نَشَطَ الحراك العربي تجاه سورية مؤخراً، فقد زار وزير الخارجية السوري فيصل المقداد مدينة جدة السعودية قبل يومين من انعقاد اجتماع لدول مجلس التعاون الخليجي بمشاركة الأردن والعراق ومصر من أجل بحث مسألة عودة سورية إلى جامعة الدول العربية. بدا واضحاً من البيانين اللذين صدرا في أعقاب زيارة المقداد، والاجتماع التشاوري وجود تغيير في أولويات التعامل العربي مع الشأن السوري.
تُناقِش هذه الورقة السياق العام الذي أتت فيه التحركات السعودية الأخيرة، والبيان السوري-السعودي المشترك بوصفه خارطة طريق للمبادرة العربية حول سورية بأولويات مختلفة، والتي قد تُقدَّم إلى القمة العربية المقرر عقدها في الرياض في 19 مايو 2023، كما تتطرق إلى المواقف العربية المتحفظة على المبادرة وعملية التطبيع المقترحة مع نظام الرئيس بشار الأسد.
تحركات دبلوماسية نشطة
وصل وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى جدة في 12 أبريل تلبيةً لدعوة نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود. في ختام المباحثات بين الوزيرين، صدر بيان صحفي مشترك يُعبِّر عن توافق سعودي-سوري على ما بدا أنه خارطة طريق للتعامل مع الأزمة السورية وتداعياتها، تحتوي مبادئ عامة للحل السياسي، هي: المحافظة على “وحدة سورية، وأمنها، واستقرارها، وهويتها العربية، وسلامة أراضيها، بما يحقق الخير لشعبها”. كما اتفق الطرفان خلال زيارة المسؤول السوري على استئناف الخدمات القنصلية والرحلات الجوية بين البلدين، وعليه ستُعين الرياض قريباً قائماً بالأعمال لكنْ لا يُتوقع أن تُعين سفيراً لها في سورية حالياً.
بعد يومين من زيارة المقداد، دعا وزير الخارجية السعودي نظراءه في دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى الأردن ومصر والعراق، إلى مدينة جدة للبحث في مسألة عودة سورية إلى المحيط العربي. وبالرغم من أن الرياض لم تتمكن من توفير الإجماع المطلوب خلال اجتماع جدة التشاوري، فقد حافظت على زخم مبادرتها، وأقنعت الدول المشاركة بتعديل أولويات التعاطي مع الأزمة السورية، بما يتطابق مع أولويات السعودية التي تركز على التعامل مع القضايا الإنسانية المترتبة عن الأزمة. وخارطة الطريق التي تضمنها البيان السوري-السعودي، والتي أعاد بيان الخارجية السعودية في ختام اجتماع جدة التشاوري التأكيد عليها تقريباً، لم تتطرق إلى كثير من القضايا التي تبدو أكبر من قدرة الدول العربية، مثل إعادة الإعمار التي تعارضها واشنطن والعواصم الأوروبية بنشاط، أو الوجودين الأمريكي والتركي في سورية، أو قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015، أو حتى اجتماعات اللجنة الدستورية.
خارطة الطريق وفق أولويات جديدة
تتضمن خارطة الطريق الجديدة إعلانَ مبادئ، وتقترح ترتيباً جديداً لحل الأزمة السورية عبر تجزئتها إلى مراحل متتالية، تبدأ بالتعامل مع المسائل الإنسانية التي تشمل سلاسة تدفق المساعدات الإنسانية عبر سورية، وتهيئة “الظروف اللازمة” التي تمكّن اللاجئين والنازحين من العودة إلى مناطقهم، ثم القضايا الأمنية التي تبدأ من مكافحة الإرهاب ثم بسط الدولة السورية سيطرتها على أراضيها، وتليها إخراج المليشيات من سورية. وأخيراً، يأتي التعامل مع ما يمكن تسميتها “قضايا الحل النهائي” أي التوصل إلى “تسوية سياسية شاملة” للأزمة السورية.
يتوافق الترتيب الجديد مع المقاربة السعودية الجديدة للتعامل مع الملف السوري، إذ باتت منفتحة مؤخراً على “تأجيل القضايا السياسية إلى موعد لاحق” من أجل التركيز على الأولويات الإنسانية “الأكثر أهمية”، وبالأخص “مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار”. ويختلف ترتيب الأولويات الجديد عن الترتيب السابق الذي لطالما تمسكت به الرياض. فقد كانت السعودية تُصر على ضمان استقلال سورية عبر إخراج القوات الإيرانية والمليشيات المتحالفة معها، ومن ثم تطبيق الحل السياسي على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254، على أن تتوقف عودة سورية إلى جامعة الدول العربية على التقدم الذي يُحرَز في العملية السياسية، وسيكون بالإمكان إطلاق عملية إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب وضمان الاستقرار والأمن في البلاد.
لم تعد الرياض بعد توصلها إلى الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية في 10 مارس الماضي تضع مطلب إنهاء الوجود الإيراني في سورية على رأس أولوياتها. وربما أدركت المملكة حتى قبل اتفاق بيجين أن هذا المطلب لم يعد واقعياً، وأنه يخدم استمرار الوجود الإيراني وتوسيع نفوذ طهران في سورية، نتيجة استمرار حالة اللاحرب واللاسلم فيها، فقد أدت هذه الحالة إلى إضعاف مؤسسات الدولة السورية لصالح تقوية المليشيات المدعومة من إيران وتعزيز النفوذ الإيراني، نظراً لتزايد حاجة النظام السوري إلى طهران مع التدهور المتسارع للأوضاع الاقتصادية في البلاد، وضعف قدرة النظام على إنعاش الاقتصاد السوري المحاصر بالعقوبات الأمريكية المعززة بقانون قيصر.
من جهة أخرى، فإن رهان الرياض على دور روسي نشط في إخراج الإيرانيين من سورية أو على الأقل موازنة وجودهم العسكري، تعرَّض لنكسة بعد غرق روسيا في مستنقع أوكرانيا؛ فلعوامل عدة صنعتها الحرب لم تعد روسيا قادرة على -أو راغبة في- الضغط على الإيرانيين في سورية. لذا، بات الروس يشجعون إقامة توازن قوى في سورية بين إيران وتركيا والدول العربية (بقيادة السعودية) يحافظ على دورهم الإقليمي.
ويمكن القول إن أجندة السياسة السعودية في سورية تترتب وفق الأولويات الآتية:
1. الحل الإنساني
لتأكيد أولوية القضايا الإنسانية “اتفق” الجانبان السعودي والسوري في بيانهما المشترك بشكل كامل على مرتكزات الحل الإنساني، وتوسَّعا في ذكرها بالتفصيل: أولها، “توفير البيئة المناسبة لوصول المساعدات لجميع المناطق في سورية” (بما في ذلك إدلب وشرق الفرات). ويُلبي هذا الأمر شرطاً أساسياً من شروط زيادة تدفق المساعدات الدولية والعربية على النظام، وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة قد نجحت، بعد الزلزال الذي ضرب شمال سورية في 6 فبراير الماضي، في دفع الرئيس السوري بشار الأسد للموافقة على السماح بعبور المساعدات الإنسانية إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة حكومته. وثاني تلك المرتكزات “تهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وتمكينهم من العودة بأمان إلى وطنهم”.
لم يورد البيان السوري-السعودي المشترك لفظة إعادة الإعمار، ما يعكس حذر الرياض وعدم رغبتها في الاصطدام بالموقف الأمريكي المتمسك بشدة بـ “قانون قيصر”. كما نص البيان على اتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع في كامل الأراضي السورية، من دون إيراد هذه الإجراءات بالتحديد. وكي يُظهر نظام الرئيس الأسد للسعودية انفتاحه على حرية التنقل داخل سورية، عمد إلى إزالة عدد من الحواجز العسكرية داخل مدينة دمشق قُبيل زيارة الوزير الخارجية فيصل بن فرحان مدينة دمشق في 18 أبريل، وثارت أيضاً تكهنات حول قرب صدور عفو عام جديد.
2. القضايا الأمنية
عكست خارطة الطريق حصول تفاهم بين الجانبين السعودي والسوري على مكافحة الإرهاب بأشكاله وتنظيماته كافة، لكنها شددت أيضاً على ضرورة تعزيز الأمن. بدا أن هناك ترابطاً بين دعم السعودية لدمشق في ملف مكافحة الإرهاب مقابل ما تقوم به من تعاون بشأن “مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها”، وبخاصة في ضوء تهريب الكبتاغون من سورية إلى دول الخليج عبر الأردن ولبنان.
عند هذه النقطة، يمكن للرياض والدول العربية من خلفها، بحسب خارطة الطريق، “تقديم دعم لمؤسسات الدولة السورية كي تتمكن من بسط سلطتها على الأراضي السورية، بهدف إنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري”. يعكس هذا النص في البيان السوري-السعودي، تبنّي الرياض منطقَ نظام الرئيس الأسد الذي يقول إن استعانته بإيران والمليشيات الشيعية المتحالفة معها، هو نتيجة حاجته إلى دعم عسكري لمواجهة المسلحين، وأن تقديم الدعم لمؤسسات النظام وبالأخص الجيش، سيمكّن النظام في نهاية المطاف من الاستغناء عن حلفائه الإيرانيين ومليشياتهم.
يؤكد تراجع مطالب الرياض الأمنية إلى الأولوية الثانية بعد الحل الإنساني، التحولَ السعودي فيما يتعلق بإيران، وهو تحول سببه مناخ التوافق الذي أعقب التوصل إلى الاتفاق السعودي-الإيراني بوساطة صينية في مارس الماضي.
3. التسوية السياسية وقضايا الحل النهائي
عكست خارطة الطريق قناعة الرياض بضرورة تأجيل القضايا الحل السياسي إلى مرحلة لاحقة، لذلك وبخلاف القضايا الإنسانية أو الأمنية، لم يتوصل الجانبان إلى اتفاق على الخطوات الواجب اتباعها من أجل “تحقيق تسوية سياسية شاملة”، واكتفيا فقط بـ “بحث” تلك الخطوات، وإن اتفقا على النتائج المتوخاة من هذه التسوية وهي “إنهاء كل تداعيات الأزمة السورية، وتحقيق المصالحة الوطنية”، وعندما يتحقق ذلك ستعود سورية إلى “محيطها العربي”.
ونظراً لمواقف بعض الدول العربية، ربما فضّلت السعودية الغموض الذي يثيره مصطلح “المحيط العربي”، لذا لم تلجأ إلى إيراد عودة سورية إلى جامعة الدول العربية في البيان السعودي-السوري المشترك. وربما يكون في ذهن الرياض صيغة تسمح للنظام بالعودة “بشكل ما” إلى الجامعة، لكن يوحي البيان بأن العودة الكاملة ستكون مرهونة بالتقدم في التسوية السياسية أو التوصل إلى تسوية من هذا النوع. وربما رفض النظام إلزام نفسه في الوقت الحالي بالموافقة على متطلبات محددة للتسوية السياسية للأزمة السورية، لذلك رفض أن ينص البيان على القرار الأممي رقم 2254 أو استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية.
في الختام، يمكن ملاحظة أن خارطة الطريق المقترحة سعودياً تتعامل مع “تداعيات” الأزمة السورية، وليس مع مسبباتها التي كانت محور منهج القرار الدولي رقم 2254 الذي يعالج العوامل التي أسفرت عن وقوع الأزمة السورية.
تبايُن في الآراء حيال المقاربة السعودية
سعت الدبلوماسية السعودية إلى انتزاع أوسع دعم لمقاربتها تجاه سورية من الدول العربية الفاعلة قبل عرضها على مؤتمر القمة للقادة العرب المقرر عقده في الرياض في مايو المقبل، لذلك دعت السعودية إلى الاجتماع التشاوري التُّساعي العربي في جدة بهدف تذليل العقبات أمام عودة سورية إلى الحضن العربي.
حَمَلَ امتناع المغرب عن المشاركة في الاجتماع التشاوري إشارة أولى إلى حجم الصعوبات التي تكتنف هذا المسار، ما اضطر وزير الخارجية السعودي للاتصال هاتفياً بنظيره المغربي. وفي الاجتماع أظهرت دول مثل قطر ومصر والأردن والكويت، لأسباب تخص كل دولة، أنها ليست جاهزة بعد للقبول بدعوة النظام إلى المشاركة في قمة الرياض. وقد نتج عن ذلك تعذُّر إمكانية استصدار بيان مشترك يتبنى عودة سورية إلى جامعة الدول العربية أو تثبيت المقاربة الإنسانية الجديدة، التي تدعمها الرياض، في التعاطي مع الأزمة السورية.
وكانت كلٌّ من قطر ومصر والأردن والكويت قد عبّرت عن مواقف بشكل منفصل توحي بتحفُّظها على ترحيل قضايا الحل السياسي للأزمة السورية. فقد علّق وزير الخارجية الكويتي الشيخ سالم عبد الله الجابر الصباح موافقة بلاده على عودة دمشق إلى الجامعة بالتوصل إلى “إجماع عربي”، واشترط احترام القرارات العربية السابقة التي تنص على اتخاذ الحكومة السورية خطوات بناء الثقة تشمل إطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين، وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين، واستئناف أعمال اللجنة الدستورية وصولاً إلى المصالحة الوطنية، وهو موقف أكده إصدار الخارجية الكويتية بيان رسمي تنفي فيه صحة التقارير الإعلامية عن نية الوزير الكويتي زيارة دمشق. وهو الموقف نفسه الذي عبّر عنه رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة مع تلفزيون قطر عشية الاجتماع، مؤكداً أن أسباب “تعليق عضوية سورية في الجامعة لا تزال قائمة”، وأن بلاده لن تتخذ أي خطوة إذا لم يكن هناك تقدم وَحلّ سياسي للأزمة السورية، بينما ألمحت مصادر مصرية إلى وجود تحفظات قوية يجب على النظام معالجتها قبل إعادة سورية إلى الجامعة العربية. وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري قد قال خلال لقائه وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو قبل أيام من الاجتماع أنه يتعين على “الحكومة السورية ضرورة الوفاء بقرار مجلس الأمن رقم 2254، وإيجاد مسار سياسي يضم كل الشركاء السياسيين يؤدي لإزاحة شوائب الماضي والإقدام على مستقبل أكثر إشراقاً، وضرورة عودة اللاجئين السوريين لبلادهم”. وبدوره، أبدى الأردن تحفظاً على الانخراط في تحركات من شأنها إنهاء مبادرته “القائمة على انخراط عربي سوري مباشر.. (بهدف) التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، يحفظ وحدة سوريا وتماسكها وسيادتها، ويعيد لها أمنها واستقرارها ودورها، ويهيئ ظروف العودة الطوعية للاجئين، ويخلصها من الإرهاب”، أي التوصل إلى حل سياسي بالتوافق مع تسوية القضايا الإنسانية والأمنية.
دفعت الأجواء السلبية من اجتماع جدة التشاوري النظام السوري إلى الحذر، وتأكيد أنه غير مستعجل في العودة إلى جامعة الدول العربية، وبالنسبة لدمشق فإن البيان السوري-السعودي المشترك سيظل يشكل إطار التسوية المقبولة في سورية.
خلاصة واستنتاجات
بعد اجتماع جدة، اتضح للمسؤولين السعوديين أن تحويل مبادرتهم الخاصة بسورية إلى مبادرة عربية يتطلب تذليل الكثير من الصعوبات، سواء لناحية إصرار عدد من الدول العربية على وجوب اتخاذ النظام السوري خطوات على طريق الحل السياسي، أو تعنُّت النظام في الاستجابة للمطالب العربية. وبرز هذا الأمر بوضوح خلال لقاء الوزير الخارجية السعودي الرئيس السوري في دمشق في 18 أبريل؛ فبعد اللقاء تسرَّبت أنباء عن مطالب حملها الوزير السعودي من الدول الرافضة لعودة النظام إلى جامعة الدول العربية تتمحور حول إطلاق سراح المعتقلين وفتح حوار سياسي مع المعارضة، ومن الواضح أن اللقاء لم ينجح في تليين مواقف النظام السوري.
ربما كان من نتائج الحراك السعودي الدبلوماسي المكثف إدراك الرياض صعوبة تذليل عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية خلال القمة العربية المقبلة في الرياض. ويرجح أن تواصل الرياض انفتاحها على دمشق، ولكن مبدئياً على صعيد العلاقات الثنائية نظراً لكونه الخيار الأكثر معقولية في إطار الأسباب التي نوقِشَت أعلاه، لذا قد تقوم الرياض بعد القمة العربية بدعوة الأسد لزيارتها لتأكيد جديتها في السير بمسار استعادة العلاقات بين الطرفين.
.
رابط المصدر: