فرض تعثر المساعدات الأمريكية لأوكرانيا وتصريحات الرئيس الأسبق ترامب المشككة في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن “من لا يدفع”، وطول الحرب الروسية الأوكرانية، والسلاسة التي انتقلت بها روسيا إلي اقتصاد حرب، كل هذا فرض سؤال قدرة أوروبا ودولها علي الدفاع عن نفسها، وعلي دعم كفاح أوكرانيا، كما فرض سؤال تطوير وزيادة إنتاج ومخرجات صناعاتها العسكرية.
مثال واحد يكفي للتدليل علي جسامة المشكلة، يستخدم الروس ٤٠ ألف قذيفة أسبوعيا، وهذا يساوي إنتاج مصانع نكستر الفرنسية… سنويا. الدول الأوروبية قادرة علي صنع كافة أنواع الأسلحة المتطورة، ولكن شركاتها ومصانعها صغيرة الحجم إن قورنت بالشركات والمصانع الأمريكية، علي سبيل المثال في فرنسا هناك حوالي ٤٠٠٠ شركة منخرطة في التصنيع العسكري و أكثر من ٢٠٠ ألف عامل أغلبهم عالي التدريب (وفقا لتقرير لمجلس الشيوخ)
وتقسيم العمل بين الشركات الأوروبية ليس مثاليا، نظرا للتمسك المفهوم للدول بمصانعها الوطنية، وللتنافس بينها وإضافة إلي ذلك فإنها بطيئة في تسليم المشتريات، إضافة إلي هذا… ما هو موجود فعلا في مخازن الجيوش الأوروبية ضئيل للغاية وليس دائما في حالة جيدة… لأن أوروبا لم تكن تتصور أن عصر الحروب سيعود.
في توقيت حرج
التهديد الروسي بات واضحا في توقيت حرج لأوروبا. القارة لم تتعافي من الأزمات المتلاحقة – أزمات انهيار البنوك العالمية سنة ٢٠٠٨ وأزمة ديون اليونان نفس السنة وأزمة الهجرة سنة ٢٠١٥ وأزمة الجائحة ( ٠٢٠٢٠/٢٠٢١) ومشكلة التهديدات والهجمات الإرهابية، تعاني خمس من أكبر ست دول أوروبية من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة، الاستثناء النسبي بولندا، مع اختلاف في طبيعة الأزمة من دولة إلي أخري، مالية ألمانيا سليمة ولكنها تأخرت جدا في عمليات تطوير وتحديث البنية التحتية وأدوات الإنتاج وهي أكثر دولة متأثرة بالاضطرابات التي تصيب التجارة الدولية لاعتمادها الكثيف علي التصدير والاستيراد، وهي أكثر دولة استقبلت مهاجرين (من سوريا سنة ٢٠١٥ ومن أوكرانيا سنة ٢٠٢٢) فرنسا وإيطاليا غارقتين في الديون، وإضافة إلي ذلك فإن فرنسا تعاني من استقطاب داخلي بالغ الحدة ومن تراجع أداء أغلب مؤسساتها، الدولة الإيطالية ضعيفة نسبيا، المملكة المتحدة شاهدت تراجعا مريعا في مستوي معيشة سكانها بعد الخروج من الاتحاد، بعض الصحفيين يقولون أن مستوي معيشة البريطانيين كان يقارن بمستوي معيشة الألمان من عشر سنوات والآن يقارن بمستوي معيشة السلوفين، وتعاني من مشكلات جسيمة في منظومة الصحة وفي الإسكان
تشترك كل هذه الدول في أزمة تراجع معدلات الانجاب، وفي أزمة القطاع الزراعي والمزارعين، وفي ضعف مستوي وأداء النخب السياسية وعدم فهمها للقضايا الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، وفي ارتفاع شعبية أحزاب شعبوية تعادي الهجرة و/أو الاتحاد الأوروبي و/أو العولمة أي أنها تعادي ركنا أو أكثر من أركان منظومة الليبرالية، وكلها تعرض منذ عقدين لهجوم مستمر غير تقليدي روسي يستهدف إنهاكها بضربات سيبرانية متعددة تعطل مرفقا أو آخر ويرمي إلي تعميق الاستقطاب والاحتقان الداخليين بحملات إعلامية مضللة ويسعي بقدر مذهل من النجاح إلي شراء ولاءات في النخب السياسة والثقافية والاقتصادية والإعلامية- نظرة سريعة إلي قائمة المسؤولين الأوروبيين الذين قبلوا في مرحلة ما وظائف في مجالس إدارة شركات روسية ضخمة أو عملوا مستشارين لها، أو إلي قائمة الأحزاب التي قبلت أو سعت إلي الحصول علي تبرعات رجال أعمال روس مقربين من الكرملين أو علي قروض ميسرة من بنوك روسية أو إلي صحفيين وكوادر انخرطوا في فعاليات تمولها الحكومة الروسية، هذه النظرة تصيب المراقب بحالة ذهول.
حجج أنصار مهادنة روسيا
وعلي العموم فإن أي تيار أوروبي يعارض مبدأ التصدي للعدوان الروسي علي أوكرانيا والتضامن مع الأخيرة لديه دوافع وحجج يمكن حصرها في عدد من النقاط، أولها أن الإنفاق علي دعم أوكرانيا يستنزف كما هائلا من الأموال كان يمكن توظيفها في التصدي للقضايا الاجتماعية المستعصية التي تهدد استقرار المجتمعات الأوروبية، ثانيا إن الخطر الحقيقي الذي يهدد المجتمعات الأوروبية أت من الداخل والجنوب والشرق الإسلاميين – في هذا إشارات إلي مشكلات إدماج الأقليات الإسلامية ومخاوف من خطر الإرهاب ومن تبعات انهيار ليبيا والسودان ودول الساحل والصحراء ومن الغضب الإسلامي بسبب قضية فلسطين، ثالثا إن خطر الهيمنة الأنجلو- ساكسونية علي أوروبا أشد جسامة من الخطر الروسي، رابعا أوكرانيا دولة وشعب لهما قدر من المثالب والعيوب يعتد به، وفسادها معروف ومفضوح، وتمثل عبئا صعب تحمله، ونسبة لا تقل عن عشر سكانها وربما تصل إلي الخمس فضل الهروب. خامسا الولايات المتحدة استفادت من الأزمة (لارتفاع الطلب علي أسلحتها وعلي صادراتها من الطاقة ولتوسيع الناتو وإحيائه) و وأوروبا تضررت وتدفع فاتورة المواجهة بين الدول الكبرى. من نافله القول أن كل هذا الكلام مردود، فهو قائم علي مغالطات جسيمة ويهمل أبعاد هامة من المشهد، ولكنه يلقي صدي في عدد متزايد من القطاعات الشعبية.
الرئيس والمستشار وأوكرانيا
كل هذا يعني أن الدول الأوروبية تتعامل مع التهديد الروسي وهي ليست علي أحسن حال، ويمكن إضافة إلي كل ما سبق عامل ذاتي وشخصي وهو توتر العلاقة بين الرئيس ماكرون والمستشار الألماني شولتز، وهذا التوتر يفاقم من المشكلات الموضوعية بين فرنسا وألمانيا، الموجودة منذ عدة سنوات والتي طفت علي السطح في الأشهر الماضية، وبلغت ذروة جديدة بعد تصريح الرئيس ماكرون مساء يوم ٢٦ فبراير حول إرسال قوات إلي أوكرانيا – قال أن الموضوع نوقش صراحة وأن لا إجماع حوله حاليا ولكنه لا يمكن هذا استبعاد الخيار ولا أي خيار – وحول “ضرورة إلحاق الهزيمة بروسيا لتحقيق الأمن في أوروبا” وفي هذا تطور – قبل ذلك كان الرئيس شأنه شأن مسؤولين أوروبيين آخرين يتحدث عن “إيقاف روسيا” أو “منعها من الانتصار”، وإضافة إلي هذا سخر الرئيس من “المترددين الذين كانوا يرفضون رفضا قاطعا في بدايات الصراع إرسال دبابات وطائرات وصواريخ ويرون أن إرسال خوذات كافي” في إشارة واضحة إلي المستشار الألماني
وكان رد المستشار الألماني حادا وحاسما – “لم ولن يرسل أي طرف غربي قوات”، إلي جانب قيامه بالإشارة صراحة وعلنا إلي وجود جنود أو خبراء بريطانيين وفرنسيين في أوكرانيا لتشغيل منصات إطلاق الصواريخ، فيما اعتبره البعض “كشفا لما لا يجوز كشفه”، وفي المقابل قال بعض المحللين أن الكل يعرف أن تشغيل منصات أمر بالغ التعقيد ويفترض فعلا وجود خبراء – وبالتالي لا جديد حقيقي سوي “إثارة الموضوع علنا” –
لا شك أن تصريح المستشار الألماني يعتبر خطأ استراتيجيا جسيما، وهو ما ذهب إليه عدد من الخبراء، ليس لأن الخلاف طفا علي العلن، أو لأنه كشف معلومات يفترض أنها سرية ولم تكن كذلك – بل لأنه لم يكتفي بالتصريح بأن مبدأ إرسال قوات مرفوض “حاليا” وذهب إلي مدي أبعد حيث استبعد استبعادا مطلقا مبدأ التدخل، مما يعد “هدية مجانية” للرئيس بوتين، في وقت يتبني فيه خيار التصعيد ويعلي سقف مطالبه، ويروج إعلامه وبعض معاونيه لرواية مفادها أن روسيا في صراع وجود مع الغرب، وزاد من الطين بلة الخطأ الأمني المذهل الذي ارتكبه قادة السلاح الجوي الألماني عندما ناقشوا موضوعات سرية علي تطبيق يعلم الكل أنه ليس آمنا – وقام الإعلام الروسي بنشر محتواها.
وتلا تصريح المستشار الألماني محاضرة للرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف تكلم فيها عن الخريطة التي تسعي إليها روسيا وفيها ابتلعت روسيا أكثر من ٩٠٪ من الأراضي الأوكرانية وضمت تراسنيتريا.
قال معاونو الرئيس ماكرون لصحفيين وخبراء أن تصريحه كان مقصودا، رمي إلي إرسال “إشارة استراتيجية” لموسكو وإلي استرداد زمام المبادرة وإلي فرض الخيار علي جدول الأعمال، وكان أيضا رسالة حادة إلي المستشار الألماني الرافض لإرسال صواريخ تاوروس، وأن الرئيس لا يفكر حاليا في إرسال قوات تشارك في القتال بل خبراء عسكريين، ويقول بعض الخبراء العسكريين وبعض الصحفيين في مقالات لهم أن فرنسا تقدم دعما استخباريا يساعد علي تحديد الأهداف عن طريق الأقمار الصناعية، كما أنها تقدم تكنولوجيا تساهم في توجيه الطائرات المسيرة الأوكرانية وفي مقاومة التشويش، ويقول صحفيون أن مشورة الخبراء العسكريين الفرنسيين هامة لأن الجيش الفرنسي اعتاد خوض معارك وهو في حالة تتسم بشح في المعدات والذخائر، ويكتب الصحفي جان دومينيك ميرشيه أن الأجهزة الفرنسية فهمت الادعاء الكاذب لموسكو في منتصف يناير الماضي بأنها قتلت ستين مرتزق فرنسي علي الجبهة علي أنه “رسالة تحذير روسية مقصودة”، وأن التصريح الرئاسي الفرنسي حول إرسال قوات هو “رد صارم علي هذا التحذير”، ويضيف ميرشيه أن أي إرسال لعسكريين إلي أوكرانيا يتم في إطار ثنائي – بين الدولة المرسلة وأوكرانيا- ولا دخل للناتو في هذا.
معضلات الدعم العسكري الأوروبي لأوكرانيا
وإلي جانب هذا فإن عمليات زيادة الإنتاج الحربي ودعم أوكرانيا عسكريا تتطلب حل عدة معضلات لا تنحصر في كيفية توفير التمويل لهذا المجهود.
نلفت النظر إلي أن إجماع أوروبا علي زيادة الإنتاج الحربي وعلي تحمل قدر أكبر وأكبر من عبء دعم أوكرانيا يخفي خلافا جوهريا بين من يسعي إلي هذا تحسبا لانسحاب أمريكي وتمهيدا له ومن يشارك في المجهود ليقنع الولايات المتحدة بعدم ترك القارة لأنها تقوم بواجباتها “وتدفع” علي حد تعبير الرئيس ترامب، وفرنسا تنتمي بوضوح إلي الفريق الأول وبولندا من أصحاب الرأي الثاني، والمشكلة هي تحديد موقف ألمانيا، يخشي الكثيرون في باريس أن أي انسحاب أمريكي سوف يليه انسحاب ألماني، قد يكون هذا ظالما ولكن ألمانيا أثناء الحرب جمعت بين بذل مجهود ضخم لدعم أوكرانيا و بين رفضها “تصدر المشهد”… علي سبيل المثال لم توافق علي إرسال دبابات ليوبارد قبل أن تعلن واشنطن عزمها علي إرسال دبابات أبرامز. وإلي الآن ترفض تسليم أوكرانيا صواريخ تاوروس رغم قيام كل من فرنسا والمملكة المتحدة بإرسال صواريخ مشابهة.
من ناحية أخري هناك خلافات تتعلق بمصدر الأسلحة التي ستقدم لأوكرانيا، هل تشتري أوروبا سلاحا من خارجها أم تنتج السلاح بنفسها. الخيار الأول أرخص لأسباب منها عدم تخصيص جزء هام من الموارد في البحث والتطوير وفي تصميم السلاح، ولكنه يكرس أو يساهم في تكريس التبعية أو علي الأقل الاعتماد علي الخارج، الدول التي تتمتع بقاعدة صناعية عسكرية وتريد توسيعها تفضل الحل الثاني، ولكن غيرها يري أن هذا الحل مكلف وبطيء، ويفضل خيار شراء أسلحة أمريكية أو كورية جنوبية، ويلاحظ في هذا الصدد أن شراء سلاح مع اشتراط تصنيع بعضه أو كله في البلد المشترية يغلي الثمن وقد يؤخر تسليم المنتج،
ومن المعروف أن الاعتبارات السياسية واعتبارات التنافس الاقتصادي بين الدول تلعب دورا، من ناحية من يتوقع دوام الانسحاب الأمريكي من القارة يري ضرورة التسريع في تطوير القاعدة الصناعية العسكرية “الأوروبية”، في حين أن من يري أن هذا الانسحاب لن يحدث لا سيما إن قامت أوروبا بدفع ثمن الحماية الأمريكية بشراء أسلحة منها يفضل تكثيف من عمليات الشراء خارج القارة. يبدو حاليا أن فرنسا لم تعد تعترض علي شراء أسلحة من خارج القارة، مقابل حصولها علي وعد أو التزام برفع حصة الأسلحة المصنوعة أوروبيا في تسليح الجيوش الأوروبية خلال السنوات المقبلة.
ويلعب التنافس الشرس بين الشركات الفرنسية والشركات الألمانية دوره في زيادة التوتر بين الدولتين، وتأخرت بعض المشروعات المشتركة لعجز شركات الدولتين عن التوصل إلي اتفاق حول نقاط أساسية، الصناعة الألمانية في أزمة حادة، وبصفة عامة وضع ومنطق كل منهما مختلف أشد الاختلاف، اقتصاديا وماليا ألمانيا أقوي بكثير من فرنسا، وتلعب الاعتبارات الاقتصادية والمالية دورا كبيرا في عملية صياغة القرار الألماني في مجال الصناعات الحربية، في حين أن جيش فرنسا أقوي وتلعب اعتبارات الاستراتيجية دورا في عملية صياغة قرارها في مجال الإنتاج الحربي، يضاف إلي ذلك أن علاقات الشركات مع الدولة الأم مختلفة في البلدين، وأن سياسات التصدير ليست متطابقة.
ومن ناحية أخري فأن ضرورات الدعم الحال لأوكرانيا تفرض أولويات تختلف عن تلك التي تحكم تطوير الجيوش الأوروبية علي المدي الطويل، وهناك تباين شديد في تصورات الدول المختلفة ومواقفها من “تفريغ مخازنها” – الغير ممتلئة أصلا- لإرسال ما لديها أو بعضه إلي أوكرانيا.
كل هذه الصعوبات لم تمنع أوروبا من التوصل إلي اتفاقيات تنسق الدعم لأوكرانيا وتكثفه، نتناولها في مقال لاحق
المصدر :https://ecss.com.eg/44615/