تواجه العلاقات بين إيران وباكستان تحديات جيوسياسية غاية في التعقيد على المستويات المختلفة، وهو ما يجعل منها نمطًا متمايزًا يتراوح بين محاولات التفاهم تارة وقمة التصعيد السياسي والعسكري تارة أخرى. ولعل آخر مظاهر وانعكاسات هذه التحديات في علاقات البلدين عزم طهران التقدم بطلب للتحكيم الدولي لمقاضاة إسلام آباد والمطالبة بتعويض يبلغ 18 مليار دولار لعدم استكمال الأخيرة الجزء الخاص بها من مشروع خط الغاز المشترك بين البلدين، بعد تمديد المهلة الممنوحة لذلك أكثر من مرة آخرها حتى سبتمبر 2024، والذي يرجع بصورة أساسية إلى التهديد الأمريكي لباكستان بالعقوبات إذا ما واصلت مشاركتها في هذا المشروع. الأمر الذي يثير إجمالًا تساؤلات بشأن إمكانية أن يستمر حرص إسلام آباد وطهران على منهج إدارة التوتر في علاقاتهما أم يتجه إلى المزيد من التصعيد؟
تعقيدات متشابكة
خط الغاز المشترك: يرجع مشروع خط الغاز المشترك بين إيران وباكستان إلى اتفاق أولي وُقع في 24 مايو 2009 بين الرئيسين الإيراني محمود أحمدي نجاد والباكستاني آصف علي زرداري بعد مفاوضات استمرت 18 عامًا جرى خلالها تحول مسار المشروع ليصبح ثنائيًا يسمح بتصدير الغاز الإيراني إلى باكستان التي تواجه أزمة في إمدادات الغاز الطبيعي، وذلك بعد أن كان ثلاثيًا ثم انسحبت الهند منه عام 2008. وقد استكملت إيران الجزء الخاص بها في المشروع في عام 2012 مقابل عدم بدء باكستان في الجزء الخاص بها والتي تراوح موقفها خلال العامين الأخيرين بين إصدار إشعار بالقوة القاهرة والحدث المعذور لإيران لتعليق التزاماتها في المشروع بسبب العقوبات الدولية المفروضة على إيران في أغسطس 2023، ثم موافقة مجلس الوزراء في 23 فبرير 2024 على البدء في بناء خط أنابيب بطول 80 كم من الحدود الباكستانية الإيرانية إلى “جوادر” كجزء من المشروع، وإعلان الخارجية الباكستانية في مارس 2024 أنها لن تتنازل عن المشروع وستواصل بناء الجزء الخاص بها، وصولًا إلى الإقرار في سبتمبر 2024 بأن العقوبات الدولية تسببت في تعقيدات للمشروع.
حاولت باكستان طوال هذه الفترة الحصول على إعفاء من الولايات المتحدة من العقوبات المفروضة على إيران، وهو ما قوبل دائمًا برفض أمريكي، عبر عنه في 3 مارس 2024 المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر بأن واشنطن ستواصل فرض عقوباتها على إيران وتنصح أي شخص يفكر في عقد أي صفقة تجارية مع إيران بأن يكون على دراية بالعواقب المحتمة لذلك. وفي الشهر ذاته، قال مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون جنوب ووسط آسيا دونالد لو: “إن استيراد الغاز من إيران من شأنه أن يعرض باكستان للعقوبات الأمريكية، وأن الولايات المتحدة تعمل لمنع بناء خط الأنابيب هذا بين إيران وباكستان”. الأمر الذي عطل تمامًا أي تحرك من جانب باكستان لاستكمال المشروع، وقد تحد العقوبات المفروضة على إيران من إمكانية حصول باكستان على أي تمويلات خارجية للمشروع. وبالإضافة إلى العقوبات الأمريكية، فإن المشروع يواجه كذلك تحديات مختلفة، فعلى المستوى الأمني يمثل موقع المشروع على الحدود الإيرانية الباكستانية نقطة اشتباك كبيرة بين الجانبين، بفعل نشاط الجماعات الانفصالية في إقليم بلوشستان. أما اقتصاديًا، فتواجه باكستان وضعًا اقتصاديًا صعبًا باحتياطي نقدي يبلغ نحو 7.9 مليارات دولار فقط في يونيو 2024 وتراجع كبير في قيمة الروبية مقابل الدولار، وهو ما يعني عدم توفر الإمكانات المالية اللازمة لتنفيذ الجزء الخاص بها من هذا المشروع الضخم.
التوترات الحدودية: تمثل المنطقة الحدودية بين إيران وباكستان نقطة إثارة للعديد من التوترات بين البلدين، والتي تضيف تحديًا كبيرًا في إدارة العلاقات بين طهران وإسلام آباد. ويرجع ذلك إلى السكان البلوش القاطنين على جانبي الحدود والذين يثيرون دائمًا حملات التمرد والانفصال داعين إلى الحكم الذاتي، فضلًا عن استهدافهم للمشروعات المنفذة في هذه المنطقة الحدودية أكثر من مرة مثل استهداف المؤسسات الصينية والعمال الصينيين في بلوشستان المشاركين في مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يمر عبر الإقليم، وكذلك ضد منشآت البنية التحتية في إقليم بلوشستان الباكستاني مخلفة قتلى وجرحى، ومنها الهجوم الذي وقع في نهاية أغسطس 2024 مخلفًا أكثر من 70 قتيلًا. يضاف إلى ذلك أن النشاط المتنامي للفصائل الانفصالية في هذه المنطقة جعلها بيئة خصبة لاجتذاب العديد من التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم “جيش العدل” وحركة طالبان باكستان، مما زاد التوترات بين الجانبين والذي وصل إلى قمته في يناير 2024 عندما شنت إيران ضربات مباشرة في العمق الباكستاني قالت إنها موجهة إلى جيش العدل، في المقابل ردت باكستان بضربات في إقليم سيستان وبلوشستان داخل إيران قالت إنها استهدفت جيش تحرير بلوشستان.
مواقف متناقضة: يضاف إلى التعقيدات الاستراتيجية في العلاقات بين إيران وباكستان ما يتعلق باتخاذ كلا البلدين مواقف متعارضة في العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك؛ مما يضعهما على طرفي نقيض في هذه القضايا. ومن أهم هذه المواقف ما يرتبط بأفغانستان وخاصة بعد سيطرة حركة طالبان عليها، فعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين إيران وحركة طالبان أفغانستان فإنها كانت من أهم الداعمين لها خاصة وأنها كانت الملاذ للعديد من قياداتها وصولًا إلى اعتراف طهران بحكومة طالبان في فبراير 2023، في حين تتخذ باكستان موقفًا آخر من طالبان ارتباطًا بدعم الأخيرة لحركة طالبان باكستان التي تمثل تهديدًا كبيرًا للأمن الباكستاني؛ مما دفع باكستان إلى شن ضربات داخل أفغانستان ضد معاقل الحركة. وعلاوة على ذلك، تبرز العلاقات ما لأذربيجان من عامل آخر في توترات المواقف بين كلا البلدين، مع ورود تقارير تتحدث عن الدعم العسكري الباكستاني لأذربيجان في حرب ناجورنو قره باغ ضد أرمينيا في حين دعمت إيران أرمينيا في هذه الحرب سياسيًا وعسكريًا. هذا إلى جانب ما وُصف بكونه اختراقًا لأحد الخطوط الحمراء لباكستان وهو تجنيد إيران شيعة باكستانيين للقتال في سوريا، وبالتالي التهديد بعودة هؤلاء المقاتلين لاحقًا لإحداث الفوضى في باكستان. وهو ما يسلط الضوء إجمالًا على المنافسة الجيوسياسية الواسعة بين طهران وإسلام آباد على أكثر من صعيد.
إدارة التوتر
على الرغم من هذا التنافس الجيوسياسي والتعقيدات الكبيرة في العلاقات بين إيران وباكستان، فإن البلدين قد أظهرا قدرًا من الرغبة في إدارة هذا التوتر والتنافس بشكل يحقق قدرًا من المنافع المتبادلة لكلا الجانبين ويحد من إمكانية تطور هذا التوتر إلى مواجهة واسعة بينهما، وهو ما قد ينطبق على التوتر الناشئ عن عرقلة استكمال خط الغاز المشترك. الأمر الذي يتضح من خلال عدة عوامل مؤثرة؛ ومنها ما يلي:
العلاقات الاقتصادية: تمثل العلاقات الاقتصادية المتنامية بين البلدين عاملًا محركًا مهمًا لمسار علاقاتهما؛ إذ تربطهما علاقات تجارية بالغة الأهمية وارتفعت قيمة التجارة غير النفطية بينهما بنسبة 10% في الفترة من مارس وحتى أغسطس 2024 بقيمة 1.1 مليار دولار أغلبها صادرات إيرانية إلى باكستان، وقد بلغت قيمة صادرات إيران إلى باكستان خلال عام 2023 بأكمله -حسب تقديرات- نحو 944 مليون دولار، وبلغت قيمة صادرات باكستان إلى إيران خلال العام ذاته نحو 10 ملايين دولار، في حين ذكر سفير إيران لدى باكستان في أبريل 2024 أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ نحو ملياري دولار، مع تعهد الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي خلال زيارته إلى إسلام آباد في أبريل 2024 بزيادة هذه القيمة لتصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا، فضلًا عن الاتفاق على الانتهاء سريعًا من اتفاقية تجارة حرة بين البلدين، مع تأكيد وزير التجارة الباكستاني التزام بلاده بتعزيز التجارة الثنائية مع إيران من خلال منظمة شنغهاي للتعاون. وهو ما يُقرأ بوصفه رغبة من كلا البلدين للتغلب على التجارة غير المشروعة عبر الحدود بينهما، والتي تتجاوز قيمتها حسب تقديرات لعام 2020 نحو 3 مليارات دولار أكثرها تهريب الوقود، وذكرت تقديرات أن قيمة تهريب الوقود بين البلدين تبلغ نحو مليار دولار سنويًا.
الإرهاب كهدف مشترك: أظهرت التهدئة السريعة التي أعقبت الضربات المتبادلة بين إيران وباكستان في يناير 2024 رغبة كلا البلدين في عدم تصعيد التوتر بينهما إلى مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى تأثيرات بالغة السوء في كليهما. ويدعم ذلك فرضية أن يكون النشاط الإرهابي داخل كلا البلدين والمهدد للآخر فضلًا عن النزعات الانفصالية والتوترات الحدودية دافعًا لهما لتكثيف التعاون فيما بينهما، خاصة وأنه لا يوجد دليل قاطع على أن أيًا من البلدين يدعم نشاط المسلحين البلوش في البلد الآخر، وهو ما قد يقود إلى إشعال فتيل عمل مشترك في المستقبل ضد الجماعات المسلحة وتحسين العلاقات الثنائية في نهاية المطاف، لا سيّما مع حرصهما على إضفاء الطابع الرسمي على التجارة الحدودية التي يلعب البلوش دورًا أساسيًا فيها. ومن خلال تعزيز التعاون في هذا الإطار، يمكن لباكستان وإيران أن تعالجا بشكل مشترك التهديدات التي تشكلها هذه الجماعات، وتعزيز أمن الحدود وتعزيز الاستقرار الإقليمي. وقد أكد وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف في 18 سبتمبر 2024 بالفعل أهمية الجهود المشتركة بين طهران وإسلام آباد لمكافحة الإرهاب. وعلاوة على ذلك، فمن المؤكد أن عامل الردع النووي الذي تمتلكه باكستان يلعب دورًا كبيرًا في تفضيل الجانبين -وبالأخص إيران- تهدئة هذه التوترات.
