحة بصواريخ مضادة للسفن، وحاملة مروحيات من فرنسا، واشترت طائرات مقاتلة من طراز (SU-35) مزودة بصواريخ جو – جو من روسيا. وفي عامي 2019 و 2020، قدّمت مصر طلبات للحصول على أنظمة أسلحة متطورة إضافية بقيمة 15 مليار دولار من روسيا وألمانيا وإيطاليا، مع التخطيط للحصول على المزيد. وبين عامي 2015 و 2019، أصبحت مصر ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم، والثاني بعد المملكة العربية السعودية على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الاقتصاد العسكري
لا يتم تفسير تمويلات هذه المشتريات من خلال ميزانية الدفاع، حيث يكون تحديد مصدر هذه الأموال أمر في غاية الصعوبة. ويشير معهد (SIPRI) إلى أن بعض النفقات العسكرية مدرجة في موازنات الوزارات الأخرى ولكن هذا ليس التفسير الكامل للأمر. حيث تكون الأموال التي يكسبها الجيش من خلال أنشطته الاقتصادية أساسية في ذلك، ولكن للأسف يصعب توثيقها.
ما يشار إليه عموماً باسم “الاقتصاد العسكري” كان موضوعاً للكثير من التكهنات، ولكن أيضا لبعض التحقيقات الجادة التي تساعد في توضيح المسألة بقدر استطاعة عناصر من خارج المؤسسة العسكرية القيام به. ولذلك، سأعتمد بشدة على دراسة قام بها يزيد صايغ من مركز كارنيجي للشرق الأوسط في بيروت.
حيث بدأ الاقتصاد العسكري في التطور في عهد عبد الناصر، عندما بدأ الجيش في إنشاء شركات لتوفير الطعام والتجهيزات اللازمة لقواته، وانتقل بعد ذلك من هذا الموضع إلى الإنتاج من أجل الدخول للسوق المدني. على الرغم من الإصلاحات التي تم إدخالها في أوقات مختلفة للحد من ذلك، استمر الاقتصاد العسكري في النمو والتطور في اتجاهات جديدة.
يتكون أحد مكونات الاقتصاد العسكري من الشركات التي يمتلكها الجيش بشكل كامل. حيث تشارك وزارة الإنتاج الحربي في عدد كبير من الأنشطة التي تبدو شبه عشوائية بالنسبة للمراقبين، على الرغم من أن العامل الذي يجمع بينها هو على الأرجح كونها امتداد للأنشطة التي بدأها الجيش لنفسه من البداية. فعلى سبيل المثال، يشارك الجيش في إنتاج الأغذية وتوزيعها: فهو يخبز الخبز، وينتج البيض ومنتجات الألبان، ويدير محلات الجزارة والسوبر ماركتات. كما أن لديه محطات وقود وإصلاح إطارات السيارات. وتُنتج شركات الجيش الغسالات والمياه المعبأة والمكرونة كذلك. هذه هي الأنشطة التي يذكرها المصريون عادة عند سؤالهم عن الاقتصاد العسكري، لأنها مرئية وتؤثر على المستهلكين بشكل مباشر. وهناك الكثير من الجدل حول حجم هذا الجزء من الاقتصاد العسكري. فبعض التقديرات تشير إلى ارتفاعها إلى نسبة 50% من الاقتصاد الوطني، وهي بالتأكيد نسبة مبالغ فيها بشكل فج. حيث أكد السيسي مراراً أن النسبة لا تتجاوز 2%، وهي بالتأكيد أقل أيضاً من قيمتها الحقيقية. ومهما كان الرقم الصحيح، فإن القوة الحقيقية للاقتصاد العسكري ليست في إنتاج مثل هذه السلع والخدمات.
فهناك نوعان آخران من الأنشطة يمثلان الثروة المستقلة للجيش. أولهما، هو السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي التي مُنحت للجيش بدعوى “أسباب أمنية”. وأصبحت بعض هذه الأراضي ذات قيمة عالية، لا سيما تلك التي تقع بالقرب من المدن والطرق الرئيسية الجديدة، حيث يتم بيعها أو تأجيرها للشركات. إن الأميال التي لا نهاية لها من الجدران والأسوار المحيطة بالمساحات الصحراوية الفارغة والتي تحير المسافرين في مصر هي مظهر من مظاهر هذه السيطرة، والشركات الجديدة التي تظهر من حين لآخر هي الدليل على أن مثل هذه المساحات الفارغة يمكن أن تصبح ذات قيمة عالية. والنشاط الثاني الذي يدر على الجيش إيرادات كبيرة، لا سيما منذ وصول السيسي إلى السلطة، هو العقود التي يتلقاها من الحكومة لإدارة المشاريع الضخمة. فالسيسي يثق بالجيش ويؤمن بكفاءته وخبرته. وهكذا فق تم تكليف الجيش، على سبيل المثال لا الحصر، بمهام توسيع قناة السويس وبناء العاصمة الإدارية الجديدة. وفي مثل هذه المشاريع، يعمل الجيش كمقاول عام، بينما يقوم بالتعاقد من الباطن على العديد من المهام مع القطاع الخاص المصري أو حتى مع الشركات الأجنبية، عندما يحتاج إلى الخبرة والموارد التي لا يمكنه حشدها محلياً بالسرعة الكافية لتلبية الجدول الزمني للحكومة.
أما بخصوص مصير العائدات التي تعود على الجيش من مثل هذه الأنشطة، فهو سؤال حاول العديد من المحللين الإجابة عليه، ولكن لم يتمكن أحد منهم من الإجابة عليه بشكل مُرضٍ. إنه بالتأكيد جزء من الآليات التي تُبقي الجيش راضياً عن رأس لسلطة وبالتالي تعزز الدعم المقدم للسيسي ؛ وربما يكون أيضاً مصدر تمويل للمشتريات العسكرية التي لا تدخل في الميزانية الرسمية.
تأثير سياسة التعزيز العسكري
لقد شرعت مصر التي يهيمن عليها الجيش في عملية تحديث وتدعيم عسكري تبدو مبالغاً فيها ومضللة فيما يتعلق بالتهديدات الأمنية الداخلية التي تواجهها البلاد في أغلب الأمر. وقد أصبح هذا التعزيز العسكري ممكناً جزئياً من خلال الأنشطة الاقتصادية للجيش، وهو بدوره يزيد من قوته وسيطرته على البلاد. وإحدى هذه النتائج جلية بالفعل: فكما كان الحال في المشاريع الضخمة الأخرى التي نفذها نظام السيسي، فإن شراء أنظمة الأسلحة التي تبدو غير مرتبطة باحتياجات الأمن الحقيقية يلتهم الأموال التي تحتاجها البلاد لتطوير اقتصادها المدني وتحسين مستوى معيشة سكانها – فالإنفاق على واردات الأسلحة ليس هو المَدّ الذي يمكنه تحريك كل القوارب.
فبالإضافة إلى التكلفة الزائدة لتسريع تلك المشتريات العسكرية، فقد تظهر مشكلة أخرى في المستقبل، وهي احتمال أن يدفع الجيش الواثق من قوته الدولة إلى اتباع سياسات تتطلب الانتشار والانخراط في صراعات خارج حدود مصر.
وحتى الآن، اقتصرت مثل هذه التدخلات على توجيه الضربات الجوية. حيث قصفت مصر منشآت قالت إنها تتبع تنظيم الدولة (داعش) في ليبيا عدة مرات بين عامي 2015 و 2018 انتقاما لهجمات ضد الأقباط المصريين في صعيد مصر. وفي عام 2020، هددت مصر بإرسال قوات برية لدعم الجنرال خليفة حفتر، الذي كان متورطاً في صراع مع الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس. حيث شن الجنرال حفتر، المتمركز في شرق ليبيا بالقرب من الحدود المصرية، هجوماً مرة أخرى على الحكومة في طرابلس، على أمل الإطاحة بها. ورغم فشل تلك الجهود، إلا أن حفتر تمكن من احتلال عدة بلدات في الغرب. وحينها طلبت الحكومة الشرعية دعم تركيا، والتي استجابت لذلك وساعدت طرابلس على استعادة السيطرة على تلك البلدات المحتلة. ثم طلب حفتر مساعدة مصر، لكن على الرغم من الرد الإيجابي من قبل البرلمان المصري والسيسي نفسه، لم يتم نشر أي قوات مصرية هناك. وفي نهاية الأمر، اقتصر التدخل المصري على الضربات الجوية كما كان الحال في الماضي.
وقد أبدت مصر نفْس ضبط النّفس فيما يخص الصراع في اليمن. ولكن تحت ضغط من كل من السعودية والإمارات لإرسال قوات لمساعدة حكومة عبد ربه منصور هادي ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، وافق السيسي في عام 2015، من حيث المبدأ، على المشاركة في هذه الجهود. ولكنه من الناحية العملية، رفض إرسال قوات برية إلى هناك، ونفذ بدلاً من ذلك بضع ضربات قصف وأرسل أربع سفن حربية لاستعراض القوة في مضيق باب المندب.
لم يتغلب الطموح إلى البروز كقوة إقليمية حتى الآن على ذلك التردد في الانخراط بعمق في العمليات التي لا تنطوي على مصالح مصرية كبرى.
ومع ذلك، لا يمكن استبعاد احتمال إغراء مصر بالتدخل عسكرياً خارج حدودها. فالصراع في ليبيا لم ينته بعد، على الرغم من الجهود الدولية المستمرة. وإلى الجنوب من مصر، حيث تبدو الأوضاع في السودان، والذي تعتبره مصر جزءاً من منطقة نفوذها منذ أيام الحكم الأنجلو-مصري المشترك (1899-1956) غير مستقرة، حيث يخوض صراعاً بين المنظمات المدنية والجيش، الذي تريد مصر أن يظل مسيطراً على الأوضاع هناك. وهناك تهديد مماثل، وإن كان أقل جدوى، وهو العمل العسكري ضد إثيوبيا، التي تبني سداً على النيل الأبيض تقول مصر إنه ينتهك حقوقها المائية وأمنها القومي. حيث سيكون القيام بأي عمل عسكري بعيداً عن الحدود المصرية صعباً من الناحية اللوجستية، وستهدد المياه من خزان السد الإثيوبي، المملوء جزئياً، السودان إذا تم قصف السد. ومع ذلك، فإن مشتريات مصر الكبيرة الأخيرة من الطائرات المقاتلة من فرنسا وروسيا تعطي درجة من المصداقية لدق طبول الحرب.
لم تدخل مصر حتى الآن في مغامرات عسكرية كما فعلت في عهد عبد الناصر. ومع ذلك، فلا يوجد أدنى شك في أن الحشد والتعزيز العسكري الحالي قد يكون له عواقب سياسية يمكن أن تزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة غير مستقرة من الأساس.
.
رابط المصدر: