أورسولا فون ديرلاين … سيدة أوروبا القوية

هي رئيسة المفوضية الأوروبية ووزيرة سابقة للدفاع في ألمانيا، ولها اسم رنان لدى الكثيرين، ولكن من هي أورسولا فون ديرلاين؟

حتى عندما نعتقد أننا نعرف السياسيين حق المعرفة، فإننا نكون غالبا تحت تأثير سحر المعجبين بهم أو منتقديهم، أما حقيقة الأمر فلا توجد سبيل لمعرفة الكثير عنهم، وإن كنا نفترض أنهم هم أنفسهم يعرفون من هم.

أورسولا فون ديرلاين (65 عاما) شخصية سياسية معروفة تسعى حاليا لإعادة انتخابها رئيسة للمفوضية الأوروبية، ولكن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أوروبا شهدت تحولا كبيرا نحو اليمين، ومن الممكن أن يتسبب هذا التحول السياسي في شعورها بعدم اليقين.

كجزء من حملتها، شاركت فون ديرلاين في أنشطة مختلفة، وفقا لما نشرته صحيفة “الغارديان” في 3 يونيو/حزيران. فتفقدت مصنعا للطائرات دون طيار في لاتفيا، ووضعت الزهور على نصب تذكاري للبابا يوحنا بولس الثاني في بولندا، بل إنها التقطت صورا لها مع كلب في لوكسمبورغ.

من كوبنهاغن إلى سبليت، ومن ماستريخت إلى بلوفديف، كانت فون ديرلاين تطوف أوروبا لتلقي الخطب وتصافح الناس وتوقع على القمصان، وتلتقط صور سيلفي، وأطلقت مقطع فيديو لنفسها وهي تسير بالقرب من منزلها الريفي على أنغام موسيقى الأوركسترا الدرامية.

خط سير الرحلة هذا ينافس خط سير أي زعيم حزب في بريطانيا الحبيبة. ومع ذلك، لا يملك أي من الأشخاص الذين تسحرهم على طول الطريق القدرة على التصويت لصالح فون ديرلاين، تماما كما لا يستطيع البريطانيون، حتى لو رغبوا في ذلك.

إن إعادة انتخابها رئيسة للمفوضية الأوروبية في المقام الأول رهن بما يريده القادة السياسيون في الاتحاد الأوروبي. وهناك شخصيتان مؤثرتان في هذه العملية هما جورجيا ميلوني، أول رئيسة وزراء لإيطاليا وزعيمة الحزب اليميني “إخوة إيطاليا”، وبيتر فيالا، رئيس وزراء التشيك، حيث يمكن أن يؤثر دعمهما أو معارضتهما بشكل كبير على ما إذا كانت فون ديرلاين ستؤمّن فترة ولاية أخرى.

عن جيورجيا ميلوني

ربما يكون كسالى المحللين قد قللوا في البداية من أهمية جورجيا ميلوني، باعتبارها مجرد شخصية رمزية ذات تأثير ضئيل في الواقع. ولكنهم كانوا مخطئين، فقد أثبتت خطأهم من خلال إظهار القيادة القوية والدهاء السياسي. واليوم تؤكد ميلوني نفسها كواحدة من أكثر السياسيين نفوذا في القارة.

تجسد ميلوني التحول نحو اليمين في السياسة الأوروبية وقد أصبحت رقما صعبا في تشكيل أجندة الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة والمناخ، وأظهرت موهبة في إدارة الشخصيات السياسية الصعبة، مثل فيكتور أوربان في المجر.

حاليا، تتنقل ميلوني أيضا في علاقتها مع أورسولا فون ديرلاين، التي يمكن القول إنها أقوى امرأة في أوروبا. ومع ذلك، فإن شراكتهم ليست مناسبة طبيعية.

 

تجسد ميلوني التحول نحو اليمين في السياسة الأوروبية وقد أصبحت رقما صعبا في تشكيل أجندة الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة والمناخ

 

 

تعود جذور ميلوني السياسية إلى الفاشية الجديدة، وهي تحمل وجهات نظر يمينية متشددة بشأن الهجرة والقيم العائلية. في المقابل، تنحدر فون ديرلاين من يمين الوسط في السياسة الألمانية وتتبنى وجهات نظر ليبرالية حول هذه القضايا.

بالإضافة إلى ذلك، تعتبر فون ديرلاين من المؤيدين المتحمسين للاتحاد الأوروبي. وفي مقابلة عام 2011 مع مجلة “دير شبيغل”، أعربت عن رؤيتها لـ”ولايات متحدة أوروبية” ذات نظام ضريبي موحد وسياسة خارجية وقوات مسلحة. من ناحية أخرى، تعتبر ميلوني قومية مخلصة.

ولعل التيارات اليمينية قد فقدت حماسها لمغادرة الاتحاد الأوروبي بعد أن رأت الفوضى التي عمت بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذا النوع من الفيدرالية الأوروبية يجعل أي قومي يشعر بالقلق.

تحرص فون ديرلاين على وجود ميلوني إلى جانبها. وفي مارس/آذار، ذكرت صحيفة “بوليتيكو” أنها زارت روما مرتين في عام 2023 ومرة أخرى في أوائل عام 2024، كما زارت “إميليا رومانيا” مرتين، ولامبيدوزا مرة واحدة، والأخيرة نقطة ساخنة للمهاجرين الذين يصلون بالقوارب. وأجرت المسؤولتان عدة لقاءات فردية على هامش المؤتمرات الدولية.

 

أ ف ب  أ ف ب

المستشار الالماني اولاف شولتز ورئيسة المفوضية الاوروبية أورسولا فان ديرلاين ورئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني اثناء قمة الدول الصناعية السبع الكبرى في جنوب ايطاليا في 13 يونيو 

ما الذي يمكن أن يبرر كل هذه الرحلات واللقاءات؟ قد يكمن الأمر في تلك الجاذبية نفسها التي أسرت ذات يوم مواطنها، يوهان فولفغانغ فون غوته، حين انطلق الكاتب الألماني الشهير في رحلة عبر إيطاليا لمدة عامين من عام 1786 إلى عام 1788. وقد ألهمته هذه الرحلة بعمق وأسفرت عن نشر مجلته “الرحلة الإيطالية.” لكن “بوليتيكو” ألمحت إلى شيء أكثر عملية، فقالت إن “ميلوني أمر لا مفر منه إذا أرادت فون ديرلاين التأكد من حصولها على أغلبية مؤهلة في المجلس”.

 

إيجاد طريقة للعمل

وقد تدين صداقتهما بشكل ما لسحر ميلوني، التي يقال إنها نجحت في كسب إعجاب نظرائها الدوليين من خلال تقديم الكعك لهم، وهي لفتة حظيت بتقدير خاص من قبل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي يحب الحلويات كثيرا.

ومع ذلك، ليس الجميع معجبا بها، فخلال مؤتمر عبر الفيديو، سألت مارين لوبان، زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف في فرنسا، جورجيا ميلوني بشكل مباشر: “هل ستدعمين فون ديرلاين لولاية ثانية أم لا؟”… ثم أجابت على سؤالها بنفسها، وقد بدا عليها الاضطراب بشكل واضح، قائلة: “أعتقد ذلك”، وبالتالي فإنك ستساهمين في تفاقم السياسات التي يعاني منها شعب أوروبا كثيرا مفاقمة كبيرة”.

 

تحرص فون ديرلاين على وجود ميلوني إلى جانبها. وفي مارس/آذار، ذكرت صحيفة “بوليتيكو” أنها زارت روما مرتين في عام 2023 ومرة أخرى في أوائل عام 2024

 

 

إن صعود لوبان– التي ربما تكون رئيسة فرنسا المقبلة– في أوروبا، والذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة في الداخل، يسلط الضوء على السبب وراء رحلة فون ديرلاين الإيطالية: ميزان القوى في أوروبا يتحول نحو اليمين. ولتأمين فترة ولاية أخرى مدتها خمس سنوات، ستحتاج فون ديرلاين إلى الفوز بتأييد القادة السياسيين في الاتحاد الأوروبي وبرلمانه، الذي ازداد نفوذ اليمين فيه أكثر من أي وقت مضى.

في مناظرة تلفزيونية يوم 23 مايو/أيار، سُئلت فون ديرلاين عن الأحزاب اليمينية التي قد تعمل معها وتلك التي لن تعمل معها، فحددت في جوابها ثلاثة معايير: يجب أن يكونوا مؤيدين لأوروبا، ومؤيدين لأوكرانيا، ومؤيدين لسيادة القانون.

ثم سُئلت عما إذا كانت ميلوني تستوفي تلك المعايير، فردت فون ديرلاين إنها “كانت تعمل بشكل جيد للغاية مع جورجيا ميلوني في المجلس الأوروبي”، مضيفة أنه “من الواضح أنها مؤيدة لأوروبا، وضد بوتين– لقد كانت واضحة جدا في هذا الشأن– ومؤيدة لسيادة القانون… فإذا استمر موقفها هذا، فإننا نعرض العمل معا”.

ولكن فون ديرلاين كانت واضحة في أن قدرتها على العمل مع ميلوني لا تترجم بالضرورة إلى قدرتها على العمل مع كتلة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين الأوسع التي تنتمي إليها ميلوني.

أكثر من مجرد وظيفة

وبعد أن ترأست المفوضية منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، باتت فون ديرلاين تتمتع بخبرة كبيرة في المشهد السياسي وقد أعربت عن مخاوفها بشأن نوايا اليمين المتشدد في “الدوس على قيمنا وتدمير أوروبا”. من الواضح أنها ليست من المعجبين بمارين لوبان.

وهذا بالنسبة لفون ديرلاين أمر شخصي، فهي غالبا ما تحدثت عن ذكريات والدها عن الدمار الذي أعقب الحرب العالمية الثانية وكيف نشأت في بلجيكا مع أشقائها الستة، وكان والدها يذكرهم بأن “أوروبا ثمينة للغاية” ويوصيهم بـ”الاعتناء بها، لأنها كل ما لدينا”. كان والدها أحد الموظفين المدنيين المؤسسين للجماعة الأوروبية وأصبح فيما بعد سياسياً ألمانياً. واليوم، تشارك فون ديرلاين هذه المشاعر نفسها مع أطفالها السبعة.

 

رويترز رويترز

رئيسة وزراء الدنمارك ميتي فريدريكسن، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والمستشار الألماني أولاف شولتس يحضرون قمة بحر الشمال في أوستند، في 24 أبريل 2023 

وبينما هي تسعى للحصول على فترة ولاية ثانية، فإنها تواجه اضطرابا جديدا في أوروبا وتصر على ضرورة توخي اليقظة ضد التهديدات التي تتعرض لها الديمقراطية، وخاصة من “أصدقاء” فلاديمير بوتين في أوروبا. وحذرت قائلة: “إنهم ينشرون الكراهية من وراء لوحات المفاتيح الخاصة بهم. دعونا لا نقلل من أهمية ما هو على المحك”.

تتقن فون ديرلاين اللغتين الألمانية والفرنسية، وقد تعلمت اللغة الإنجليزية أثناء إقامتها في لندن وكاليفورنيا. لقد انتقلت من الطب إلى السياسة بثقة وسهولة، وظلت تساند المستشارة أنغيلا ميركل لمدة 16 عاما. وكانت السياسية الوحيدة التي شغلت منصبا وزاربا طوال فترة ولاية ميركل، وأصبحت في النهاية أول وزيرة دفاع في ألمانيا.

كانت فون ديرلاين إحدى المرشحات لخلافة ميركل وطرح اسمها كأمين عام محتمل لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووصفها مايكل فالون، وزير الدفاع البريطاني السابق، في عام 2019 بأنها “نجمة الوجود” في التحالف عبر الأطلسي.

وقد تمت الإشادة بها أيضا لتعاملها مع الأزمات الكبرى خلال فترة ولايتها: جائحة “كوفيد-19” والغزو الروسي لأوكرانيا.

ولكن لا صفقة بعد

لقد برزت في الآونة الأخيرة موجة من القلق المتزايد، وخاصة عندما دعمت فون ديرلاين إسرائيل دعما غير محدود خلال الصراع في غزة. واتهمها منتقدوها بالتجاوز وتجاهل جرائم الحرب من الجانبين.

بالإضافة إلى ذلك، فقد واجهت انتقادات بسبب المحسوبية المزعومة والميل الملحوظ إلى التصرف بفردية والافتقار إلى الشفافية. ورغم أن هذه القضايا قد لا تتهي مسيرتها المهنية، فإنها دفعتها إلى الانخراط في الجهود الدبلوماسية لتعزيز الدعم.

 

برزت في الآونة الأخيرة موجة من القلق المتزايد، وخاصة عندما دعمت فون ديرلاين إسرائيل دعما غير محدود خلال الصراع في غزة

 

 

ولتأمين فترة ولاية ثانية، يجب على فون ديرلاين التغلب على هذه التحديات والحصول على موافقة البرلمان الأوروبي، الأمر الذي يتطلب تصويت الأغلبية البسيطة من أعضائه المنتخبين حديثا البالغ عددهم 720 عضوا.

ولم يحدد بعد موعد انتخاب الرئيس الجديد للمفوضية الأوروبية، ولكن المتوقع أن يتم في 18 يوليو/تموز، خلال الأسبوع الأول من انعقاد البرلمان الجديد. ومن المتوقع أن يكون زعماء الاتحاد الأوروبي قد قاموا بتسمية مرشح في نهاية يونيو/حزيران، وينتظر المطلعون على البرلمان هذا الترشيح الرسمي قبل تحديد موعد للتصويت.

اتسمت حياة فون ديرلاين في شبابها بالإثارة والمخاطرة. بسبب أنشطة والدها السياسية، وكانت مهددة بخطر الاختطاف من فصيل الجيش الأحمر فأُرسلت إلى كلية لندن للاقتصاد تحت اسم مستعار. وهي تتذكر الفترة التي قضتها في لندن باعتبارها فترة من الحرية واكتشاف الذات، وبقيت تلك التجربة معها حتى يومنا هذا.

والآن، بينما تبحر فون ديرلاين في تعقيدات سياسة الاتحاد الأوروبي، يبقى أن نرى ما إذا كانت ستتمكن من الاحتفاظ بهذا الشعور بالحرية الداخلية في فترة ولاية ثانية مرغوبة.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321181/%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%8A%D9%84/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84%D8%A7-%D9%81%D9%88%D9%86-%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D9%84%D8%A7%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%8A%D8%A9

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M