تثبت التطورات الدراماتيكية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط أهمية دور مصر في تحقيق الاستقرار والأمن في حوض البحر المتوسط، وهو ما ينعكس إيجاباً على حجم الشراكة بينها وبين الاتحاد الأوروبي. وقد تجلى ذلك في التعهدات الأخيرة التي وردت في اتفاقات أُبرِمت في مؤتمر الاستثمار المصري الأوروبي الذي عُقِد نهاية يونيو/حزيران 2024، حيث تجاوز حجم التعهدات والاتفاقات المعلنة حاجز الـ 73 مليار دولار كاستثمارات مشتركة في مشاريع مختلفة يستفيد الاتحاد الأوروبي من إقامتها في مصر وفق تصريحات رئيس الحكومة المصرية الدكتور مصطفي مدبولي.
تأتي هذه التعهدات عقب المتغيرات الجديدة على الساحة السياسية في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما الشعور بالأزمة الاقتصادية الشديدة التي تمر بها مصر، بالإضافة إلى التخوف من تداعيات الصراعات المتفاقمة في دول الجوار.
وتزداد الشواغل الأوروبية من عودة تدفقات الهجرة غير النظامية من كل من ليبيا، والسودان، وغزة، وسوريا، واليمن، مما يشكل ضغطاً كبيراً على مصر قد لا تستطيع تحمله بمفردها، وهو ما يقلق الاتحاد الأوروبي.
لولا تحوطات مصر الحدودية ومكافحتها لقوارب المتسللين عبر سواحل البحر المتوسط، ربما تكبد الاتحاد الأوروبي ثمناً كبيراً بسبب الأزمات الملتهبة في دول الجوار
الهجرة ومناهضة الارهاب
تُعتبَر مصر من أهم الدول في نظر الاتحاد الأوروبي، باعتبارها صمام أمان في مواجهة النزاعات المشتعلة في المنطقة والأخطار التي تحيط بها من كل حدب وصوب. ولولا تحوطات مصر الحدودية ومكافحتها لقوارب المتسللين عبر سواحل البحر المتوسط، لربما تكبد الاتحاد الأوروبي ثمناً كبيراً بسبب الأزمات الملتهبة في دول الجوار، والتي ألقت بظلالها الكثيفة على مصر.
.أ.ف.ب
رئيسة المفوضية الأوروبية أرسولا فون دير لاين، ترحب برئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي لدى وصوله الى منتدى الاتحاد الأوروبي حول مبادرة الاسثمار في البوابة العالمية في مقر الاتحاد.
في خطوة غير مسبوقة، سارع الاتحاد الأوروبي إلى رفع مستوى العلاقات مع مصر إلى الشراكة الاستراتيجية. وأقر مجلس الاتحاد الاوروبي فجأة في مارس/آذار المنصرم حزمة تمويل قيمتها 8.06 مليارات دولار على مدى أربعة أعوام، تتضمن قروضا واستثمارات وتعاونا في ملفي الهجرة ومناهضة الارهاب، وقبل انتخابات البرلمان الأوروبي التي حقق فيها اليمين المتشدد فوزاً غير متوقع. لدعم استقرار اقتصادها، وتجنباً لتكرار الورقة التي كان يتلاعب بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتهديد أوروبا بأزمة الهجرة غير الشرعية.
الاستشعار الأوروبي بأهمية استقرار مصر
واستشعر الاتحاد الأوروبي وتحسس الخطر المحدق بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر، وضرورة الحفاظ على استقرارها بعدم التخلي عنها. لذلك، اتجه الأوروبيون إلى التعهد بمشاريع استثمارية مشتركة في قطاعات مختلفة في مصر مثل الهيدروجين الأخضر، والرقائق، والحوسبة السحابية. هذه المشاريع، على رغم أنها جديدة على السوق المصرية، تُعَد قديمة في السوق الأوروبية، بدلاً من تقديم أموال سائلة أو قروض، لشعورهم بفجوة في إدارة الملف الاقتصادي المصري، ويُعتبَر هذا نوعاً من المساهمة المباشرة.
اتجه الأوروبيون إلى التعهد بمشاريع استثمارية مشتركة في قطاعات مختلفة في مصر مثل الهيدروجين الأخضر، والرقائق، والحوسبة السحابية
ويذكر ان مؤتمر الاستثمار المصري الاوروبي افتتحه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في حضور العديد من الشخصيات المؤثره في اقتصادات تلك الدول، وممثلين لألف شركة ومؤسسة من مختلف دول القارة. وأبرم 35 اتفاقا ومذكرات تفاهم وقدرت العقود الاستثمارية خلال 29/30 يونيو/حزيران الفائت بقيمة 67.7 مليار يورو مع شركات أوروبية ومؤسسات تخدم العلاقات مع القاهرة. قد تكون تمويلاً لتحوطاتها الحدودية ومكافحتها لقوارب المتسللين، حيث أكدت فون دير لاين أن أمن مصر هو من أمن الاتحاد الأوروبي.
تخوف الشارع المصري من الربط السياسي
في الشارع المصري، سيطرت حال من عدم اليقين في شأن ما يحمله الاتحاد الأوروبي إلى القاهرة، مع تخوفات أن يكون التمويل مرتبطاً بملفات لا تستطيع مصر التعامل معها، وأبرزها القضية الفلسطينية، في ضوء التقارير عن محاولة إسرائيل تهجير الفلسطينيين وتوطينهم في مصر. وبرزت هذه التخوفات خلال مؤتمر الاستثمار المصري الأوروبي وبعده، بينما رأى البعض أن هذه الاستثمارات تهدف إلى تعزيز التعاون في مجال الهجرة.
ويعتقد خبراء سياسيون واقتصاديون أن تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين دول الاتحاد الأوروبي وشركائها في الجوار الجنوبي، بما في ذلك مصر، يهدف إلى التوصل إلى أجندة مشتركة لمواجهة التحديات المشتركة. لذلك لجأ الاتحاد الأوروبي إلى عقد شراكات مع مصر نظراً إلى الفرص الاستثمارية الحالية فيها، إضافة إلى كونها سوقاً واعدة بسبب التكتل السكاني وقدرتها على النفاذ إلى أفريقيا، وكذلك تعاونها مع العديد من الدول العربية والخليجية. لكن هناك من يرى أن هذه التعهدات الأوروبية قد تشكل أعباء تمويلية لمصر، وربما تتضمن اشتراطات وإصلاحات اقتصادية مجحفة كتلك التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، مما يزيد الضغط على موازنة البلاد.
لم يعوّل المصريون كثيراً على نتائج هذا المؤتمر، مع تهاوي الآمال والطموحات في خروج البلاد من عنق الزجاجة بسبب الزيادات المستمرة في الأسعار والخدمات ولا سيما المحروقات
لذلك، لم يعوّل المصريون كثيراً على نتائج هذا المؤتمر، مع تهاوي الآمال والطموحات في خروج البلاد من عنق الزجاجة بسبب الزيادات المستمرة في الأسعار والخدمات ولا سيما المحروقات.
رفع أسعار المحروقات
يذكر أنه اعتبارا من صباح 24 يوليو/تموز رفعت أسعار المحروقات على النحو الآتي:
زيادة اسعار البنزين بأنواعه والسولار والمازوت الصناعي لتكون كالتالي: البنزين 95 أوكتان ارتفع الى 15 جنيها لليتر، البنزين 92 أوكتان الى 13.75 جنيها لليتر، البنزين 80 أوكتان 12.25 جنيها. ليتر السولار 11.50جنيها والكيروسين 11.50 جنيها لليتر والمازوت المورد لباقي الصناعات سعر طن المازوت 8500 جنيه/ طن مع تثبيت المازوت المورد للكهرباء والصناعة. ويُعَد الاتحاد الأوروبي الشريك الأبرز لمصر على صعيد حجم التجارة، وثاني أكبر متلقٍ للاستثمار الأجنبي المباشر من الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفق بيانات الاتحاد الأوروبي.
وبالتزامن مع هذه الزيادات، يفترض أن يقر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، الذي ينعقد غدا الاثنين، في 29 يوليو/تموز ، صرف الشريحة الثالثة والبالغة 820 مليون دولار، ما أصل القرض المقرر لمصر والبالغ 8 مليارات دولار، كما افادت فلادكوفا هولار، رئيسة بعثة الصندوق في القاهرة.
وتجاوز حجم التجارة الإجمالي بين مصر والاتحاد الأوروبي 37 مليار يورو عام 2022. وبلغت الصادرات المصرية إلى الاتحاد الأوروبي 16.3 مليار يورو، مسجلة زيادة سنوية قدرها 79 في المئة مقارنة بعام 2021، بينما بلغت الواردات المصرية من الاتحاد الأوروبي 20.8 مليار يورو. يُذكر أن صادرات مصر غير النفطية إلى الاتحاد الأوروبي تجاوزت 9.3 مليار يورو عام 2022.
في السياق، اعتبر خبير الاقتصاد الرقمي الدكتور عبد الرحمن طه أن التوجه الأوروبي تجاه مصر يجب أن يُنظَر إليه من منظور الثورة الصناعية الرابعة. وقال لـ”المجلة”: “إن القارة الأوروبية، بقيادة ألمانيا رائدة الثورة الصناعية الرابعة، لم تتوجه إلى مصر فقط، بل إلى القارات كلها من خلال بواباتها الإقليمية. مثلاً، تُعَد مصر البوابة الإقليمية للقارة الأفريقية، وكرواتيا بوابة اقتصاد دول غرب البلقان وآسيا الوسطى، وتشيلي بوابة أميركا اللاتينية”. وأشار إلى “أن التوسع الإقليمي للاستثمار الرقمي المستدام خارج القارة الأوروبية يساعد أوروبا في تفادي الآثار الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، كما يعزز موقف الاتحاد الأوروبي في مجال الإنتاج الرقمي أمام الولايات المتحدة، الصين، اليابان، وكوريا الجنوبية، التي تُعَد أبرز المنافسين في نطاق الثورة الصناعية الرابعة”. وأكد أن “هذا التوجه يمثل خطوة تنافسية مهمة أمام طريق الحرير التجاري التقليدي والرقمي الصيني”.
إن مساندة الأوروبيين لمصر تأتي من تخوف دول الاتحاد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، سواء من حدودها الروسية إلى حدودها المتوسطية
عالية المهدي، عميدة سابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة
الخوف من الهجرة… و”الأخوان”
وعن أثر الانتخابات الأوروبية على المشاريع في مصر في ظل انحسار اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة في كل من المملكة المتحدة وفرنسا، أشار رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والأمن القومي الدكتور سمير غطاس، إلى “أن مصر تراقب عن كثب التطورات في المملكة المتحدة، أكثر من فرنسا، نظراً إلى أن بريطانيا مقر لجماعة الإخوان المسلمين. وآثار أي تطورات قد تنعكس على مصر”.
من جانبها، أشارت الدكتورة عالية المهدي، العميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، إلى أن مساندة الأوروبيين لمصر “تأتي من تخوفات دول الاتحاد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، والتي تحيطها التوترات من كل جانب، سواء من حدودها الروسية إلى حدودها المتوسطية”.
وأشارت في حديثها إلى “المجلة” إلى أن الأرقام والمشاريع التي أُعلِنت في مؤتمر الاستثمار المصري الأوروبي لم تخرج عن كونها تعهدات ومذكرات تفاهم، و”أن علينا الانتظار لرؤية ما سينفذ فعلا “، مشيرة إلى أن “الكلام كثير لكن الفعل قليل”، مذكِّرةً بمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي عام 2015 الذي شهد توقيع اتفاقات واستثمارات تجاوزت 160 مليار دولار، لم يلمس المصريون ثمارها في حياتهم اليومية.