- تتجه أوروبا نحو أكبر عملية إعادة تسلح منذ نهاية الحرب الباردة، بدفعٍ من تأثير الحرب الأوكرانية، والسياسات التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
- تتم عملية إعادة التسلح الأوروبي عبر ثلاثة مستويات: الاتحاد الأوروبي (بصفته المركز)، والدول الأعضاء (عبر سياساتها الوطنية)، ودول الجوار الحليفة.
- تشمل خطة إعادة تسلح أوروبا، من الناحية العملية: زيادة الإنفاق الدفاعي، وبناء قاعدة صناعية دفاعية أوروبية، وتعزيز التحالفات مع دول الجوار الأوروبي.
- من المتوقع أن تؤدي إعادة التسلح الأوروبي إلى زيادة التوتر في العلاقات المستقبلية مع روسيا، وفي المقابل تعزيز الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الحليف الأمريكي.
- على المستوى الدولي من الممكن أن تُسهِم إعادة التسلح الأوروبي في تغيير موازين القوى وزيادة التسلح العالمي.
- تُمثِّل إعادة التسلح الأوروبي فرصاً لدول الخليج، من أبرزها توسيع التنوع في مصادر التسلح، وتعزيز الشراكات والاستثمارات في قطاعات الدفاع مع الدول الأوروبية.
في سياقات جيوسياسية متوترةً، يقود الاتحادُ الأوروبي والدول الأساسية الأعضاء أكبرَ عملية إعادة تسلّح للقارة منذ نهاية الحرب الباردة. فقد فرضت عودة الحرب إلى أوروبا منذ عام 2022، عودة النقاش حول السياسات الدفاعية. لكن عودة الرئيس ترمب إلى السلطة، فرضت نقل هذا النقاش إلى حيز السياسات عبر إطلاق خطة “إعادة التسليح” الأوروبية، وإعادة توجيه الاستثمار نحو الصناعات الدفاعية، ضمن نموذجٍ جديد للدفاع يقوم على تخفيف التبعية للولايات المتحدة وتحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.
تبحث هذه الورقة في خطة إعادة التسلح الأوروبي ضمن سياقاتها الداخلية والجيوسياسية ودوافعها، وتتناول طبيعة هذه العسكرة الجديدة من حيث الحجم والقوة والتباين بين القوى الأوروبية الأساسية، وانعكاساتها الأمنية والجيوسياسية، فضلاً عن تأثيراتها على دول الخليج العربية.
خطة إعادة التسلح الأوروبي: السياق والدوافع
شكّلت لحظة الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 صدمةً أمنيةً ودفاعية لأوروبا، التي وجدت نفسها في حربٍ غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، وضمن موازين قوى جديدة منذ نهاية الحرب الباردة. وكشفت الحربُ الأوكرانية حالةَ التبعية الأوروبية الهائلة للولايات المتحدة، التي كانت عملياً تقود الحرب ضد روسيا على مدى ولاية الرئيس السابق جو بايدن. وفرضت تلك الصدمة على الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية إعادة النظر في سياستها الدفاعية، باتجاه تعزيز القدرات الدفاعية والصناعة الدفاعية. فبلغ الإنفاق الدفاعي الأوروبي في عام 2023 مستوىً قياسياً إلى نحو 279 مليار يورو، بزيادة قدرها 10% عن عام 2022. كما سلطت الحربُ الضوءَ على عجز أوروبا على مستوى الإنتاج الدفاعي، فظهرت بوضوح صعوبات متواترة بشأن توفير الذخائر على نطاق واسع.
وفي مواجهة هذا العجز أقرّ الاتحاد الأوروبي “الاستراتيجية الصناعية الدفاعية الأوروبية“، التي بواسطتها سيتم التحول إلى “وضع اقتصاد الحرب” لمواجهة روسيا أولاً، وتقليص التبعية لأمريكا ثانياً. ومع ذلك حافظت أوروبا على الارتباط الاستراتيجي بالولايات المتحدة، لكن هذا الارتباط غدا موضع تساؤل بعد عودة دونالد ترمب إلى السلطة في الولايات المتحدة في يناير 2025، والذي بتأكيدهِ سياسة “أمريكا أولاً”، طرح إعادة النظر في نموذج الحماية الأمريكية لأوروبا القائم منذ الحرب العالمية الثانية، عبر التلويح بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتشكيك في آلية المساعدة المتبادلة داخل الحلف، وقطع الدعم عن أوكرانيا. وتكشف هذه السياقات عن تغييرات في التحالف بين ضفتي الأطلسي وفي النظام الدولي منذ عام 1945، وبالتالي فإن أوروبا مدفوعةً بثلاثة دوافع استراتيجية أساسية:
أولاً، التهديد الاستراتيجي الروسي: يشكل الصراع في أوكرانيا التهديد الأساسي الحالي بالنسبة لأوروبا، حيث ستحدد نتائجُ الحرب والسلام في أوكرانيا مستقبلَ أوروبا على نحو كبير. لذلك تسعى أوروبا لوضع استجابة متماسكة تتناسب مع خطورة اللحظة الراهنة. فمن طريق توسيع قدراتها الصناعية العسكرية تواصل موسكو بناء اقتصادها الحربي، فقد وصل إنفاقها في 2024 إلى 40% من الميزانية الفيدرالية الروسية، وما يصل إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي (مقارنة بـ 6% في 2023). ومن المتوقع في عام 2025 أن يتجاوز الإنفاق الدفاعي لروسيا الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من حيث تعادل القوة الشرائية. ويؤدي التناقض مع روسيا دوراً مركزياً في توجه أوروبا نحو إعادة التسلح، لأن الاتحاد الأوروبي يخشى أن تُشكِّل نهاية الحرب الأوكرانية بداية جديدة لسياسات روسيا التوسعية في أوروبا، عبر أنساق من الحرب الهجينة تطال مناطق نفوذ روسي قديم داخل القارة، لاسيما في شرق أوروبا (جورجيا ومولدوفا وأرمينيا) والبلقان، ظلت موسكو تَعدها دائماً مجالاً حيوياً لها، وكذلك من طريق الصراع معها خارج القارة الأوروبية، لاسيما في أفريقيا.
ثانياً، الانسحاب الاستراتيجي الأمريكي: على رغم ما يشكله الرئيس ترمب من ضغوط دفاعية وأمنية على أوروبا، وبخاصة في ظل الحرب الأوكرانية، فإن تأثير ترمب، الذي يسعى إلى فك الارتباط الدفاعي الاستراتيجي بأوروبا، وتقليص الوجود العسكري الأمريكي في القارة ورفع المظلة النووية، يمارس دوراً إيجابياً في دفع الأوروبيين إلى بناء قدرات دفاعية وتجديد القاعدة الصناعية الدفاعية. وبسبب التحولات الجارية في طبيعة المؤسسة الأمريكية الحاكمة، وصعود النزعات القومية والشعبوية في أوروبا، لا يريد الأوروبيون الارتهان مستقبلاً لما يمكن أن تأتي به الانتخابات الأمريكية. فضلاً عن أن تأثير ترمب يؤدي دوراً ضاغطاً على أوروبا، لأنه يطرح مقترحاتٍ للسلام في أوكرانيا أقرب إلى وجهة نظر موسكو، من دون أن يقدم ضماناتٍ أمنية واضحة، وهو ما يمكن أن يشجع روسيا مستقبلاً على توسيع نفوذها في القارة.
ثالثاً، الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي: منذ عام 2013 ظهرت إشارات مبكرة إلى أن مسألة الاستقلال الاستراتيجي باتت في قلب مناقشات المؤسسات الأوروبية، من طريق الدعوة إلى تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية لتعزيز الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد، لكن هذه المسألة كثيراً ما أثارت انقسامات داخلية بين القوى الأوروبية. بيد أن الحرب في أوكرانيا وعودة ترمب، دفعا نحو وضع الخطوات الأولى لهذا الاستقلال موضع التنفيذ. وقد أدرجته المفوضية الأوروبية بالفعل في استراتيجيات رسمية عبر قطاعات متعددة: الدفاع والأمن، والبنية التحتية الرقمية، وإمدادات الطاقة، والمواد الخام الحيوية، فضلاً عن السعي نحو الاستقلال التجاري من طريق البحث عن شركاء متنوعين. فعلى مدى عقودٍ شكّلت الحماية الأمريكية لأوروبا سبباً للدول الأوروبية في عدم الاستعداد لدفع التكاليف الباهظة لبناء القدرات العسكرية اللازمة لتحقيق هذا الاستقلال الاستراتيجي والحفاظ عليه، لذلك يمثل الانسحاب الأمريكي من أوروبا فرصةً تاريخية لتطوير سياسة خارجية ودفاعية أوروبية مستقلة ولترسيخ استقلالية استراتيجية أوروبية.
مستويات إعادة التسلح
تسير عملية إعادة التسلّح في القارة الأوروبية وفقاً لثلاثة مستويات مؤسسية، مركزها الاتحاد الأوروبي، وطرفاها الدول الأعضاء الأساسية عبر سياستها الوطنية من جهة، ودول الجوار الحليفة – المملكة المتحدة والنرويج – من جهة أخرى. كما تسير عملية التسلح وفقاً لثلاثة مستويات عملية، أولها زيادة الإنفاق الدفاعي، وثانيها بناء القاعدة الصناعية الدفاعية، وآخرها بناء التحالفات بين الاتحاد الأوروبي والجوار الأوروبي.
أولاً، الاتحاد الأوروبي
في 19 مارس الماضي طرحت المفوضيةُ الأوروبية وثيقتين أساسيتين هما “الكتاب الأبيض للدفاع الأوروبي“، و”خطة إعادة تسليح أوروبا”، واللتان تضمنتا العقيدة الدفاعية الأوروبية الجديدة من الناحيتين الاستراتيجية والمالية، في أفق عام 2030، لمواجهة أسوأ السيناريوهات الممكنة.
استراتيجياً، يُحدد “الكتاب الأبيض” ثلاثة مجالات رئيسة للعمل، هي:
(1) سد فجوات القدرات ودعم صناعة الدفاع الأوروبية، بما في ذلك تبسيط اللوائح وتبسيط البرامج الصناعية.
(2) تعميق سوق الدفاع الموحد وتسريع التحول في الدفاع بواسطة الابتكارات مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الكم.
(3) تعزيز جاهزية أوروبا لمواجهة أسوأ السيناريوهات من طريق تحسين القدرة على النقل العسكري، والتخزين، وتعزيز التعاون العملياتي في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي.
أما مالياً فتهدف “خطة إعادة التسليح” إلى تعبئة ما يصل إلى 800 مليار يورو بحلول عام 2030 للاستعداد الدفاعي، في سبيل الانتقال إلى الاستقلال الاستراتيجي، وذلك من طريق:
(1) تعليق القيود المالية التي يفرضها الاتحاد مؤقتاً للسماح للدول الأعضاء بزيادة الإنفاق الدفاعي، مما قد يؤدي إلى تحرير 650 مليار يورو على مدى أربع سنوات.
(2) توفير 150 مليار يورو للمشتريات المشتركة في مجال الأمن والدفاع، بما في ذلك تطوير أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، وأنظمة المدفعية، والصواريخ والذخائر، والطائرات من دون طيار، وأنظمة مكافحة الطائرات من دون طيار، وأيضاً لتلبية احتياجات أخرى من البنية التحتية السيبرانية إلى البنية التحتية للنقل العسكري.
(3) إعادة توجيه ميزانية الاتحاد الأوروبي الحالية، مثل صناديق التماسك التي تدعم ميزانيات الدول الأعضاء الضعيفة، نحو الاستثمارات الدفاعية.
(4) توسيع مشاركة بنك الاستثمار الأوروبي عبر رفع قيود الإقراض الحالية التي يفرضها لدعم شركات الدفاع. وبينما بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في عام 2024، ما يُقدَّر بنحو 326 مليار يورو، أي ما يعادل حوالي 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد، فإنه من المتوقع أن يصل إلى 2.04% في العام الحالي، وأن يرتفع بأكثر من 100 مليار يورو بحلول عام 2027. (انظر الجدولين 1 و2)
الجدول 1: نسبة الإنفاق الدفاعي الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي
الدولة / المنطقة | النسبة الحالية (2024) | الهدف (2026-2028) |
متوسط الاتحاد الأوروبي | %1.9 | 2.4 – %3 |
بولندا | %7.4 | %5 |
دول البلطيق | 3.1–%3.4 | %5-6 |
المملكة المتحدة | %2.3 | %2.5 |
فرنسا | %2.1 | %3 |
ألمانيا | %2 | %3.5 |
إيطاليا | %1.57 | %3.5 |
النرويج | %2 | %3 |
ملاحظة: وفقاً للموافقة الأولية لدول حلف الناتو برفع سقف الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي، من المفترض أن تتغير مؤشرات “الهدف المنشود 2026 – 2028” إلى 5% كحدٍّ أدنى.
الجدول 2: مقارنة الإنفاق الدفاعي الأوروبي بالإنفاق الدفاعي للقوى الكبرى
الدولة / المنطقة | حجم الإنفاق الدفاعي (2024) | نسبة الإنفاق الدفاعي من الناتج الإجمالي (2024) | الهدف المستقبلي |
الاتحاد الأوروبي | 360 مليار دولار | %1.9 | 2.4 – %3 |
الولايات المتحدة | 997 مليار دولار | %3.4 | %4 |
الصين | 314 مليار دولار | %1.7 | %2 |
روسيا | 149 مليار دولار | %7.1 | %7 |
ثانياً، السياسات الوطنية
توجد عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تُولي أهمية كبرى لتعزيز قدراتها العسكرية على المستوى الوطني، من أبرزها الآتي:
1. فرنسا: تُعد فرنسا الدولة الأكثر تحمساً لمشروع الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي وفك الارتباط الدفاعي بالولايات المتحدة، بوصفها تملك قاعدةً صناعية دفاعية متطورة؛ فهي ثاني أكبر مُصدِّر للسلاح في العالم، وتملك رابع أقوى مظلة للردع النووي عالمياً. وتبلغ ميزانية الدفاع الفرنسية لهذا العام 50.5 مليار يورو، بزيادة قدرها 3.3 مليار يورو عن العام الماضي. وضمن إعادة التسلح الأوروبي الواسع، تُخطط فرنسا لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بهدف الوصول في النهاية إلى ميزانية دفاع سنوية تبلغ حوالي 100 مليار يورو في عام 2030. وينص قانون التخطيط العسكري الفرنسي، الممتد لسبع سنوات والذي أقرّه البرلمان عام 2023، على تخصيص 413 مليار يورو للدفاع بين 2024 و2030، بزيادة تفوق الثلث عن الفترة السابقة (2019-2025) التي بلغت حوالي 295 مليار يورو. كما تعتزم الحكومة الفرنسية استثمار 1.85 مليار دولار إضافية في الدفاع عبر الاستثمار العام، وكذلك إطلاق صندوق دفاعي بقيمة 450 مليون يورو، لتمويل زيادة الإنفاق العسكري، فضلاً عن السعي إلى استخدام أدوات الاتحاد الأوروبي، مثل قروض المشتريات المشتركة و”خطة إعادة التسلح”. وتشمل التوسعاتُ الأساسية الفرنسية القوةَ الجوية من طريق تطوير طائرات رافال والوصول إلى 185 رافال مقاتلة بحلول عام 2030؛ والقوة النووية من طريق استثمار بقيمة 1.5 مليار يورو لتطوير قاعدة لوكسويل الجوية لاستيعاب الطائرات المقاتلة المجهزة بصاروخ نووي تفوق سرعته سرعة الصوت، فضلاً عن النقاش الدائر حول توسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل أوروبا. وكذلك القوة البحرية، من طريق خطط لزيادة عدد الفرقاطات من الطراز الأول من 15 إلى 18 فرقاطة، إلى جانب التوسع في التكنولوجيا العسكرية، لاسيما قطاع الطائرات من دون طيار، عبر دعم القطاع الخاص والابتكار المحلي.
2. ألمانيا: في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا أطلقت الحكومة الألمانية صندوقاً خاصاً لإعادة بناء الجيش بقيمة إجمالية بلغت 100 مليار يورو. لكنْ مع صعود فريدريش ميرتس، المستشار الجديد، أصبح الزخم الدفاعي الألماني أكثر قوةً، لاسيما في ضوء التعديل التاريخي الذي وافق عليه البرلمان في 18 مارس الماضي بشأن إصلاح “كبح الديون”، لإعفاء الإنفاق الدفاعي الذي يتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي من نظام كبح الديون، والذي من شأنه أن يتجاوز عتبة التمويل المتحفظ، الذي ظل سائداً في البلاد منذ عقودٍ، ويسمح بالاقتراض بشكل غير محدود لأغراض عسكرية. وتُقدَّر ميزانية الدفاع الحالية بـ 53.25 مليار يورو، بزيادة قدرها 1.2 مليار يورو عن عام 2024. ويستهدف الائتلاف الحاكم الجديد بلوغَ ميزانية مستدامة بقيمة 60-63 مليار يورو سنوياً، أي نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وتخطط الحكومة لرفع القدرات البشرية للجيش بما يقرب من 50 ألف إلى 60 ألف جندي، مما يرفع عدد الأفراد النشطين من نحو 200 ألف إلى نحو 250 ألفاً ثم إلى 260 ألفاً. وكان حلف شمال الأطلسي قد طلب من ألمانيا إضافة سبعة ألوية جديدة (نحو 40 ألف جندي) إلى قوتها العسكرية.
3. بولندا: تبلغ ميزانية الدفاع البولندية للعام الحالي حوالي 43 مليار يورو، وهو ما يمثل 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بزيادة بنسبة 4.2% عن عام 2024، أي حوالي 6.5 مليار يورو. وتعكس هذه النسبة العالية الهواجس البولندية بشأن التهديد الروسي بوصفها أكثر قرباً من فرنسا وألمانيا لجبهة الحرب. فقد كانت بولندا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تُوجه حوالي 7.2 مليار يورو من أموال التعافي بعد جائحة “كوفيد-19” إلى البنية التحتية والتصنيع في مجال الدفاع. وتشمل التوسعات البولندية في زيادة الإنفاق الدفاعي مختلف المجالات العسكرية، فقد أنجزت الحكومة البولندية صفقة بقيمة تُقدَّر بـ 6 مليارات دولار لشراء 180 دبابة من طراز “كيه 2” من كوريا الجنوبية في مطلع يوليو الجاري. وفي مارس الماضي وقّعت صفقة دفاع جوي مع الولايات المتحدة بقيمة تقارب ملياري دولار، تشمل الدعم اللوجستي لمنظومة الدفاع الجوي “باتريوت”، وأنظمة الدفاع الجوي قصيرة المدى.
4. إيطاليا: في موازنة عام 2025، خصصت إيطاليا ما يقرب من 31.2 مليار يورو للنفقات العسكرية، بزيادة قدرها 7.3% عن العام السابق، وهو أعلى مستوى في تاريخ الجمهورية، منها 13 مليار يورو مخصصة للتكنولوجيات العسكرية الجديدة. ويمثل هذا الإنفاق ما يقرب من 1.57% من الناتج المحلي الإجمالي. وأعلنت الحكومة في أبريل الماضي أنها ستتجاوز هذه النسبة في خلال العام الحالي لتصل إلى هدف إنفاق حلف شمال الأطلسي الحالي، وهو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، من طريق سلسلة من التغييرات المحاسبية. وتوجه إيطاليا جزءًا كبيراً من ميزانية الدفاع إلى الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة، مثل المركبات القتالية، وأنظمة الصواريخ (هيمارز)، وأجهزة المحاكاة، ومكونات تايفون/إف-35 بي، وأقمار الاتصالات، والصواريخ المضادة للسفن، والطائرات من دون طيار.
5. دول البلطيق: تُعد دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا) الأكثر تهديداً من الناحية الاستراتيجية، بوصفها دولَ مواجهة مع روسيا. وفي مطلع العام الحالي أعلن رئيس ليتوانيا جيتاناس نوسيدا عن أن بلاده ستزيد إنفاقها الدفاعي إلى ما بين 5 و6% من الناتج المحلي الإجمالي اعتباراً من عام 2026 بسبب التهديد الروسي في المنطقة. كما تعهَّدت الحكومة اللاتفية في فبراير بتخصيص ما لا يقل عن 4% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع في العام المقبل، وإنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات اللاحقة. أما إستونيا فقد أعلنت عن أن إنفاقها الدفاعي سيتجاوز 4% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل.
ثالثاً، الجوار الأوروبي
عبر علاقات تبادلية يسعى الاتحاد الأوروبي وجواره -أساساً المملكة المتحدة والنرويج- إلى رفع حالة التنسيق الأمني والدفاعي من داخل حلف شمال الأطلسي، لاسيما بعد موافقة أعضاء الحلف على رفع الإنفاق الدفاعي إلى ما يصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي (ستنفق دول الحلف 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع الأساسي، مثل القوات والأسلحة، و1.5% على تدابير أوسع نطاقاً تتعلق بالدفاع مثل الأمن الإلكتروني وحماية خطوط الأنابيب وتهيئة الطرق والجسور للتعامل مع المركبات العسكرية الثقيلة)، وهي خطوة تاريخية أقرَّتها قمة الحلف في لاهاي التي عقدت في 24 و25 يونيو. وأيضاً من خارج الحلف عبر الاتفاقات الدفاعية وتوسيع القاعدة الصناعية الدفاعية المشتركة، ضمن الهدف الأوروبي الأوسع في مواجهة التهديد الروسي والانسحاب الأمريكي. ويريد الأوروبيون بناء نموذج للأمن الأوروبي يقوم على توسيع الحدود الدفاعية للكتلة الأوروبية نحو خارجها، لاسيما في الجوار، عبر عقد الشراكات، وبالتالي تصبح هذه الدول المحيطة جزءاً من آليات الدفاع عن الاتحاد، مثل الاتفاقية الدفاعية مع المملكة المتحدة وقبلها مع النرويج. لذلك يسير شركاء الاتحاد داخل أوروبا على نفس الديناميكية في مزيدٍ من التسلح.
1. المملكة المتحدة: منذ العام الماضي تعهَّدت الحكومة البريطانية السابقة بزيادة الإنفاق الدفاعي في المملكة المتحدة إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030. لكن الحكومة العمّالية، وفي سياق مراجعة الإنفاق العام للعام الحالي، قررت رفع ميزانية الدفاع، الذي يعد من بين القطاعات التي ستحظى بأكبر زيادة في الإنفاق، إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول أبريل 2027، أي حوالي 11 مليار جنيه إسترليني. ومطلع شهر يونيو، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أن بلاده ستبني 12 غواصة هجومية جديدة وستة مصانع ذخيرة جديدة، كجزء من مراجعة الدفاع الاستراتيجي. ومن بين البنود الرئيسة الأخرى للمراجعة شراء ما يصل إلى 7 آلاف سلاح بعيد المدى مصنوع محلياً. وتعطي المراجعةُ الاستراتيجية الأولويةَ لقدرات الدفاع في الحروب الهجينة، مثل القدرات السيبرانية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والطائرات من دون طيار.
2. النرويج: في العام الماضي أقرَّت النرويج خطةَ تطوير دفاعية بقيمة 56 مليار دولار، تشمل زيادة الإنفاق الدفاعي السنوي من حوالي 8.7 مليار دولار في عام 2024 إلى 17 مليار دولار بحلول عام 2036. وتمول هذه الخطة حيازة فرقاطات وغواصات جديدة، وأنظمة دفاع جوي بعيدة المدى، ومضاعفة عدد أفراد الجيش إلى ثلاثة ألوية، ومضاعفة بطاريات نظام الدفاع الجوي الفضائي. وتستثمر النرويج بشكل كبير في صناعة الدفاع المحلية، بما في ذلك إنتاج الذخيرة والصواريخ ومحركات الصواريخ، وتعزز التعاون مع الدنمارك، عبر برنامج الشراء المشترك لطائرات “إف-35” وأجهزة الاستشعار والذخيرة بقيمة 7 مليارات دولار.
التحديات أمام إعادة التسلح الأوروبي
تُواجه خطة إعادة التسلح الأوروبي تحديات كثيرة، تتعلق بالخلل البنيوي في القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية، والتباينات الحادة بين الدول، من قبيل الفجوات التقنية والمالية، فضلاً عن التحدي المالي وإعادة توجيه الموارد بعيداً عن استحقاقات التنمية ومتطلبات الرفاه الاجتماعي.
أولاً، التحدي الهيكلي
تعاني القاعدة الصناعية الأوروبية من التجزئة وفقاً للسياسات الوطنية، مع وجود أكثر من 178 نظاماً مختلفاً للأسلحة في جميع الدول الأعضاء، مما يحدّ بشدة من اقتصاديات الحجم والتوافق والقدرة على زيادة الإنتاج. كما تشمل تحدي التجزئة مستوى المشتريات، فنحو 18% فقط من المشتريات الدفاعية مشتركة، وهذا يؤدي إلى عدم الكفاءة. فضلاً عن الوقت الذي تحتاجه عملية بناء قاعدة صناعية موحدة، وهو ما يجعل أوروبا بحاجة إلى الولايات المتحدة في تأمين الواردات الدفاعية، حيث تأتي حالياً 64% من واردات الأسلحة الأوروبية من الولايات المتحدة.
ثانياً، التحدي الوحدوي
يشكل الانقسامُ بين الدول الأعضاء داخل الكتلة الأوروبية المعضلةَ الكبرى في جميع السياسات، وعلى رأسها المجال الدفاعي. فلا تزال المصالح الوطنية أكبر من المصالح الأوروبية، مما يجعل القرارات المهمة، مثل المشتريات المشتركة، والإصلاحات الصناعية، تأخذ طابعاً وطنياً سيادياً. إلى جانب التصورات المتباينة للتهديدات، إذ تُعطي الدول الأعضاء الأولوية لتهديدات مختلفة، مما يضعف التوافق الاستراتيجي. فضلاً عما يلعبه التداخل بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من اضطراب في وضع الخطط والبرامج.
ثالثاً، التحدي المالي
تواجه العديد من دول الاتحاد الأوروبي ديوناً عامة مرتفعة، مما يحدّ من المساحة المتاحة لزيادة الإنفاق الدفاعي، كما أن الارتفاع السريع في الاستثمار العام في القطاعات الدفاعية قد يؤدي إلى خطر عدم الكفاءة. لكنّ العقبة الكبرى في التحدي المالي تتمثل فيما ينطوي عليه رفع سقوف الإنفاق الدفاعي من مخاطر تحويل الموارد بعيداً عن الإنفاق العام الاجتماعي في قطاعات الصحة والتعليم والرعاية، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
التداعيات العالمية
تحمل إعادة التسلح واسعة النطاق في أوروبا، وبخاصة في سياق عالمي يشهد تغييرات جذرية في النظام الدولي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية، انعكاسات عميقة على موقع أوروبا، من طريق التأثيرات المباشرة على العلاقات المستقبلية بكل من روسيا والحليف الأمريكي، فضلاً عن التداعيات الأوسع نطاقاً المتعلقة بالتنافس العالمي.
أولاً، روسيا
تسير عملية إعادة تسليح أوروبا بالتوازي مع بناء اقتصاد حربي واسع في روسيا، وذلك من شأنه أن يعيد القارة الأوروبية إلى وضع الحرب الباردة، فضلاً عن أنه يدفع إلى إمكانية فتح جبهات أخرى للصراع بين أوروبا وروسيا، وبخاصة في المناطق المتنازع عليها مثل بحر البلطيق، أو القطب الشمالي، أو ترانسنيستريا بمولدوفا. ومع تزايُد مركزية العامل العسكري، ستُصبح العلاقات مع موسكو مستقبلاً محكومةً بتوازن الردع العسكري أكثر من الدبلوماسية، وهذا الوضع سيعزز مكانة حلف شمال الأطلسي، الذي تراجع دوره بعد نهاية الحرب الباردة.
ثانياً، الولايات المتحدة
تستجيب خطط إعادة التسلح الأوروبي بشكل مباشر لطلبات الرئيس ترمب بزيادة تقاسُم الأعباء في حلف شمال الأطلسي، وبخاصة بعد التوصل إلى اتفاق برفع الدول الأعضاء في الحلف إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقترح عدَّتهُ الحكومات الأوروبية قبل شهور “غير واقعي”. لكن في الوقت نفسه قد تدفع مشاريع إعادة التسلح الأوروبي -لاسيما تلك القائمة على تعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية المحلية- إلى مزيدٍ من التوتر مع الولايات المتحدة بسبب زيادة المنافسة مع شركات الدفاع الأمريكية، فضلاً عن وجود انقسام أوروبي بين جناح يريد استقلالاً استراتيجياً واضحاً عن واشنطن تقوده فرنسا، في مقابل جناح تتزعمه ألمانيا وبولندا ذي توجه أطلسي قوي، لذلك فإن حسم الخلافات الأوروبية بشأن طبيعة الاستقلال الاستراتيجي ومداه سيحدد مستقبلاً طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة.
ثالثاً، التأثير العالمي
تساهم إعادة التسلح في أوروبا بشكل مباشر في زيادة سباق التسلح العالمي، حيث ستقود بقية القوى العالمية إلى موازنة هذه النقلة العسكرية الأوروبية للحفاظ على القوة النسبية، مما يؤدي إلى طفرة عالمية في الصناعات الدفاعية وصفقات السلاح. وهذه الطفرة من شأنها أن تُساعد على تسريع سباق الابتكار الدفاعي العالمي، لذلك من المتوقع أن يزيد تأثير الشركات الدفاعية ونفوذها، وتصبح صناعة الدفاع محركاً رئيساً للشراكات الاقتصادية والسياسية عبر العالم، مما يؤثر في التجارة والتحالفات والسياسة الصناعية. وفي المقابل سيؤثر ذلك في تحويل الموارد بعيداً عن التحديات العالمية الأخرى، كالتنمية المستدامة والصحة العالمية، ما سيزيد من حجم المشاكل الإنسانية حول العالم.
إعادة التسلح الأوروبي ومصالح دول الخليج
تنطوي خطط إعادة التسلح الأوروبي على فرص يمكن من طريقها لدول الخليج تعزيز مكانتها بوصفها قوة صاعدة في مجال الصناعات الدفاعية وجذب الاستثمارات أو نقل التكنولوجيا العسكرية من أوروبا، من طريق عقد شراكات التصدير والإنتاج المشترك، لاسيما مع فرنسا والمملكة المتحدة، وبخاصة في التقنيات الناشئة (الذكاء الاصطناعي، والطائرات من دون طيار، والأمن السيبراني). كما تُمثِّل الخطة الأوروبية فرصةً لاكتساب نفوذ استراتيجي لدى أوروبا باعتبار دول الخليج شريكاً أمنياً ومورداً للطاقة، إذ تحتاج مشاريع توطين الصناعات الدفاعية الأوروبية إلى إمدادات طاقة مستقرة؛ فضلاً عن الفرصة الاستثمارية من طريق توجيه الاستثمارات الخليجية في أوروبا نحو الشركات الدفاعية أو صناديق دعم الصناعة الدفاعية. وعلى المدى البعيد، تستفيد دول الخليج من زيادة القدرات العسكرية الأوروبية، للدخول في شراكات أمنية لتنويع الشركاء من خارج الولايات المتحدة، لاسيما أن إعادة التسلح من المتوقع أن تزيد قدرة الدول الأوروبية العملياتية وتنسيقها مع دول الخليج.
وفي المقابل، قد تنطوي خطط التسلح الأوروبية على تداعيات سلبية ممكنة تتعلق أساساً بالتقلبات التي من شأنها أن تسود في أسواق السلاح، إذ من المتوقع أن تؤدي زيادة الطلب العالمي على الأسلحة إلى ارتفاع التكاليف وإجهاد سلاسل التوريد، مما يجعل من الصعب على دول الخليج تأمين عمليات التسليم في الوقت المناسب للأنظمة الحيوية، كما قد تؤدي مشتريات السلاح الأوروبية إلى تأخير أو خفض أولوية صفقات الدفاع التي تبرمها دول الخليج مع الدول الأوروبية.
الخلاصة
دفعت الحرب الأوكرانية وسياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، أوروبا إلى أكبر عملية إعادة تسلح منذ نهاية الحرب الباردة. وتسير هذه العملية وفقاً لثلاثة مستويات مؤسسية، مركزها الاتحاد الأوروبي وطرفاها الدول الأعضاء الأساسية من طريق سياستها الوطنية من جهة، ودول الجوار الحليفة من جهة أخرى. كما تسير وفقاً لثلاثة مستويات عملية تشمل زيادة الإنفاق الدفاعي وبناء القاعدة الصناعية الدفاعية وبناء التحالفات بين الاتحاد الأوروبي والجوار الأوروبي. وفي سياق دولي يشهد تغييرات جذرية في النظام العالمي، تحمل إعادة التسلح تداعيات عميقة على موقع أوروبا، عبر التداعيات المباشرة على العلاقات المستقبلية مع روسيا نحو مزيدٍ من التوتر، وكذلك مع الحليف الأمريكي نحو مزيدٍ من الاستقلال الأوروبي، فضلاً عن الانعكاسات الأوسع نطاقاً المتعلقة بالتنافس العالمي ورفع وتيرة سباق التسلح الدولي، بما لها من تأثيرات متباينة على العديد من دول ومناطق العالم، بما فيها دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.