بينما تدخل تونس الأسبوع الثالث من استمرار أجهزة الدولة المعنية في استصدار مذكرات إيقاف ضد من تعتبرهم ينفذون مخطط تآمر ضد سلامة الدولة واستقرارها، نظمت جبهة الخلاص الوطني التي تأتلف عبر قوى سياسية وشخصيات مستقلة معارضة لسلطة الرئيس قيس سعيد ويقدرها خبراء رديفًا لحركة النهضة الذراع السياسية لجماعة الإخوان في تونس حملة مساندة للموقوفين وبعض من قياداتها على ذمة تحقيقات في قضايا تشمل حلحلة أمن الدولة وإجراء اتصالات مع منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان. وذلك في خطوة تكشف الغطاء عن خبيئة النهضة نحو التحرك عبر جبهات تضم تيارات سياسية بغية مراسلة الخارج وتدشين جدارية الاستبداد.
يظل الاتحاد التونسي للشغل الجبهة المنظمة والفاعلة التي ينبغي على الرئيس صياغة قواعد منتظمة للتفاعل مع نقاطها المشتبكة، لما تملكه من تاريخ نضالي وقدرة على الحشد، لا سيما أن تصريحات الرئيس التونسي مساء الجمعة الثالث من مارس بعثت الخلاف نحو الواجهة وذلك حين قال “اتحاد الشغل حر في تنظيم مظاهرة … لكنه ليس حرًا في دعوة أجانب للمشاركة فيها” ثم أضاف قائلًا “هل هناك دولة في العالم تقبل أن يعمل أطراف على اغتيال رئيسها ولا تتم محاسبتهم؟”.
التصريحات الأخيرة للاتحاد عبر المتحدث باسم الاتحاد سامي الطاهري ذهبت نحو تقدير حديث الرئيس قيس سعيد بوصفه يمثل خطرًا على السلم الاجتماعي. ونحو ذلك أعلنت المنظمة الشغيلة، في الرابع من شهر مارس الجاري، تنظيمها تجمعًا عماليًا في بطحاء محمد علي الحامي بالعاصمة التونسية، تليها مسيرة للاحتجاج على ما يراه الاتحاد استهدافًا له وللحق النقابي.
أمين عام اتحاد الشغل التونسي نور الدين الطبوبي في تصريحاته لمح إلى أن “العمال متحدون ضد القهر والظلم وضرب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحق النقابي والإضراب”. ونوه إلى أنه لن يكون في تونس قمع واستبداد مهما كان الثمن، وأضاف قائلًا: “اخترنا النضال وسلاحنا الوحيد هو الحجة والإقناع ولسنا دعاة عنف وإرهاب، فالاتحاد له ضوابط ومنهجية واضحة وآخر القلاع الصامدة من القوى المدنية”.
تسعى جبهة الخلاص الوطني إلى ممارسة الضغط على الدولة التونسية بعد أن أخفقت سابقًا في تأليب الشارع على مسار الخامس والعشرين من يوليو الذي دشنه الرئيس سعيد في العام 2021 والذي عزل بموجبه منظومة الحكم السابقة بقيادة حركة النهضة. وذلك عبر الدعوة للحشد من جديد لمظاهرات محلية والاستعانة بمنظمات دولية.
إلى ذلك، أعلن رئيس جبهة الخلاص أحمد نجيب الشابي خلال مؤتمر صحفي، نهاية الشهر الماضي، العمل على تكوين شبكة للدفاع عن جميع الموقوفين واصفًا إياهم بـ”المعتقلين السياسيين”، ومعتبرا أن حملة الاعتقالات تهدف إلى إلهاء التونسيين عن مختلف المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعانون منها.
في المقابل، أكد رئيس الجمهورية خلال لقائه بوزيرة العدل ليلى جفال أن تونس لها قضاة شرفاء يحتكمون للقانون، وأنه دون قضاء عادل وناجز لن يسترد الشعب حقوقه، ولن يعرف الحقيقة التي طالما نادى بكشفها، مشددًا على ضرورة ألا يفلت من المحاسبة كل من أجرم في حق الشعب التونسي.
ونوه سعيد خلال ذات اللقاء على أن الإجراءات وضعت لا للإفلات من المحاسبة، ولكن لضمان المحاكمات العادلة ومن تآمروا على أمن الدولة الداخلي والخارجي، ومن أرادوا ولايزالون مصرين على التنكيل به في كل المجالات لا يمكن أن يلعبوا دور الضحية. فالضحية هو الشعب في قوته وصحته معاشه، ومن حقه أن يحاسب في إطار القانون كل من تآمر على دولته وسطا على حقوقه.
وقد تأسست جبهة الخلاص الوطني عبر اجتماع عقد في الثالث والعشرين من شهر أبريل العام الماضي، ضم أحزاب وجمعيات معارضة ترأسه زعيم حزب الأمل أحمد نجيب الشابي من أجل تشكيل جبهة أطلق عليها “الخلاص الوطني”، حيث تم الإعلان عنها في الثالث من شهر مايو في العام 2022. وانضمت إلى الجبهة حينها خمسة أحزاب، هي: حركة النهضة، وحزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة، وحراك تونس الإرادة، وحزب أمل، إضافة إلى حملة “مواطنون ضد الانقلاب” ومبادرة اللقاء من أجل تونس، وعدد من البرلمانيين.
النظر إلى التشكيل الذي تلتئم من خلاله الجبهة يكشف بيقين عن كونها حركة رديفة تتحرك من خلالها النهضة، وتعبيرًا صادقًا عن توجهات “جماعة الإخوان” في العمل عبر آليات موازية تسمح لها بهامش المناورة التكتيكية في الفضاء السياسي، لا سيما عندما تفقد رصيدها وفائض قوتها في الشارع. وذلك ما وقع إجمالًا خلال العقد الفائت في تجربة الحكم ،وما خلفته من آثار وتداعيات سلبية مرة على منظومة الحكم، وأخرى في ذهنية المواطن، فضلًا عن وقائع فساد وقضايا تبييض أموال وتسفير الشباب نحو بؤر التوتر الساخنة.
رغم جدية هذا الهدف وتموضع أهدافه في الداخل التونسي عبر مغازلة جبهة الخلاص من خلال زعيمها أحمد نجيب الشابي للقوى الفاعلة، لا سيما الاتحاد التونسي للشغل وحزب العمال بقيادة حمة الهمامي، بيد أن واقع الحال ومرتكزاته يشي بكون ذلك عصي على التنفيذ حتى اللحظة، ولا يوجد أفق متاح لتحققه في المستقبل القريب؛ وذلك للخصومة الأيديولوجية العميقة التي تفصل اتحاد الشغل وحزب العمال من جهة وحركة النهضة من جهة أخرى، باعتبار الأخيرة النواة الصلبة المكونة للجبهة. بجانب أن الاتحاد التونسي للشغل يتحرك في مساراته من داخل منظومة 25 يوليو وإن جاءت خطواته على يسار الرئيس لكنه يرغب في آلية للتوافق وطرح مبادرة للتقريب وجهات النظر.
إن تراكم التداعي التي سقطت من خلاله النهضة عبر تجربة الحكم في عشرية سوداء حالت وتحقق التماهي مع أي قوى سياسية فاعلة في الداخل التونسي، الأمر الذي باعد بينها والرهان على تموضع جملة أهدافها من تشكل هيئات حليفة لها والتحدث بجملة أهدافها، سواء عبر جبهة الخلاص أو ما يعرف بهيئة “مواطنون ضد الانقلاب”. وذلك بسبب نزيفها المستمر لرصيدها في الشارع مما أفقدها حيوية الحضور ودينامية التأثير.
إذًا؛ يمكننا النظر إلى تلك التحركات من زاوية التأثير على القوى الخارجية، وتمرير مقولات تحقق الضغط الاعلامي في ذات الشأن، حيث تسعى النهضة نحو الظهور عبر الاحتماء بحركات رديفة. إذ تبدو كأنها ليست الوحيدة في مواجهة مسار الرئيس قيس سعيد، والإيحاء للرأي العام العالمي أن البلد يعيش استبدادًا يقر به الكثيرون، وأنها ليست بمفردها التي تناضل ضده.
وتهدف النهضة إلى هذه الخطوة كذلك حتى لا يقال إن خصومتها جاءت على خلفية إسقاط حكمها. وبذلك تحقق هدفها الرئيس في تجنب مزيد من الكراهية في الشارع، وتوحي بأنها جزء من حراك مناهض للرئيس قيس سعيد فضلًا عن تبيان معارضتها من داخل سياق سياسي تحتشد وراءه.
الأمر الذي ستجده واضحًا في تصريحات زعيم الجبهة حين قال خلال مؤتمر صحفي للجبهة عقد بالعاصمة التونسية حول ما وصفه بـ”حملة الاعتقالات السياسية وتصاعد الأزمة في البلاد” إن شبكة الدفاع ستضطلع بدور اتصالي وتواصلي وحملة إعلامية لتحسيس الرأي العام في الداخل والخارج حول حقيقة الإيقافات في تونس ووضعية الموقوفين، إلى جانب الاتصال بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان حتى تدعم “نضالات” هذه الشبكة من أجل إطلاق سراح جميع الموقوفين.
يظل الرهان الأول عند الرئيس قيس سعيد أن يتحرك خطوة للأمام في التئام مجلس النواب خلال الشهر الجاري، وأن ينجح عبر ذلك في ترميم الهيكل السياسي للدولة مما يساعده في تحقق رسالته للقوى الدولية باستقرار قواعد الدولة، مما يسمح له بتجاوز آثار الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتداعياته على المواطنين.
.
رابط المصدر: