جوزيف ستيغليتز
نيويورك ــ على الرغم من أن الأمر يبدو الآن وكأنه ذِكرى من الماضي، إلا أنه لم يمض وقت طويل منذ أن بدأت الاقتصادات حول العالم في الإغلاق استجابة لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). في وقت مبكر من الأزمة، توقع معظم المراقبين حدوث انتعاش اقتصادي سريع على شكل حرف V، على افتراض أن الاقتصاد يحتاج إلى مهلة قصيرة فقط. وبعد شهرين من الرعاية والاهتمام وأكوام الأموال، سيبدأ مرة أخرى من حيث انتهى.
الحق أنها كانت فكرة جذابة. لكن الآن، في شهر يوليو/حزيران، تبدو فكرة الانتعاش السريع محض خيال على الأرجح. ومن المرجح أن يكون أداء اقتصاد ما بعد الجائحة ضعيفا، ليس فقط في البلدان التي فشلت في إدارة الجائحة (الولايات المتحدة على وجه التحديد)، ولكن حتى في البلدان التي أدت واجبها على أكمل وجه. حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أنه بحلول نهاية عام 2021، لن يزيد حجم الاقتصاد العالمي سوى بنسبة طفيفة جدا مما كان عليه في نهاية عام 2019، بينما سيظل حجم اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا أصغر بنسبة 4٪ تقريبا.
يمكننا أن ننظر إلى التوقعات الاقتصادية الحالية على مستويين. فمن ناحية، يخبرنا علم الاقتصاد الكلي أن حجم الإنفاق سينخفض، ويرجع ذلك إلى ضعف الميزانيات العمومية للأسر والشركات، وموجة من حالات الإفلاس تعصف برأس المال التنظيمي والمعلوماتي، إلى جانب قوة السلوك التحوطي الناجم عن حالة عدم اليقين بشأن مسار الجائحة والاستجابات السياسية لها. من ناحية أخرى، في الوقت ذاته، يخبرنا علم الاقتصاد الجزئي أن الفيروس يعمل بمثابة ضريبة على الأنشطة التي تتضمن اتصالا بشريا عن قرب. وعلى هذا النحو، سوف يستمر في إحداث تغييرات كبيرة في أنماط الاستهلاك والإنتاج، والتي بدورها ستؤدي إلى حدوث تحول هيكلي أوسع نطاقا.
تعلمنا من النظرية الاقتصادية والتاريخ أن الأسواق وحدها ليست مناسبة لإدارة مثل هذا التحول، لا سيما بالنظر إلى كيفية حدوثه بشكل مفاجئ. في نهاية المطاف، لا توجد طريقة سهلة لتحويل موظفي الخطوط الجوية إلى فنيي تطبيق زووم Zoom. وحتى إذا استطعنا تحقيق ذلك، تظل القطاعات الآخذة في التوسع الآن أقل كثافة بكثير من حيث الأيدي العاملة، وأكثر كثافة من حيث المهارات، مقارنة بالقطاعات التي تحل محلها.
تعلمنا أيضا أن التحولات البنيوية الواسعة النطاق تميل إلى خلق معضلة كينزية (نسبة إلى جون مينارد كينز) تقليدية، ويرجع ذلك إلى ما يسميه الاقتصاديون تأثيري الدخل والاستبدال. فحتى لو كانت القطاعات التي لا تستلزم تواصلا بشريا آخذة في التوسع، الأمر الذي يعكس تحسينات في جاذبيتها النسبية، ستتضاءل زيادة الإنفاق المصاحبة لذلك أمام تقلص الإنفاق الناتج عن انخفاض الدخول في القطاعات الآخذة في الانكماش.
بالإضافة إلى ذلك، في حالة الجائحة، ثمة تأثير ثالث يتمثل في زيادة أوجه التفاوت. حيث تبدو الآلات أكثر جاذبية نسبيا في نظر أصحاب العمل، نظرا لاستحالة إصابتها بالفيروس، خاصة في قطاعات المقاولات التي توظف عمالة أقل مهارة نسبيا. ونظرا لأن ذوي الدخل المنخفض ينفقون نسبة أكبر من دخولهم على السلع الأساسية مقارنة بأولئك الذين يحتلون قمة الهرم الاجتماعي، فإن أي زيادة في أوجه التفاوت بسبب التشغيل الآلي (الأتمتة) ستخلف تأثيرات اقتصادية انكماشية.
فوق كل هذه المشاكل، نجد سببين إضافيين للتشاؤم. أولا، في حين أن السياسة النقدية من شأنها أن تساعد بعض الشركات على التعامل مع القيود المؤقتة المفروضة على السيولة -كما حدث خلال الركود العظيم بين عامي 2008 و2009- إلا أنها لا تستطيع إصلاح المشاكل المتعلقة بالملاءة المالية، ولا يمكنها تحفيز الاقتصاد عندما تكون أسعار الفائدة قريبة بالفعل من الصفر.
علاوة على ذلك، في الولايات المتحدة وبعض البلدان الأخرى، سوف تقف اعتراضات “المحافظين” على ارتفاع مستويات العجز والديون في طريق سياسات التحفيز المالي الضرورية. لا شك أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم كانوا أكثر من سعداء بإجراءات خفض الضرائب المفروضة على أصحاب المليارات والشركات في عام 2017، وإنقاذ وول ستريت في عام 2008، ومساعدة الشركات العملاقة هذا العام. لكن تمديد تأمين البطالة والرعاية الصحية، وتقديم دعم إضافي للفئات الأكثر ضعفا هي أمور مختلفة تماما من منظورهم.
في الواقع، كانت الأولويات القصيرة الأمد واضحة منذ بداية الأزمة. وكان أكثرها وضوحا ضرورة الاهتمام بحالة الطوارئ الصحية (مثل ضمان توفير الإمدادات الكافية من معدات الحماية الشخصية وتعزيز طاقة المستشفيات)، فلا يمكن أن يتحقق أي انتعاش اقتصادي حتى يتم احتواء الفيروس. وفي الوقت ذاته، من الضروري تطبيق سياسات لحماية الأشخاص الأكثر احتياجا، وتوفير السيولة لمنع حدوث حالات إفلاس لا داعي لها، والحفاظ على الروابط بين العمال وشركاتهم، وذلك لضمان سرعة عملية إعادة التشغيل عندما يحين الوقت.
لكن حتى مع وضع هذه الضروريات الواضحة على جدول الأعمال، ثمة خيارات صعبة لا بد من اتخاذها. فلا ينبغي لنا أن ننقذ الشركات التي كانت بالفعل في حالة تراجع قبل الأزمة – مثل بائعي التجزئة الذين يعملون على الطريقة القديمة. لأن هذا لن يؤدى سوى إلى خلق مجموعة من “الموتى الأحياء”، مما يحد في النهاية من حيوية ونمو الاقتصاد. ولا ينبغي لنا أن ننقذ الشركات التي كانت مثقلة بالديون بحيث لا تستطيع أن تتحمل أي صدمة. والحق أن قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بدعم سوق السندات غير المرغوب فيها، من خلال برنامج شراء الأصول الخاص بالمجلس، هو قرار خاطئ على الأرجح. صحيح أن هذه حالة يشكل فيها الخطر الأخلاقي مصدر قلق مهم؛ لكن لا ينبغي للحكومات أن تحمي الشركات من الحماقات التي اقترفتها في حق ذاتها.
يبدو من المرجح أن كوفيد-19 سيظل بيننا لفترة طويلة الأمد، ولذلك، لدينا متسع من الوقت لكي نضمن أن إنفاقنا يعكس أولوياتنا. عندما وصلت الجائحة، كان المجتمع الأميركي ممزقا بفعل أوجه التفاوت العِـرقية والاقتصادية، وتدهور المعايير الصحية، والاعتماد المدمر على الوقود الأحفوري. والآن، بعد أن أُطلق العنان للإنفاق الحكومي على نطاق واسع، يحق للجمهور مطالبة الشركات التي تتلقى المساعدة بالمساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية والعرقية، وتحسين الصحة، والتحول إلى اقتصاد أكثر اخضرارا واستنادا إلى المعرفة. ولا يجب أن تنعكس هذه القيم في كيفية تخصيص الأموال العامة فحسب، لكن أيضا في الشروط التي نفرضها على المستفيدين منها.
بحسب ما أشرت أنا والمؤلفون المشاركون في دراسة أجريت مؤخرا، فإن توجيه الإنفاق العام بشكل جيد، وخاصة الاستثمارات في التحول الأخضر، يمكن أن يتسم بالكفاءة من حيث الوقت، والكثافة من حيث العمالة (وبذلك يساعد على حل مشكلة البطالة المتزايدة)، كما يمكن أن يكون محفزا للغاية من الناحية الاقتصادية – من خلال توفير قيمة أكبر مقابل المال مقارنة بالتخفيضات الضريبية على سبيل المثال. وفي الواقع، لا يوجد سبب اقتصادي يمنع الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، من تبني برامج انتعاش اقتصادي كبيرة ومستدامة من شأنها أن تؤكد على الصورة المجتمعية التي تدَّعيها – أو تقربها من تحقيقها.
رابط المصدر: