في دلالة على حدوث اختراق سياسي في العلاقات التركية العراقية باتجاه مستوى مقبول من التفاهمات الثنائية، وقع وزيرا دفاع البلدين يشار غولر وثابت العباسي على الترتيب، يوم الخميس 15 أغسطس الجاري، مذكرة تفاهم تُعد الأولى من نوعها بشأن التعاون العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب، على هامش الاجتماع الأول لمجموعة التخطيط التركية –العراقية المشتركة برئاسة وزيري خارجية الدولتين، وتضمنت نقل قاعدة بعشيقة التركية إلى العراق على أن يُنشأ بداخلها قاعدة تدريب عسكرية مشتركة للبلدين، وإنشاء مركز تنسيق أمني مشترك في بغداد يُركز على المكافحة المشتركة للإرهاب ومنظمات الجريمة المنظمة العابرة للحدود مثل الاتجار بالبشر والمخدرات، كما اتفق الجانبان على منح العراقيين الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا أو تزيد عن 50 عامًا إمكانية دخول تركيا دون تأشيرة. وتُشير المذكرة إلى حرص متبادل على تجاوز فصل من الخلافات وإيجاد صيغة تعاونية على قاعدة “الأمن مقابل التنمية”، ومن هذا المنطلق تناقش الورقة دوافع الصيغة الاتفاقية الجديدة والتحديات المرتبطة بتنفيذها.
حسابات الطرفين
كانت قضية حزب العمال موضوعًا إشكاليًا في العلاقات التركية العراقية منذ ثمانينيات القرن الماضي بحيث خضعت لها حسابات الصعود والهبوط في العلاقات الثنائية وارتهن بها مقدار التقدم في القضايا السياسية والاقتصادية والتجارية والمائية والنفطية، لذلك فإن إيجاد صياغة لمعالجة تلك الإشكالية يدفع بالبلدين إلى السير على مسار إيجابي لإصلاح العلاقات الثنائية بعد مرحلة من التوترات. وفي هذا الإطار، يُمكن استعراض حسابات الجانبين التركي والعراقي بشأن توقيع مذكرة التفاهم الأمنية على النحو التالي:
1. الجانب التركي:
• معالجة الامتدادات الخارجية لإحدى المعضلات الأمنية الداخلية المتمثلة في القضية الكُردية ذات الطابع الانفصالي التي تمتنع حتى الآن عن معالجة جذورها الحقيقة مفضلة ملاحقة عوارضها الجانبية، ولعل ذلك يُفسر البُعد الأمني الحاكم والمحرك للعلاقات التركية العراقية حيث يُعتبر شمال العراق الحزام الجنوبي في استراتيجية الأمن القومي التركي اتصالًا بأن التفاعلات بداخله تؤثر مباشرةً في الداخل التركي. وعليه، تسعى أنقرة لحسم المعركة ضد العمال الكردستاني وكبح الأنشطة المزعزعة للاستقرار بالنسبة لها من قبيل عمليات التسلل عبر الحدود، وتنفيذ هجمات ضد الداخل التركي، واستهداف القوات التركية وقواعدها ونقاطها الأمنية داخل العراق. وتعتقد تركيا أن خلق كيانات للتعاون الأمني على غرار مراكز التنسيق الأمنية قد تجعل جهود البلدين أكثر فاعلية من خلال إتاحة إمكانية عقد اجتماعات منتظمة والاتفاق بشأن ترتيبات أمنية مشتركة مثل تسيير دوريات حدودية أو إنشاء أنظمة مراقبة جوية أو تنفيذ عمليات عسكرية مركزة ضد حزب العمال، علاوة على تسهيل تبادل المعلومات الاستخباراتية.
وبشكل عام، أسفرت الجهود الدبلوماسية التركية المكثفة عن اتخاذ بغداد خطوات متقدمة ضد العمال الكردستاني تضمنت تصنيف مجلس الأمن الوطني العراقي الحزب تنظيمًا محظورًا، وحل ثلاثة أحزاب سياسية ذات صلة به؛ هم: حزب الحرية والديمقراطية الإيزيدية، وحزب جبهة النضال الإيزيدي، وحزب حرية مجتمع كردستان، وتنشط هذه الأحزاب في قضاء سنجار ومناطق غربي نينوى الحدودية مع الحسكة السورية، علاوة على نقل دائرة الأحوال المدنية الموجودة في سنجار إلى قضاء البعاج بعيدًا عن نفوذ حزب العمال الذي ينشط داخل المدينة.
• خنق ومحاصرة مناطق الإدارة الذاتية وجناحها العسكري قوات سوريا الديمقراطية عن طريق قطع خطوط الاتصال البري بين العمال الكردستاني والوحدات الكردية عبر الحدود السورية العراقية، حيث تعمل مناطق انتشار الحزب داخل العراق وبالأخص سنجار كنقطة إمداد لوجستي خلفي للمناطق الكردية نظرًا لطبيعتها الجغرافية الوعرة التي تجعل الوصول إليها وكشفها وتدميرها صعبًا، وقد بنى الحزب أنفاقًا في سنجار وحولها تعمل كقنوات لنقل الأسلحة إلى سوريا عبر الحدود على غرار بنادق القنص والقذائف الصاروخية والمدافع الأوتوماتيكية والمتفجرات والذخيرة ومعدات الرؤية الليلية، إضافة إلى نقل المقاتلين بين سنجار والحسكة، كما تستخدم كقواعد عسكرية ومناطق تخزين. علاوة على إبرام الحزب اتفاقيات مع زعماء وقبائل محلية تسكن الجانب السوري من الحدود مثل قبيلة شمر وجناحها المسلح الصناديد. وعليه، فإن ملاحقة حزب العمال وتفكيك قواعده في العراق وإبعاده عن الحدود التركية والسورية بمثابة قطع للحبل السري المُغذي لمناطق الأكراد السوريين وعاملًا فعَّالًا ضمن استراتيجية تطويقهم وخنقهم.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية التركيز على الجانب العراقي في ظل استمرار الوضع المعقد بالشمال السوري، وتباطؤ وربما تعثر –في بعض الأحيان– مسار التطبيع التركي السوري وما يرتبط بذلك من تفاهمات بشأن مصير مناطق الإدارة الذاتية، والحاجة لصفقات مع الولايات المتحدة الحليف الدولي لأكراد سوريا لا سيَّما أنها تحتفظ بقوات عسكرية شرق الفرات، بينما تحظى تحركات أنقرة بحرية أكبر على الجبهة العراقية وبدرجة من الرضاء الأمريكي لموازنة النفوذ الإيراني.
شكل (1) – خريطة المعابر الحدودية بين مناطق انتشار حزب العمال الكردستاني بالعراق والإدارة الذاتية بسوريا
• إضعاف عامل السليمانية في المعادلة الأمنية والسياسية بالشمال العراقي؛ حيث تحاول أنقرة خلق توافق بين حكومتي بغداد وأربيل (بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني) والحشد الشعبي –وهو ما يكشفه وجود رئيس هيئة الحشد الشعبي ووزير داخلية إقليم كردستان ضمن الوفد الزائر لتركيا– بشأن أي تفاهمات أمنية في مناطق الشمال العراقي تتعلق بتقويض حزب العمال، بغرض تحييد دور حليفه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية الذي يوفر له الدعم اللوجستي والملاذات الآمنة كما تستضيف مناطقه مكاتب وأنشطة للحزب، إذ إن اختلاف الإرادات بين بغداد والحشد الشعبي من ناحية وأربيل من ناحية أخرى يصب لصالح تقوية كفة السليمانية. كما أن إيجاد مواقف متوافقة لدى بغداد وأربيل يصب لصالح تقدم العلاقات التركية العراقية وتسهيل التوصل لتفاهمات بين الجانبين بعكس وجود حالة خلافية تعرقل تطبيق الترتيبات المشتركة وتجعلها محل نزاع.
• موازنة النفوذ الإيراني بالعراق، حيث يُعد العراق عقدة رئيسية في استراتيجية الهيمنة الإيرانية بالشرق الأوسط، وقد شكَّل حزب العمال الكردستاني إحدى حلقاتها بتحالفه مع الحشد الشعبي في مناطق الشمال الغربي العراقي وبالأخص سنجار التي عملت كجسر مكَّن طهران من دعم الحكومة السورية وحزب الله اللبناني من خلال نقل الأسلحة والمقاتلين، علاوة على أن الطريق إلى سوريا عبر سنجار يشكل بديلًا لمعبر القائم بمحافظة الأنبار الذي تعرض لهجمات أمريكية عديدة بينما الطابع الجغرافي والتنوع الديموغرافي لسنجار يجعل منها طريق عبور عسكرية أكثر أمانًا، كما تكتسب سلسلة جبال سنجار أهمية في الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية المعادية لإسرائيل إذ يُمكن استخدامها لمهاجمة الأراضي الإسرائيلية بواسطة الصواريخ مثلما فعل صدام حسين عام 1991، فضلًا عمّا يُمثله العمال الكردستاني من أداة إيرانية لإضعاف أحزاب المعارضة الكردية الناشطة في شمال العراق مثل حزب كردستان الديمقراطي الإيراني وحركة كومله. لذلك، فإن محاصرة حزب العُمال يسلب طهران إحدى أدواتها للنفوذ داخل العراق ويمنح أنقرة قدرًا من التوازن مع الهيمنة الإيرانية لا سيَّما أن الأخيرة تستخدمه كورقة ضغط ضد تركيا كلما تطّلبت الحاجة.
شكل (2) – خطوط الإمداد اللوجستي بين إيران ووكلائها عبر العراق وسوريا ولبنان
• شرعنة الوجود العسكري التركي شمال العراق عبر منحه غطاءً قانونيًا وسياسيًا ووضع إطارًا ينظم انتشاره ونشاطه وينأى به عن انتقادات المكونات السياسية أو الأطراف الإقليمية والدولية المُعادية للنفوذ التركي، وضمان ألا تقوض التدخلات العسكرية الأهداف الاستراتيجية التركية طويلة الأجل في العراق على الصعيد الأمني والاقتصادي والسياسي، أو تربك علاقتها بحليفها الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل إذ إن استمرار العمليات العسكرية غير المنسقة ربما تقوض شرعية الحزب بين السكان الأكراد. علاوة على ضمان بقاء القواعد العسكرية داخل العراق خلال المستقبل المنظور بصرف النظر عن موقف الميداني للعمال الكردستاني انطلاقًا من اعتقاد أنقرة أنه حتى إذا خرج مسلحو الحزب من نطاق بعمق يتراوح بين 30 إلى 40 كيلومترًا على طول الشريط الحدودي فإن هذا لا يعني القضاء الكامل على وجوده، لا سيَّما في ظل عدم جاهزية البشمركة وحرس الحدود العراقي لملء الفراغ الناتج عن خروج القوات التركية نظرًا للحساسيات بشأن تعزيز الحضور العسكري للجيش العراقي داخل إقليم كردستان.
شكل (3) – مناطق الانتشار العسكري التركي شمال العراق
• تؤكد مشاركة ممثلي إقليم كردستان في الاجتماعات السياسية والأمنية استمرار المكانة المحورية للإقليم في السياسة التركية إزاء العراق؛ إذ تتمتع أربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني بأهمية استراتيجية بالنسبة لتركيا نظرًا إلى أن العلاقات بين الجانبين مكنت الأخيرة من تعزيز نفوذها داخل العراق، وعملت كقناة استطاعت من خلالها أنقرة التأثير في سياسة بغداد، كما اعتمدت تركيا على حكومة الإقليم من الناحية الجيوسياسية للعمل كحائط صد ضد نفوذ إيران ومحاربة حزب العمال الكردستاني في سوريا.
• لا تنفصل التحركات الأمنية والسياسية التركية تجاه العراق عن التطورات الإقليمية المتعلقة بحرب غزة وتصورات الفواعل الدولية والإقليمية لشكل اليوم التالي والذي حتمًا سينشأ عنه متغيرات جديدة تسعى الدول الرئيسة بالمنطقة إلى استباقها من خلال معالجة مشكلاتها الأمنية وتصفية بؤر التوتر لضمان ألا تضر أي صيغ تسوية إقليمية بمصالحها العليا. وربما يُفسر هذا اختيار أنقرة التوقيت الحالي لإنجاز التفاهمات الأمنية المذكورة لإدراكها أن إيران ستمتنع عن المعارضة الصريحة لها بهدف إرسال رسالة للولايات المتحدة ذات شقين؛ الأول: يتضمن التأكيد على أولوية الحوار وإمكانية التفاهم بشأن دور إقليمي لطهران لا يتعارض مع الرغبات الأمريكية والإسرائيلية حتى وإن كانت تفاهمات قصيرة الأجل تضمن لإيران تجاوز لحظة التصعيد الراهنة، أما الثاني فيحمل رسالة بالتهدئة الإقليمية بينما بلغ الحشد العسكري الأمريكي بالشرق الأوسط مستويات غير مسبوقة استعدادًا لاحتواء أي رد إيراني على اغتيال إسماعيل هنية مزمع تنفيذه. ومن هنا يُفهم تمثيل الحشد الشعبي في المشاورات الرسمية بين البلدين خلال الفترة الماضية، وحضور رئيسه فالح الفياض التوقيع على مذكرة التفاهم.
2. الجانب العراقي:
• تخفيف الضغوط ورفع الحرج السياسي والشعبي عن الحكومة العراقية الناتج عن تنفيذ تركيا توغلات عسكرية بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني في المناطق الشمالية ضمن عملية “المخلب-القفل” دون سابق إنذار أو تنسيق أو إبلاغ لبغداد؛ فطالما تعرضت حكومة بغداد لانتقادات من جانب المكونات السياسية واتهامها بالتغاضي عن انتهاك السيادة العراقية، وكثيرًا ما اضطرت لاستدعاء السفير التركي لإبلاغه احتجاجها على التوغلات التركية لرفع الحرج عنها. لكن مذكرة التفاهم تمنح تركيا الأساس القانوني للوجود العسكري داخل الأراضي العراقية بوضع قاعدة بعشيقة تحت السيادة العراقية، الأمر الذي يُمكن البلدين من صياغة هيكل أمني للحدود المشتركة وربما التنسيق بشأن تنفيذ عمليات مشتركة ضد حزب العمال الكردستاني.
• محاولة معالجة مسألة وجود مجموعات غير خاضعة لسلطة الحكومة المركزية، فبينما يُشكل حزب العمال مشكلة أمنية بالنسبة لتركيا، فإنه يُمثل مشكلة سيادة وطنية واستقرار سياسي للعراق، نظرًا لعلاقاته مع مليشيات مسلحة أخرى، وتحالفه التكتيكي مع الحشد الشعبي منذ 2016 واستغلالهما الموقع الجغرافي والتضاريس الجبلية لسنجار وموقعها النائي لممارسة نشاطات محلية وعابرة للحدود خارج سيطرة الدولة، لذلك تريد بغداد وضع حدًا للجهات الفاعلة غير الحكومية داخل الدولة وبسط سيطرتها على كامل الأراضي الوطنية بمساعدة الشركاء الإقليميين كونها لا تمتلك الأدوات الكاملة التي تُمكنها من مواجهة المجموعات المسلحة منفردة.
• يتصل بالنقطة السابقة مساعي الحكومة العراقية لحل قضية سنجار؛ إذ تتسق الرغبتان التركية والعراقية في ضرورة إخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من سنجار، ولعل هذا ما يُشكل جوهر الاتفاق السياسي والأمني الموقع بين حكومتي بغداد وأربيل عام 2020 تحت عنوان “اتفاق إعادة الاستقرار وتطبيع الأوضاع في قضاء سنجار” الذي ينص على إخراج مسلحي الحزب والجماعات المرتبطة به وإعادة أهالي المدينة الفارين إليها كخطوة أولى نحو تنفيذ المادة 140 من الدستور. ويتطلع البلدان أن يُسهم التنسيق الأمني بين أنقرة والمكونات السياسية والأمنية الفاعلة في المشهد العراقي بما في ذلك حكومة أربيل والحشد الشعبي –اللذان كانا ممثلين في المشاورات الرسمية بين البلدين خلال المرحلة الفائتة– في خلق تفاهم أو توافق سياسي بين الأطراف الثلاثة –بغداد وأربيل والحشد الشعبي– يدفع نحو اتخاذ خطوات باتجاه إعادة تنشيط اتفاق سنجار، لا سيَّما أن أحد مظاهر قصوره التي ربما ساهمت في عرقلة تنفيذه يتعلق باستبعاد الحلفاء المحليين لحزب العمال والحشد الشعبي من مناقشاته. وهذا الأخير يُعد الجهة العسكرية الفاعلة الأكثر قوة في سنجار، ويُمارس نفوذًا أمنيًا كبيرًا من خلال ألويته الموجودة بالمناطق المحيطة بسنجار وكذلك الفصائل المسلحة والسياسية المحلية، كما يتحالف معه زعماء المجتمعات والقبائل العربية السنية والإيزيدية. وقد لعب دورًا في عرقلة تنفيذ اتفاق سنجار عبر تدخله للوساطة بشأن هدنة بين قوات الأمن العراقية والجماعات المتحالفة مع حزب العمال، واستخدام نفوذه داخل الحكومة لمنع تعيين رئيس بلدية جديد لسنجار.
• معالجة أحد التحديات الأمنية أمام الحزب الديمقراطي الكردستاني، إذ أصبح حزب العمال الكردستاني يُشكّل تحديًا أمنيًا للحزب الديمقراطي الكردستاني بسبب تحركه نحو الجنوب نتيجة الضربات التركية نظرًا إلى أن الحزب الحاكم في أربيل يرى في هذا التحرك تعديًا على الأراضي الخاضعة لسلطته، علاوة على أنه مع تحرك حزب العمال جنوبًا تنتقل معه العمليات والقواعد العسكرية التركية، أي يتنقل القتال من المناطق الجبلية ذات الكثافة السكانية المنخفضة في أقصى الشمال بمحاذاة الحدود إلى مناطق أكثر اكتظاظًا بالسكان بما يُسبب أضرارًا للمدنيين، ويضع حكومة أربيل في حرج أمام مواطنيها لعدم قدرتهما على تلبية متطلبات الأمن لهم، ويدفعها لإدانة الهجمات التركية خشية إثارة القومية الكردية وقوات البشمركة، وذلك رغم العلاقات التحالفية بين أنقرة وأربيل.
• حلحلة بعض الملفات الاقتصادية والتجارية العالقة في ظل سياسة “ربط الملفات” التي تنتهجها تركيا تجاه العراق، بحيث تضع التقدم في القضايا الثنائية رهنًا لتلبية متطلباتها الأمنية؛ فقضية العمال الكردستاني ليست الجانب الوحيد في العلاقات بين البلدين ذات البعد الاستراتيجي؛ وإنما موضوعات مثل زيادة تدفقات المياه للعراق، وإعادة تشغيل خطي أنابيب النفط اللذين ينقلان نفط الموصل وكركوك إلى محطة جيهان -يومورتاليك في أضنة، وإعادة تصدير نفط إقليم كردستان، واتخاذ خطوات فعلية بشأن تنفيذ مشروع طريق التنمية، وزيادة التبادلات التجارية والاستثمارات التركية في العراق، وجميعها ملفات تسعى بغداد لإحراز تقدم بشأنها كونها ترفع الأهمية الجيوستراتيجية والاقتصادية للعراق لكنها تظل متعثرة بانتظار تسوية أمنية.
تحديات قائمة
رغم الخطوات الإيجابية التي أحزرتها العلاقات التركية العراقية والتقدم على صعيد التفاهمات الأمنية، فإن الحكم على استمراريتها وفاعليتها لا يزال مبكرًا، لا سيَّما أن ترتيبات أمنية سابقة متقاربة لم تأخذ طريقها للتنفيذ، ويُمكن إرجاع ذلك لبعض التحديات نذكر منها:
• احتمالية ممارسة إيران ضغوط على الحكومة العراقية سواء بشكل مباشر أو بواسطة حلفائها المتنفذين داخل دوائر صنع القرار ببغداد لإفراغ الترتيبات الأمنية من مضمونها؛ إذ يُثير الحضور التركي بالعراق قلق طهران باعتباره خصمًا من رصيدها داخل الدولة وتهديدًا للتوازن القائم مع القوى الإقليمية المنافسة، وتسعى للاحتفاظ لنفسها بموقع المتحكم الرئيسي في قواعد اللعبة السياسية العراقية. ولطالما تسببت الضغوط الإيرانية في مواقف عراقية مشددة ضد تركيا ومن ثَمّ قد تنظر طهران بريبة للتفاهمات الأمنية التركية العراقية وتعتبرها إضرارًا بمصالحها الاستراتيجية وتسعى لتقويضها لضمان إبعاد المسرح العراقي عن منافسيها.
• اختلاف الإرادات بين المكونات السياسية العراقية وارتهان قرارها في بعض الأحيان بقرار أطراف خارجية متعارضة المصالح، وهي أحد المشكلات المتجذرة في بنية النظام السياسي العراقي ولطالما تسببت في عرقلة تطور العملية السياسية الداخلية ووقفت حائلًا أمام بناء علاقات إيجابية متوازنة تتسم بالاستدامة والاستقرار مع الأطراف الإقليمية والدولية نظرًا لما تفضي إليه من ارتباك وتضارب في السياسات. وليست التفاهمات التركية العراقية ببعيدة عن تباينات القوى السياسية لا سيَّما أنها لا تحظى بإجماع داخلي نتيجة لوجود حلفاء لحزب العُمال الكردستاني في بغداد وعدم موافقة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي ينشط في السلمانية على المشاركة في جهود مكافحة حزب العمال.
• الضبط الأمريكي لمساحة التحرك التركي داخل الساحة العراقية، فلا شك أن توقيع المذكرة الأمنية حظي برضا واشنطن ضمن مساعيها لتقويض النفوذ الإيراني بالعراق، ومع ذلك، يقوض اختلاف الرؤى الأمريكية والتركية بشأن أولويات التهديد الأمني بالمنطقة، والدعم الأمريكي للأكراد واتخاذ الولايات المتحدة من إقليم كردستان مرتكزًا للانتشار العسكري في العراق وتركيا، حرية الحركة التركية بالعراق ويجعلها رهنًا للتوافق مع واشنطن، وربما يخضعها لمقايضات بين البلدين تتضمن صفقات بشأن ملفات أخرى مثل سوريا.
• يبقى من المفيد الالتفات إلى أن مذكرة التفاهم وُقعت بالأحرف الأولى بما يعني إمكانية خضوعها للتعديل سواء بالحذف أو التكميل أو الإضافة وذلك قبل إقرارها بشكل نهائي، فتوقيع ممثلي الدول بالأحرف الأولى فقط من أسمائهم يعني أنه توقيع أولي قد يجعل المذكرة أو المعاهدة أو الاتفاقية خاضعة للمراجعة من قِبَل الأطراف الموقعين عليها في غضون المدة لزمنية السابقة لموعد التوقيع النهائي. وتكتسب تلك الملاحظة أهمية بالنظر إلى اقتراب فترة انتهاء ولاية الحكومة العراقية الحالية حيث لم يتبقَ لشياع السوداني في منصبه سوى ما يناهز عامًا واحدًا، ومن ثَمّ إذا طالت فترة المشاورات السابقة لعملية التصديق على المذكرة فإنها قد تقع فريسة لتباين الإرادات.
ختامًا، يبقى القول إن العلاقات التركية العراقية دخلت مرحلة إيجابية وباتت فيها البلدان أكثر قابلية للتشاور والحوار وتقبل اختلاف مصالحهما ورؤيتهما لطبيعة التهديد الأمني، ويرتبط بذلك بتحولات السياق الإقليمي والدولي وربما لعوامل محلية أيضًا. ومع ذلك، لا يجب إغفال حقائق السياسة، فعمليات بناء الثقة بعد مراحل التوتر تستغرق وقتًا، والمصالح الاستراتيجية للبلدين متعارضة، ولا تزال رؤاهم بشأن معالجة بعض القضايا الثنائية العالقة متباينة، فبينما يعتقد العراق في عدم عدالة توزيع مياه نهري دجلة والفرات بسبب السياسات المائية التركية، فإن أنقرة تحصر المشكلة في سوء استخدام موارد الرأي مع التركيز على إمكانية ضخ استثمارات تركية لتطوير البنية التحتية المائية، وهما منظوران مغايران تمامًا، كذلك فإن مشروع طريق التنمية لا يزال يواجه عقبات لوجستية وسياسية تتعلق بالطبيعة الجغرافية لمسار المرور وموقف بعض الأطراف الداخلية، ناهيك عن مشكلات الفساد والتوترات الأمنية.
المصدر : https://ecss.com.eg/47690/