تفهم تأثير العامل الأمريكي: يدرك البلدان حيوية وتأثير العامل الأمريكي في معادلة العلاقات بينهما بشكل كبير، والمستمد بشكل رئيس من العقوبات المفروضة على إيران جراء برنامجها النووي. ولذلك انصبت كل الجهود الباكستانية لإحياء مشروع خط الغاز المشترك على الحصول على إعفاء من الولايات المتحدة من العقوبات لاستيراد الغاز من إيران، ربما على غرار الإعفاء الممنوح إلى العراق ويجدد دوريًا لاستيراد الغاز والكهرباء من طهران، وكذلك الممنوح للهند في العديد من الجوانب التي تجعلها أكبر شريك تجاري لإيران بقيمة تبادل تجاري تتخطى 15 مليار دولار.
ومع مماطلة الولايات المتحدة في منح هذا الإعفاء لإسلام آباد لعرقلة المشروع وتلويح إيران بمقاضاة باكستان لعدم تنفيذ المشروع، يظل هناك تفهم إيران لما تفرضه الحساسيات المتعلقة بالعقوبات وكذلك بالعلاقات بين باكستان والولايات المتحدة وصعوبة إقدام الأولى على خطوة من شأنها الإضرار بهذه العلاقات، لا سيّما مع احتياجها المتنامي لتمويلات خارجية لدعم اقتصادها ومشروعاتها وخاصة من جانب صندوق النقد الدولي. وربما تترقب طهران وإسلام آباد في الوقت الحالي ما ستفرضه نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة من نتائج ومن ثَمّ التحرك بناء على أساسها، ويمكن التنبؤ برغبة البلدين في فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في هذه الانتخابات لانفتاح الديمقراطيين بشكل أكبر على الحوار مع إيران سواء فيما يتعلق بالبرنامج النووي أو غيره، وهو ما يسمح بهامش من التحرك لباكستان للحصول على الإعفاء المطلوب، مع الحفاظ على توازن دقيق بين شراكاتها الإقليمية والتزاماتها الدولية.
احتمالات التعاون الدفاعي: ربما تفرض التطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة وما يطرحه من احتمالات كبيرة لتوسيع رقعة الصراع والتطور إلى مواجهة بين إسرائيل وإيران، احتمالات أن تتعاون كل من إيران وباكستان على المستوى الدفاعي إذا ما تطورت هذه المواجهة باستفادة إيران بشكل أساسي من تطور القدرات العسكرية الباكستانية ونمو صناعة الدفاع بالبلاد. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى التقارير الإسرائيلية التي لفتت إلى حديث عن تزويد باكستان إيران بصواريخ بالستية متوسطة المدى من طراز “شاهين-3″، والقادرة على حمل رءوس نووية. وعلى الرغم من نفي الحكومة الباكستانية هذه التقارير سريعًا مؤكدة دعمها كل الجهود لمنع التصعيد في الشرق الأوسط؛ فإن إثارة مثل هذا الأمر في هذا التوقيت ربما تعطي دلالة ما على احتمالات حدوث ذلك في المستقبل القريب أو ما بعده، والذي يكون مرتبطًا بمدى قدرة البلدين على التفاهم وإدارة التوترات فيما بينهما، وكذلك بمدى قدرة إسلام آباد على إدارة لعبة التوازنات الاستراتيجية مع القوى الدولية والإقليمية.
إجمالًا، تعد التعقيدات الخاصة بمشروع خط الغاز المشترك بين إيران وباكستان جزءًا من مجموعة واسعة من التعقيدات الجيوسياسية التي تحكم علاقات البلدين والمتأثرة إلى حد كبير بالتوترات الجيوسياسية الأوسع نطاقًا. إلا أن البلدين قد أظهرا طوال سنوات وخاصة خلال الشهور الأخيرة قدرة على إدارة هذه التعقيدات والتوترات الناشئة عنها إلى حد كبير ارتباطًا بالمصالح المشتركة فيما بينها، الأمر الذي قد ينطبق على الخلاف الناشئ بشأن خط الغاز المشترك، سواء بالتوصل إلى تفاهم لتمديد المهلة لباكستان لاستكماله أو بتوصل إسلام آباد لتفاهم مع الولايات المتحدة.