هذه قراءة في مقال لرئيس مكتب استخبارات الجيش النمساوي السابق، تبيّن دور الاتحاد الأوروبي على المستوى الدولي، وتناقش علاقة أوروبا بالولايات المتحدة والصين وروسيا، ويبدأ الحديث عن أهمية الاتحاد الأوروبي باعتباره فاعلًا أمنيًا عالميًا.
يشير الكاتب إلى أن الناتو يمكن أن يوجد دون الاتحاد الأوروبي، لكنّ الأخير لا يمكنه البقاء دون الناتو؛ إذ يدّعي الكاتب أن عدم الاتساق بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي يُمثل تحديًا ليس فقط للاتحاد الأوروبي، لكنْ لتماسك الغرب كلّه، مُجادلًا عن أنه بدون الوسائل العسكرية باعتبارها “أدوات إكراه” لن يكون هناك وزن سياسي ممكن للاتحاد الأوروبي، وبالتالي يُصرُّ على أن أوروبا يجب أن تتعلم لغة القوة وتطبيق مبادئ جيوبوليتيك، بما في ذلك تحسين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية للاتحاد الأوروبي.
كما يدّعي الكاتب أن تآكل دور الولايات المتحدة وانسحابها من المؤسسات والاتفاقيات الدولية (يعني في عهد إدارة ترامب) سيؤدي لفقدان قوتَها الناعمة التي هي معيار أساس للقوة العالمية، في حين أن الصين ستكون في طريقها لتصبح الدولة الأولى في النظام الدولي. ففكرة “أمريكا أولًا” التي تنتهجها الولايات المتحدة أدت إلى “أمريكا وحدها”، لهذا فقدت واشنطن بشكل كبير مصداقيتها كقوّة عالمية مستعدة للعمل في جميع أنحاء العالم، بل إنها أصبحت مصدر عدم يقين بالنسبة للعديد من البلدان، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. مؤكّدًا أنّ هذا سوف يفتح الطريق أمام الصين لتصبح الدولة الأولى في المستقبل، خصوصًا أنها تحمل أقدم إرث حضاري على وجه الأرض، كما ترفض أخذ التعليمات من الخارج، وتعتبر أي انتقاد يوجَّه إليها تدخلًا غير مقبول في شؤونها.
ويبين الكاتب أن الصين وروسيا تستفيدان من ضعف الولايات المُتحدّة والاتحاد الأوروبي على الصعيد الدولي، وذلك بسعيهما إلى شغل الحيز والفراغ السياسي اللذين لم تعد أمريكا وأوروبا تملآنه، وعليه تقوم الدولتان بتوسيع نفوذهما في المنظمات والمؤسسات الدولية، واستغلال كل ضعف وكل خطأ سياسي للولايات المتحدة، واستثمار أي تناقص في قوة الاتحاد الأوروبي لزيادة نفوذهما.
ويشير الكاتب إلى أن أوروبا لم تعد الحليف الاستراتيجي على المدى البعيد لأمريكا، ويُذكرنا بأن أمريكا حددت منذ عام 2017 الصين باعتبارها منافسًا استراتيجيًا لها، وبالتالي فإن الصراع الاقتصادي الأمريكي مع الصين هو أكبر من مجرد أرقام واردات في الميزان التجاري. ويُقر المؤلف هنا بأن أوروبا والناتو لَيسَا في جوهر الاستراتيجية الأمريكية، حيث ينعكس هذا التوجه في الخطابات الداخلية الأمريكيّة التي تهمّش أوروبا والناتو، وبطبيعة الحال فإن هذا التوجه لا يقتصر فقط على إدارة ترامب.
وبحسب الكاتب فإن الصين تُقدم مفهومًا خاصًا للنظام العالمي، حيث بدأت في التعامل مع النظام الحالي على أساس مفهومها هي الجديد، وهذا ما يجعلها مُنافسًا منهجيًّا للغرب، خصوصا أن السياسيين الأمريكيين فشلوا في دمجها في النظام العالمي الليبرالي. ومن ناحية أخرى، ليس لدى الاتحاد الأوروبي استراتيجية أمنية مُوحدة، وبالتالي لا يوجد موقف أوروبي مُوحد أو واضح تجاه بكين؛ الأمر الذي يجعل من أوروبا عاملًا لا يتمتع بالمصداقية من المنظور الأمريكي، وخصوصا في الموضوع الأمني، بل إن أوروبا أصبحت عبئًا على أمريكا؛ خاصة تجاه الصين؛ لذلك تسعى الولايات الأمريكية إلى فصل الاقتصاد الصيني عن النظام العالمي الليبرالي حلًا لهذه المُعضلة.
كما يوضح الكاتب أن جميع الدول العظمى تحدّث ترساناتها النووية بتكاليف باهظة، مما يعني زيادة أهمية العامل النووي في ميزان قوى الوقت الراهن العسكريّة، بما في ذلك روسيا التي تُخفي مشاكلها الاقتصادية بتحديث عدد معين من أنظمتها العسكرية؛ ليكون لها تأثير أكبر حتى في القارة الأوروبية. ويُحذر الكاتب من أنه في حال أصبح هناك تعاون مستقبلي وتحالف بين الصين وروسيا، فإن هذا من شأنه تغيير خريطة الأمن العالمي تمامًا؛ لذا فإن إمكانيّة استخدام الأسلحة النووية في الوقت الحاضر أعلى بكثير مما كان عليه الحال في الثمانينيات.
إذن روسيا شريك في النضال من أجل الهيمنة العالمية، ويُجادل الكاتب بأن روسيا تسعى إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي باعتباره لاعبًا أمنيًا وحلفِ شمال الأطلسي باعتباره جهة عسكرية فاعلة. وتشمل الخيارات الروسية الحربَ التقليدية والحروب غير النظامية مثل الحروب السيبرانية، وذلك للاستفادة من ضعف السياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن التهديد الرئيس للاستقرار الداخلي لروسيا “بوتين” لا يأتي من القدرة العسكرية للتحالف العسكري، وإنما من الحركات والاحتجاجات الديمقراطية مثل أوكرانيا أو بيلاروسيا، ومن جاذبية نموذج الاتحاد الأوروبي للديمقراطية والازدهار.
تسليم رئاسة الولايات المتحدة لجو بايدن:
يجادل المؤلف بأن الخطر الأساسي على الجيوبوليتيك الأمريكية في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين هو الخسارة الدراماتيكية للثقة بالولايات المتحدة باعتبارها مرساة آمنة لـ “الغرب”، وتلك من الآثار التي تركتها سنوات ترامب الأربع. وبالتالي، هناك العديد من التحديات الداخلية الحقيقية لإدارة بايدن أولًا: مثل الاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي الداخلي، وزيادة دخل المحرومين، وزيادة عدد الأشخاص الذين لديهم تأمين صحي، ومزايا اجتماعية منخفضة، وانخفاض الحراك الاجتماعي.
يؤكد المؤلف أن الأمريكيين – ديمقراطيين وجمهوريين – يعتبرون الصين تحدّيًا للولايات المتحدة في دورها كقوة عالمية، وخاصة في منطقة المحيط الهادئ. كما ترى الصين أيضًا أن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية هي المشكلة الرئيسة لها. ويعيد المؤلف التأكيد على أن الولايات المتحدة لا تستطيع منع صعود الصين على المدى الطويل؛ بل يمكنها فقط تأخيره. ويمكن القول إن الصين في صعود مستمر لتصبح القوة العالمية المهيمنة، وتسعى جاهدة لتحل محل الولايات المتحدة، وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه الرئيس الجديد هو استعادة الثقة، ليس فقط في البلدان المُطلة على المحيط الهادئ، بل بشكل عام في السياسة الأمنية للولايات المتحدة التي يمكن حسابها على المدى الطويل، وفي تنفيذ السياسة الاقتصادية بإطار عمل جديد.
تُواصل الصين اتباع استراتيجية طويلة الأجل في تحقيق أهدافها، حتى كانت – مثلًا – عاملًا محدِّدًا في الحملة الانتخابية الأمريكية، إلا أن واشنطن لعبت دورًا ثانويًا في التأثير في السياسة الداخلية لبكين. ومع ذلك فإن اختيار بايدن يجب أن يجعل من الولايات المتحدة مرة أخرى منافسًا في الأسواق والنفوذ في منطقة المحيط الهادئ.
ويُوصي المؤلف بأن النهج التنسيقي والتعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ مقابل الصين، هو أيضًا عامل مهم لتطوير الشراكة عبر الأطلسي، وبالتالي لاستمرار أهمية الناتو في الهيكل الأمني العالمي للولايات المتحدة الأمريكية.
العالم يتقدم، ومع ذلك فإن الاتحاد الأوروبي يحيّد نفسه بحسب الكاتب، فعلى سبيل المثال فإن الاستقطاب السياسي الداخلي في ألمانيا يجعل الأمر أكثر صعوبة. ويبين المؤلف أن المستشارة الألمانية التي تسعى جاهدة لتحقيق الاستقرار في الاتحاد الأوروبي سوف تتنحى، ويبقى السؤال مفتوحًا حول الخيارات عمن سيخلفها. كما أن هذه المرحلة الانتقالية سوف تستمر حتى عام 2022؛ الأمر الذي يجعل الاتحاد الأوربي يفقد وزنه الدولي وبشكل ملحوظ ومستمر.
في الختام، هذه الورقة السياسية مهمة للغاية، وخصوصًا في شرحها عدّة جوانب لضعف الاتحاد الأوروبي وتأثير ذلك على الغرب بأسره. وأيضًا تلفت الورقة الانتباه إلى دور الصين وروسيا وكيف يستغل كلا البلدين ضعف الاتحاد الأوروبي لتوسيع هيمنته في العالم، بالإضافة إلى استفادتهما من تراجع القوة الناعمة للولايات المتحدة.
ومع ما سبق يبدو المؤلف مُتشائمًا بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي نتيجة ضعف التنسيق داخله، بالإضافة إلى أن الفكرة الأمريكية “أمريكا أولًا” تضعف أوروبا وليس الولايات المتحدة فحسب.
لكن يبقى القول بأن المؤلف تجاهل العديد من الفاعلين الدوليين المهمين؛ مثل الهند وتركيا. أيضًا، لم يذكر الحركات اليمينية المتطرفة والمعادية للأجانب في الاتحاد الأوروبي وتأثيرها المُحتمل في إضعاف الاتحاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: فادي الزعتري: باحث مشارك في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول “زعيم” ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنفس الجامعة.
الناشر: (Austria Institut für Europa und Sicherheitspolitik (AIES))
اللغة: الألمانية
رابط المصدر: