علي عواد
قبل أيام، أعلن وارن بافيت بيع معظم الأسهم التي اشتراها قبل بضعة أشهر في شركة «TSMC» بقيمة 4.1 مليارات دولار. خبر مفاجئ من مستثمر يختار بدقّة فرائسه لتبيض له ذهباً، وهذه الشركة ليست أيّ فريسة، بل هي جزء من منظومة صناعات التكنولوجيا المتطوّرة التي تهيمن على إنتاج أشباه الموصلات الفائقة الصغر الأكثر طلباً حول العالم. فما الذي يراه مستثمر يمثّل الدولة العميقة في أميركا، ولا يراه الآخرون؟
صناعة أشباه الموصلات عملية بالغة التعقيد والدقة. وهي مجزّأة حول العالم بالشكل الآتي: تصميم هندسة الشريحة وبرمجيتها يأتي من الولايات المتحدة، أما المعدات التي تصنع الشريحة فتأتي من هولندا، والمكونات التي تدخل في الصناعة تأتي من اليابان والصين، وأخيراً إن معظم التصنيع يتم في تايوان، وتحديداً في شركة «TSMC» وخصوصاً لأشباه الموصلات البالغة الصغر. استمر هذا «الستاتيكو» لسنوات عديدة، ما أمّن إمداداً مؤكداً مما يمكن اعتباره نفط العالم الحديث وشكّل عالم الديجيتال الذي نعيش فيه اليوم. لكن الأمور تغيّرت، العلاقات التجارية المفتوحة بين الدول في تراجع، والاقتصاد العالمي يتّجه نحو الأقلمة، وخصوصاً في الصناعات الاستراتيجية. فماذا يكون مصير «TSMC» في عالمٍ منقسم؟
كان تأسيس «TSMC» في عام 1987 بمثابة تعاون بين حكومة تايوان وشركة «فيليبس». لكن العبقرية وراء قيام هذه الشركة كانت متصلةً ببحث تايوان عن طريقة للانخراط في هذه الصناعة من دون إغضاب الأميركيين خلافاً لما قامت به اليابان أيام رونالد ريغان. في الوقت نفسه، كان عليها أن تؤمن غطاءً عسكرياً أميركياً يحميها من محاولة الصين الراغبة في إعادة ضمّ الجزيرة إليها. هكذا اتفق الطرفان على أن تتكفّل الشركة التايوانية بعملية التصنيع بأكلاف متدنية، في مقابل تزويدها بالتصميم والبرمجة، وعُقد الزواج.
اليوم، تعدّ «TSMC» أكبر شركة تصنيع أشباه موصلات في العالم وهي اللاعب الرئيسي في صناعة أشباه الموصلات البالغة الدقة في العالم. عملياً، تايوان هي «TSMC»، والعكس صحيح. إذ إنها ركن أساسي في صناعة بلغ حجم سوقها الكلّي نحو 556 مليار دولار أميركي في عام 2021، ووصل إلى 618 مليار دولار أميركي في عام 2022. بلوغ هذه القمّة، ثم الحفاظ عليها لم يكن سهلاً. فقد أرست الشركة نموذج عمل يركّز على إنتاج أشباه الموصلات فقط بالاستناد إلى تعزيز التطوير التكنولوجي والدقّة في التصنيع. فالشركة استثمرت بكثافة في البحث والتطوير وتمكّنت من الحفاظ على هوامش ربح عالية. في سنة 2018، بلغت قيمة استثماراتها في البحث والتطوير نحو 2.7 مليار دولار، وفي عام 2019 نحو 3.5 مليارات دولار، وفي عام 2020 نحو 3.9 مليارات دولار، و5.4 مليارات دولار في عام 2021.
الفرادة في الصناعة ضمن منظومة عالمية غربية مهيمنة، والإنفاق على البحث والتطوير التكنولوجي، عزّزا من مكانة الشركة كمقصدٍ استثماري. قد تكون أفضل مكان للاستثمار بمخاطر متدنية ومردود دائم الارتفاع. فهي الشركة التي تصنع أشباه موصلات بقياس 3 نانو متر و2 نانو متر (مستقبلاً). وكل هذا يأتي وسط طلب عالمي متزايد على منتجات أشباه الموصلات المتناهية الصغر، التي تستعمل في كل الأجهزة الإلكترونية تقريباً، من السيارات الكهربائية إلى الدرونز (طائرات من دون طيار) الصواريخ… لذا، إن قائمة عملاء الشركة تتضمن كبريات الشركات العالمية. فهي المورّد الرئيسي لشركات التكنولوجيا الكبرى. فعلى سبيل المثال، إن نحو 26% من إجمالي إيراداتها يأتي من «آبل» وحدها. أما جغرافياً، فنحو 60% من صافي ربح «TSMC» يأتي من الولايات المتحدة، تليها الصين بنحو 17%.
وفي ما يتعلق بأنواع الإلكترونيات الاستهلاكية، شكلت الهواتف الذكيّة نحو نصف صافي أرباح «TSMC»، فيما شكّلت إلكترونيات الحوسبة، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة واللوحية، نحو 30% من الأرباح. حالياً تبلغ القيمة السوقية لهذه الشركة نحو 430 مليار دولار، وهي توظّف أكثر من 52 ألف شخص، ولديها مصانع أخرى خارج تايوان ضمن شركات تابعة لها مثل «TSMC China» في شنغهاي، الصين. و«WaferTech» في ولاية واشنطن، الولايات المتحدة. و«SSMC» في سنغافورة ومصنع قيد الإنشاء في كوماموتو، اليابان. ولها مكاتب في الصين وأوروبا والهند واليابان وأميركا الشمالية وكوريا الجنوبية. كذلك، توسّع الشركة عملياتها على مستوى العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، التي تريد ضمان إمداداتها من الشرائح المتقدمة في حال حاولت الصين إعادة ضم الجزيرة إليها. ولديها مصنع قيد الإنشاء في ولاية أريزونا.
إذاً، «TSMC» هي مركز استثماري مهم. حتى إن الملياردير الأميركي، وارن بافيت، المعروف باختياراته الحذرة جداً للأسهم التي يشتريها، ابتاع بما قيمته 4.1 مليارات دولار من أسهم الشركة قبل 4 أشهر. لكن الرجل الذي يشتري الأسهم للاستثمار على المدى المتوسط والطويل، تخلّى سريعاً عن «TSMC» صادماً المراقبين عند إعلانه بيع معظم ما اشتراه من أسهم «TSMC» خلال الأيام الماضية. فما الذي يحصل؟
واقعياً، هناك إجابتان لما يمكن أن يكون قد دفع بافيت إلى البيع:
– الأول يقودنا إلى الاستراتيجيات الأميركية الجديدة. إذ بدأت شركات عدّة، تمثّل الدولة الأميركية العميقة بالهروب من كل ما يتصل بالصين وإعادة التموضع في المناطق الأقرب جغرافياً في الولايات المتحدة الأميركية أو لدى حلفائها. «آبل» قامت بالفعل بنقل بعض إنتاجها من هواتف «آيفون» إلى ولايتَي تاميل نادو وكارناتاكا الهنديتين وتستكشف نقل تصنيع «آيباد» أيضاً.
ويتوقع محلّلو «جاي بي مورغن» أن تكون «آبل» قد نقلت 5% من إنتاجها من «آيفون 14» إلى الهند بحلول نهاية العام الماضي. وقالوا إنهم يعتقدون أن 1 من كل 4 أجهزة «آيفون» ستصنع في الهند بحلول عام 2025. كذلك شركات أخرى مثل «سوني»، وشركة صانع الشرائح الأميركية «مايكرون» و«جايبل» التي تصنع «cover» الهواتف كلها بدأت الانتقال بالفعل إلى دول تعتبرها الولايات صديقة مثل فيتنام والهند وماليزيا وتايلند.
– الثاني، أشار إليه مركز «brownstoneresearch»، وينطلق من فكرة أن بافيت لديه علاقات مع أقوى السياسيين ورجال الأعمال في العالم. ولديه معطيات حول ما يجري وراء الكواليس والتي تحدّد استراتيجيته الاستثمارية. وأن خروج بافيت السريع، بحسب المركز، يعني أن تحرّك الصين تجاه تايوان بات أمراً قريباً وسيؤدي إلى انهيار سعر سهم «TSMC» بشكل كبير مؤقتاً. لكن هذه المخاطر الجيوسياسية ليست نهاية «TSMC». فالعالم بحاجة إلى الشركة لتلبية الطلب المتزايد على الشرائح.
رابط المصدر: