مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ودخولها في الشهر السادس، منذ السابع من أكتوبر 2023، تتنامى بشكل مطرد وتيرة الانتهاكات الإسرائيلية لكافة أنماط القانون الدولي الإنساني، إلى الحد الذي ارتقى إلى جرائم الحرب، ومن جانب آخر تتنامى وتيرة العزلة الدولية على دولة الاحتلال، وذلك في ضوء التصعيد الدولي والأممي الغير مسبوق ضدها، رداً على هذه الممارسات، حتى أن الإدارة الأمريكية التي كانت من أكبر الداعمين لإسرائيل في عملياتها منذ اليوم الأول للحرب، بدأت في الصدام مع الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، إلى الحد الذي جعل صحيفة “يديعوت أحرونوت” تصف هذا التوتر بأنه “يرقى إلى مرتبة القطيعة” في تقرير حديث لها، وفي إطار هذه الحالة رفعت المقررة الأممية للأراضي الفلسطينية فرانشيسكا البانيزي تقريرها لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، الخاص بارتكاب جرائم إبادة جماعية على يد إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على أبرز الحيثيات والبنود التي جاءت في تقرير المقررة الأممية، والدلالات التي حملها، وتداعياتها المحتملة، خصوصاً فيما يتعلق بحالة العزلة الدولية على إسرائيل.
حيثيات التقرير الأممي
أصدرت مقررة الأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية فرانشيسكا البانيزي تقريرها الذي رفعته يوم أمس الثلاثاء (26 مارس/ آذار 2024) إلى مجلس حقوق الانسان في جنيف، بعنوان “تشريح عملية الإبادة”، بخصوص العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة، ويمكن إبراز أهم ما جاء في التقرير وذلك على النحو التالي:
- خلصت الخبيرة والمسؤولة الأممية إلى “وجود اسباب منطقية للقول إنه تم بلوغ السقف الذي يفيد بان أعمال إبادة” ارتُكبت “بحق الفلسطينيين في غزة”، مشيرةً إلى أن ثمة الكثير من العناصر المنطقية التي تفيد بارتكاب إسرائيل عدة أعمال إبادة في قطاع غزة.
- ذكرت المسؤولة الأممية أن طبيعة وحجم الهجوم الإسرائيلي على غزة، وظروف الحياة التي خلفها، تكشف نية مبيتة لتدمير حياة الفلسطينيين، كما أكدت أن إسرائيل ترتكب العديد من الجرائم والانتهاكات المتواصلة منذ عقود بحق الفلسطينيين، ومن بينها جريمة الفصل العنصري.
- عددت المقررة ثلاثة انواع من أعمال الإبادة: “قتل أفراد في المجموعة، إلحاق ضرر خطير بالسلامة الجسدية أو العقلية لأفراد المجموعة، وإخضاع المجموعة في شكل متعمد إلى ظروف معيشية من شأنها أن تؤدي إلى تدمير جسدي كامل أو جزئي”.
- طالبت المقررة الأممية باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للدفاع عن حق الفلسطينيين في الحياة، وإنهاء الجرائم بحقهم، وأضافت: “أجد أسباباً منطقية للاعتقاد بأن الحد الأدنى الذي يشير إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين كمجموعة في غزة قد استُوفي”.
دلالات مهمة
1- ترتبط أهمية هذا التقرير من المقررة الأممية للأراضي الفلسطينية ، باعتبارين رئيسيين أحدهما شخصي والآخر موضوعي، أما عن الاعتبار الشخصي فيرتبط بكون فرانشيسكا ألبانيزي من الخبراء الدوليين المعروفين والذين لديهم باع كبير في الملف الفلسطيني، فإلى جانب مناصبها الأممية العديدة، فهي منتسبة إلى معهد دراسة الهجرة الدولية في جامعة جورجتاون، وكبيرة المستشارين المعنية بالهجرة والتشريد القسري في مركز بحوث متخصص تابع لمنظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية، حيث شاركت في تأسيس الشبكة العالمية المعنية بالقضية الفلسطينية، وهو تحالف يضمّ محترفين وعلماء معروفين منخرطين بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية، وهو اعتبار يزيد من “موثوقية” تقرير المقررة الأممية، أما عن الاعتبار الموضوعي فيرتبط بالسياق الذي يأتي فيه التقرير، إذ أنه يأتي في سياق يغلب عليه تنامي النزعة الدولية الرافضة لإسرائيل، ووجود ما يشبه حالة الحصار الدولي للإحتلال، فضلاً عن الملاحقة القضائية في محكمة العدل الدولية، وهو السياق الذي يعني أن التقرير يمثل ضغطاً إضافياً أممياً ضد إسرائيل.
صورة أرشيفية للمقررة الأممية للأراضي الفلسطينية
2- حمل تقرير فرانشيسكا ألبانيزي، بعض الحيثيات الموضوعية المهمة، ومنها التأكيد على أن “إسرائيل تمارس الفصل العنصري ضد الفلسطينيين”، ولعل المهم في هذه التسمية، هو أن هذه الجريمة توجب المسائلة الدولية على أي طرف يرتكبها، وذلك بموجب “الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري”، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ما يحفز تحرك المحكمة الجنائية الدولية)، والمادتين 55 و65 من اتفاقية الأمم المتحدة، كما أن “الفصل العنصري” يعد بموجب هذه الاتفاقيات والمعاهدات “جريمة ذات طابع دولي، تستهدف إقامة وإدامة هيمنة فئة معينة على أخرى، عبر سياسات ممنهجة ومتنوعة”، ما يعني عملياً أن التقرير الأممي يُقر بالانتهاك الصارخ الإسرائيلي للقانون الدولي العام، وعدم خضوعه للقواعد المنظمة للقانون الدولي العام، وللقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويمكن البناء على هذا التوصيف عبر تحركات أممية ودولية لملاحقة إسرائيل بتمهمة ممارسة “الفصل العنصري”.
3- تتعدد أنماط الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، بين جرائم الحرب التي تُرتكب في قطاع غزة خصوصاً ما يتعلق بتهجير الفلسطينيين، والفصل بين غزة والضفة والقدس، وفرض قيود مشددة على حرية التنقل في الضفة الغربية من خلال شبكة الحواجز العسكرية وإغلاق الطرق، والمعاملة الدونية للفلسطينيين في مقابل الامتيازات الكبيرة لليهود، وحرمان الفلسطينيين في القدس الشرقية، بصورة ممنهجة، من تراخيص البناء، الأمر الذي يؤدي إلى عمليات هدم المنازل والإخلاء القسري بشكل متكرر، جنباً إلى جنب مع توسع الأنشطة الاستيطانية بشكل غير مسبوق، وحرمان اللاجئين الفلسطينيين من حقهم في العودة إلى ديارهم المحمية بموجب القانون الدولي؛ حيث تمنع إسرائيل العائلات الفلسطينية المهجّرة من العودة إلى قراها أو منازلها السابقة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة من أجل إدامة السيطرة الديموغرافية، والاهم هو حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، وهي كلها انتهاكات تدخل في إطار “الفصل العنصري”.
4- أقرت المبعوثة الأممية للأراضي الفلسطينية، في تقريرها ضمنياً ببعض الاعتبارات الإنسانية المهمة، وعلى رأسها توظيف إسرائيل لملف الجوع أو التجويع كسلاح ضد الفلسطينيين، من أجل المزيد من الضغط عليهم، كما أقرت المسؤولة الأممية ضمنياً بمسؤولية إسرائيل عن عرقلة إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ويأتي هذا الإقرار في أعقاب تصريحات مهمة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يوم الأحد على هامش زيارته لمصر، أشاد فيها بجهود مصر وفتحها معبر رفح «بشكل متواصل»، مؤكداً أن معبر رفح هو الطريق الأفضل من أجل نقل البضائع الإنسانية، ومحملاً إسرائيل مسؤولية تأزم الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة.
5- إلى جانب جريمة الفصل العنصري، أكدت المسؤولة الأممية في تقريرها، أن إسرائيل استوفت كافة المعايير، التي تعزز من فرضية “ارتكابها لجرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني”، ما يعزز من “موثوقية” اتهام إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، بمعنى أن هذا التقرير المهم سيكون أحد المحاور الرئيسية التي تستند عليها الدول المناهضة لإسرائيل في مرافعاتها المقبلة أمام المحكمة الدولية.
تداعيات محتملة
يحمل التقرير الأخير للمقررة الأممية للأراضي الفلسطينية، في طياته اتهام إسرائيل بممارسة الفصل العنصري من جانب، ومن جانب آخر ارتكاب جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي قد يترتب عليه العديد من التداعيات التي تتمحور حول المزيد من العزلة الدولية لإسرائيل، ويمكن إبراز أهم هذه التداعيات، وذلك على النحو التالي:
1- يمكن أن يمثل تحرك المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، أحد حلقات التصعيد الجديدة، خصوصاً وأن تحرك المحكمة كان مطلباً لعدد من الدول والمجموعات الحقوقية، ففي نوفمبر الماضي، قال كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إنه تلقى طلباً مشتركاً من خمس دول للتحقيق في الوضع بالأراضي الفلسطينية، وأضاف خان أن الطلب جاء من جنوب إفريقيا وبنغلادش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي، وقالت جنوب إفريقيا في ذلك الوقت إن الطلب قدم “لضمان إيلاء المحكمة الجنائية الدولية اهتماماً عاجلاً بالوضع الخطير في فلسطين”.
2- أحد التداعيات المحتملة التي قد تترتب على هذا التقرير الأممي، هي الإجراءات التي قد تتُخذ ضد بعض الشخصيات الإسرائيلية سواءً الحكومية أو من فئة المستوطنين، متمثلةً في فرض عقوبات مستهدِفة، من قبيل حظر السفر وتجميد الأصول، ضد المسؤولين الإسرائيليين الأكثر ضلوعاً في جريمة الفصل العنصري، وصولاً إلى فرض حظر شامل على توريد الأسلحة إلى إسرائيل، وذلك من أجل منع إسرائيل من ارتكاب جرائم حرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة.
3- يمثل تقرير فرانشيسكا ألبانيزي، إقراراً إضافياً من مسؤولة أممية رفيعة المستوى، بحجم الجرائم الإسرائيلية التي تُرتكب في قطاع غزة، والأراضي الفلسطينية بشكل عام، الأمر الذي قد تتبنى على إثره المفوضية السامية لحقوق الإنسان إجراءات تصعيدية جديدة ضد إسرائيل، بما يضمن مواجهة الممارسات الإسرائيلية، وستكون هذه الإجراءات سنداً قانونياً لبعض الهياكل الأممية الأخرى كمجلس الأمن من أجل اتخاذ إجراءات ضد دولة الاحتلال.
وإجمالاً يمكن القول إن التقرير الأخير الذي رفعته مقررة الأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية فرانشيسكا البانيزي، إلى مجلس حقوق الإنسان بجنيف، يحظى بأهمية كبيرة وذلك في ضوء تأكيده على جملة من الاعتبارات والحقائق المهمة، وعلى رأسها ارتكاب إسرائيل لجرائم إبادة في قطاع غزة، وكذا ممارسة إسرائيل لـ “الفصل العنصري” بحق الشعب الفلسطيني، وهو الوصم الذي يمثل إقراراً بكون النظام الإسرائيلي “نظام فصل عنصري”، ما سيتبعه ملاحقات قضائية واسعة لإسرائيل سواءً أمام محكمة العدل الدولية أو أمام المحكمة الجنائية الدولية أو في كافة المحافل الدولية.
المصدر : https://ecss.com.eg/44747/