حدثان وقعا على مدى اليومين الماضيين تضمنا مؤشرات على التوجهات الصينية من الأزمة الأوكرانية، الحدث الأول، كان تصريحات المتحدث باسم الخارجية الصينية التي جاءت ردًا على تلميحات الجانب الأمريكي بانحياز بكين لموسكو وكذلك ردًا على التلويح بعقوبات ستفرض على الصين إذا لم تركب القطار الغربي ومنا هنا يمكن فهم لهجة الخطاب الحادة التي فضل المتحدث باسم الخارجية الصينية توظيفها –حيث وصف السلوك الأمريكي في الأزمة بـ “المنافق”، وأضاف أن الولايات المتحدة متواطئة فيما يحدث في أوكرانيا. ولم ينس المتحدث باسم الخارجية الصينية الإشارة إلى أن إصرار الأطلسي على التوسع شرقًا وتهديد الأمن القومي لروسيا كان سببًا أساسيًا في اندلاع النزاع وما يحتوي عليه هذا التناول من دلالات متعددة- أبرزها يتضمن رفض الصين تحمل روسيا المسؤولية بل اعتبار أن قضيتهم عادلة عن طريق التأكيد أن الناتو هو من أصر على إشعال مخاوف الكرملين الأمنية.
أما الحدث الثاني، فكانت المكالمة التي جمعت بين الرئيسين الأمريكي والصيني مع الأخذ بالحسبان هنا أنها المرة الرابعة التي تجمع بين مسؤولين على مستوى رفيع من البلدين منذ اندلاع الأزمة في فبراير الماضي- ويستنتج من ذلك الأهمية القصوى لدى الولايات المتحدة لاستشفاف وجهة الموقف الصيني الذي تدرك جيدًا أنه قد يقلب الموازين ولذلك فقد حرص البيت الأبيض على توظيف طريقته المفضلة في التلويح بعصا العقوبات في وجه الصينيين – عل العصا تكون رادعة.
دعم معلوماتي
في الوقت الذي ينصب اهتمام الولايات المتحدة على الدعم الاقتصادي والعسكري الذي يمكن لبكين أن توفره لموسكو، فإن هناك تعاون بين البلدين على مستوى أهم يتعلق بتكنولوجيا المعلومات وكيفية تداول الروايات الإعلامية داخل روسيا والصين، فعلى سبيل المثال أعادت الخارجية الصينية نشر رواية الكرملين حول الأسلحة البيولوجية الأمريكية في أوكرانيا. وللحكومة المركزية في الصين خبرة مميزة في الهجمات الإعلامية المضادة وقد عانت من حملات تضليل الإعلام الغربي الذي جعل منها المسؤول الأول والأخير عن تفشي وباء كوفيد 19.
ومع اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير الماضي أصدرت السلطات الصينية تعميمًا بعدم إعادة نشر أية معلومات تضر روسيا أو تظهر التعاطف مع الغرب، كما تم التأكيد على توظيف النشرات الإخبارية الرسمية فقط والتي تديرها الدولة في الصين عن طريق وكالة الأنباء الرسمية في الصين ونظيرتها في روسيا، وللتدليل على ذلك فإنه على مدار عام 2021 والذي شهد تعاظم الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية لم تنشر صحيفة الشعب الصينية الرسمية سوى تقرير واحد خلال شهر إبريل من العام الماضي تحدث عن تمدد الناتو ناحية الشرق الأمر الذي يجبر روسيا على توخي الحذر، حيث تضمن التقرير معلومات تم نقلها مباشرة من وكالة تاس الروسية. وفي فبراير من العام الجاري نقلت Shanghai United Media Group خبرًا عن وكالة سبوتنيك الروسية أشار إلى أن الناطقين بالروسية في منطقة الدونباس في حالة فرار جماعي إلى الحدود الروسية هربًا من قمع النازيين الجدد كما وصفت الحكومة في كييف بأنها تستهدف الإبادة الجماعية للناطقين باللغة الروسية في الدونباس.
والأمر في الصين لا يتوقف عند حدود الإعلام الرسمي ولكن عند خلق حالة تعاطف شعبي لدى الصينيين من العملية العسكرية الروسية، فغالبية تعليقات الصينيين على منصات التواصل الاجتماعي تتضمن التعاطف مع روسيا ومع قضيتها بل وحتى تسمية فلاديمير بوتين ب “بوتين المجيد”. بينما ذهب الاتجاه الآخر من التعليقات إلى وصف روسيا بأنها خط الدفاع الأول عن المصالح الصينية وذلك تأكيدًا للطرح الذي يتضمن أنه إذا سقطت موسكو فإن الدور على بكين.
وفي هذا السياق، كان هناك طرف من النشطاء الصينيين على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر تعقلًا عندما أشادوا بالخطوة الصينية الرسمية بالامتناع عن التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة الذي أدان العملية العسكرية الروسية على كييف، ووجدوا أنه موقف أكثر وسطية يعزز من مبدأ الحياد بدلًا من أن تحسب بكين على المعسكر الروسي إذا ما صوتت ضد القرار، وهو ما تفهمه الولايات المتحدة حتى الآن باعتبار أنه دعم ضمني من الصين لروسيا.
وكثيرًا ما يقع الجانب الأمريكي في خطأ القياس- صحيح أن موسكو وبكين تمتلكان تنسيق عسكري على مستوى عال ولكنه تنسيق لا يرقى لمستوى التحالف العسكري- بمعنى آخر فإن أحد الطرفين لو خاض حرب فإن الطرف الآخر ليس ملزمًا بتقديم دعم عسكري كما هو الحال في تحالف الناتو وتفعيل البند الخامس منه. والدعم الصيني لروسيا هنا يشبه دعم بكين لبيونج يانج وطهران في رغبتهما برفع العقوبات، ولكنه لا يعني أن الصين ستتدخل عسكريًا إذا دخلت كوريا الشمالية أو إيران في حرب أو أنها حتى ستؤيد الحرب، ومن هنا نجد أن الصين وطوال مدة الحرب لم توجه أي نقد إلى أوكرانيا وإنما قصرت انتقاداتها على حلف الناتو والولايات المتحدة، بل أن السفير الصيني في أوكرانيا كتب في مقال وقت اندلاع الحرب أن الصين تدعم استقلال أوكرانيا وسيادتها كما أن بكين لم تلمح في وقت من الأوقات باعترافها بالسيادة الروسية على القرم ولكن ما تقوله بكين في العلن يختلف في كثير من الأحيان عما تقوله خلف الأبواب المغلقة.
وحتى الآن تتعامل السلطات في بكين بحذر من إظهار الدعم الصريح للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لأن الدعم العلني يضرب في صميم المبادئ التي بنت عليها الصين سياستها الخارجية خلال 70 عامًا ماضية، غير أنه قد يقوض شرعية النظام على المستوى الداخلي إذا ما وجدت الأغلبية الصامتة التي هي غير راضية عن سياسات الحزب الشيوعي أن النظام الذي يحكمهم يوافق على الاعتداء على سيادة الدول.
معضلة الوساطة الصينية
برزت العديد من المحاولات الأوروبية التي تحاول الدفع بالصين في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، مما يعكس حالة الافتقار الحقيقي لوسطاء آخرين خصوصًا إذا ما وضعنا بالحسبان أن تدخل الصين كوسيط في الأزمة الحالية يشبه المعضلة السياسية ،من ناحية فإن الصين شديدة القرب من روسيا ولكنها في نفس الوقت تعلي من مبدأ احترام سيادة الدول واستقلالها كمحرك لسياساتها الخارجية، في نفس التوقيت الذي تحاول فيه التقليل من أضرار العقوبات الاقتصادية على روسيا وهو ما يفسر لماذا يظهر الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية مشوشًا حتى الآن.
ويعد القرب من الروس محركًا أساسيًا في التعامل الصيني مع الأزمة، لأن موسكو وبكين يشكلان حاليًا الحلف المقابل للتمدد الغربي المتمثل في الناتو والولايات المتحدة بالنسبة لموسكو، واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وبريطانيا مجتمعين مع واشنطن بالنسبة للصين وذلك ضمن تحالف AUKUS هذا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى فإن مشاركة الصين في أي وساطة مستقبلية خصوصًا إذا ما تم تسوية الأزمة يعزز من مكانتها كشريك استراتيجي للغرب على المستوى السياسي وليس الاقتصادي فقط. وتضع بكين في حسبانها هنا أن إطالة أمد الحرب ستجعل من الميل نحو روسيا ميلًا عال التكلفة بشكل قد لا ترغب الصين في تحمله ومن ثم فإنها ستجد في الوساطة منفعة لها بالدرجة الأولى.
وإذا ما أصبحت الوساطة الصينية واقعًا فإنها ستتخذ شكلًا يقترب من حماية سيادة أوكرانيا وتقديم حلول وسط للناتو في مسألة التوسع ولكن فوق كل هذا توفير ضمانات أمنية للجانب الروسي على أقل تقدير، كي يتم تقديمها كمكسب للشعب في موسكو يعفي بوتين من المقامرة ببلاده بالدخول في حرب عبثية لم تستطع حتى إسكات القلق الأمني عند الكرملين- على سبيل المثال يمكن أن يتم التوصل لصيغة اتفاق تضمن للناتو استمراره في ضم المزيد من العواصم باستثناء أوكرانيا وربما جورجيا.
إجمالًا، يمكن وصف ما حدث في أوكرانيا بأنه شكل أكبر صدمة للأمريكيين الذين وضعوا في قائمتهم للأمن القومي مجموعة من الأولويات الجيوسياسية تضمنت الصين وإيران، واستبعدت أن يكون الناتو نقطة انطلاق لصراع يعيد تشكيل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، كما أعادت الأزمة الأمريكيين مرغمين إلى منطقة الشرق الأوسط التي وضعوها في ذيل القائمة بانسحابات ضخمة ليعودوا مجددًا لركاب عواصم الطاقة لضمان “أمن الطاقة” فوجدوا أنفسهم غير مرحبًا بهم، ليدفعوا بوساطة ضمنية بقيادة الحليف في لندن- ومرة أخرى- تبدو واشنطن وقد أخطأت التقدير حينما تصورت أن الصين يمكن احتوائها بتحالفات أمنية في الهادئ وها هي بكين تظهر لتؤرقهم لمجرد الاعتقاد بأنها قد تنحاز للحليف الروسي في الأزمة الأوكرانية، وربما على واشنطن أن تدرك أن بكين لن تقبل أن تدفع ثمن التحرك الروسي ولكنها لن تقبل أن تكون لاعبًا ثانويًا ضمن الحلف الغربي في عالم ما بعد الأزمة الأوكرانية.
.
رابط المصدر: