خالد عكاشة
في مارس من العام 2019، وهو تاريخ النصر في معركة «الباغوز» الأخيرة ضد مقاتلي تنظيم «داعش»، أعلن التحالف الدولي ومعه قوات سوريا الديمقراطية الانتصار النهائي على التنظيم، والتمكن من إلقاء القبض على الغالبية من عناصره الموجودة على الأراضي السورية. بلدة الباغوز الصغيرة النائية الواقعة بمحافظة دير الزور، مثّلت حينها الجيب الأخير الذي يسيطر عليه التنظيم بعد سنوات من الإمساك بأراضي ثلاث محافظات سورية، ومثلها على الجانب العراقي تحت راية ما سُمى بأرض «دولة الخلافة». هذه السيطرة على مكونات الجغرافيا مثّلت «العقيدة» الجديدة التي جاء بها التنظيم حينئذ، وتبوأ إثر نجاحه في تطبيقها صدارة «العمل الجهادي» وفق تسميته لنشاطه المسلح، وقبيل هذا الإعلان وتحديداً في ديسمبر 2017، كان هناك مثيل عراقي قرر فيه رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي، سيطرة قوات الجيش بشكل كامل على الحدود السورية العراقية، مؤكداً انتهاء الحرب ضد تنظيم «داعش» واسترداد كل «الأراضي» التي سيطر عليها منذ العام 2014. المشهد الأمني بالعراق يختلف إلى حد كبير عن نظيره السوري، لكن ظل هناك رابط بينهما تمثّل في المنطقة الحدودية باعتبارها المسرح الأهم بالنسبة لعمل التنظيم، هذا ما جعل العبادي يشير إلى أن السيطرة عليها هي الدلالة الأبرز للنصر على التنظيم. ويبقى تاريخ أكتوبر 2019؛ الذي شهد مقتل «أبوبكر البغدادي» زعيم التنظيم على يد وحدة من قوات «دلتا فورس» الأمريكية، بمساعدة استخباراتية ثمينة من المخابرات العراقية وعناصر أمنية تابعة لقوات سوريا الديمقراطية، في ضواحى إدلب السورية.
تحطيم الأسوار وجدوى العمليات النوعية لداعش
تظل التواريخ الثلاثة السابق ذكرها عالقة في تاريخ التنظيم باعتبارها خطاً فاصلاً بين مرحلتين من عمره، مرحلة التمكين الأولى وسطوة السيطرة على الأرض وإدارتها بالكامل لما يقارب أربع سنوات، وبين مرحلة جديدة بدأت منذ عامين تقريباً. السيناريو الموجز لتلك الفترة حتى الوصول إلى لحظتنا الراهنة، يمكن الوقوف فيها على رقم يناهز (12 ألف مقاتل) تابعين لداعش، سقطوا في قبضة قوات التحالف الدولي وشريكها من قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وأوكل للأخيرة مهمة الإشراف على احتجازهم لحين الفصل في مصيرهم، خاصة وهم يحملون نحو 50 جنسية. توزع هؤلاء على مجموعة من السجون الموجودة بالشمال السوري، منها «سجن غويران» الأكبر ويضم (5 آلاف) شخص بينهم قادة وعناصر تعتبر الأكثر خطورة، ويقع في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا. وهناك تجميع لعائلات هؤلاء المقاتلين في أكثر من مخيم أشهرها وأكبرها «مخيم الهول» الذي يضم نحو (60 ألف) سوري وأجنبي، يوصف باعتباره أكثر الأماكن دموية، ويعد قنبلة بشرية موقوتة ومتفجرة جزئياً طوال الوقت خلال العامين الماضيين. يبقى في سيناريو هذين العامين التغيير الذى انتهجه التنظيم، لضمان المحافظة على الحد الأدنى من قدراته وتأثيره في الأحداث، وهو قيامه بتنفيذ مجموعة مركزة من العمليات النوعية، من خلال وجود ما يقارب (10 آلاف) مقاتل تابعين له تمكنوا من الفرار بعد هزائم التنظيم وتوزعوا على جانبي حدود سوريا والعراق، هذا بحسب التقرير الأممي الصادر في فبراير 2021 الذى أشار حينها إلى مئات العمليات التي وقعت في العراق وسط البلاد وشمالها، بلغت أحياناً قلب بغداد حيث عاد التنظيم إلى أسلوبه القديم في التخفي، وشن الهجمات الخاطفة على طريقة حرب العصابات.
هذا بإيجاز شديد، لمحة عن قدرات التنظيم في اللحظة الراهنة التي بدأ فيها مرحلة «تحطيم الأسوار» من أجل استرداد مقاتليه وتحرير قياداته. هناك رواية كردية رسمية للقوات المسيطرة على المنطقة التي شهدت عملية الهجوم الأخير، تحدد عدد المهاجمين على سجن غويران بـ(200 مقاتل)، وأن هذا المخطط أُعد له من ستة شهور سابقة، حيث دخل غالبية المنفذين من منطقتي «رأس العين» و«تل أبيض» الخاضعتين لسيطرة تركيا، والبعض قدم من العراق. استُخدم في الهجوم (8 سيارات) مفخخة تابعة لـ«داعش» حاولت اقتحام البوابة الرئيسية للسجن، جرى التعامل معها، لكن سيارة أخرى مفخخة أيضاً هاجمت بوابة أخرى ويبدو أنها تمكنت من اقتحامه، رغم أن القوات الكردية صرحت بأنها قضت عليها لكن بعد ذلك الهجوم الثاني انتقل القتال إلى داخل أسوار السجن ومبانيه، مما يشي بأن خرقاً فعلياً قد جرى. هذه الرواية تحدد عدد من سقطوا في الاشتباكات التي استمرت لأربعة أيام أو يزيد إلى (175 داعشياً)، 150 منهم كانوا عناصر الهجوم للتنظيم و15 آخرون كانوا يسعون للفرار من السجن واشتبكوا مع القوات، التي سقط منها 27 من الحراس وقوات الإسناد التي هرعت للمكان. المرصد السوري يرتفع بالعدد الأخير من قتلى قوات سوريا الديمقراطية إلى 120 شخصاً، بينهم مدنيون يقطنون حي الزهور المجاور، وهو أمر أقرب للواقع، خاصة مع إعلان القوات السورية عن انطلاق حملة ملاحقة لمجموعة خلايا موجودة بهذا الحي، إثر ذلك دارت اشتباكات عنيفة يتصور أنها أسقطت ضحايا بالفعل مع لجوء الأهالي إلى النزوح بالآلاف (4000 مدني) جراء تلك الأحداث. وأخيراً بعد مشاركة طائرات أمريكية تابعة للتحالف في طلعات إسناد جوى، للقوات الكردية العالقة في اشتباكات لم تتمكن من حسمها لصالحها بعد أربعة أيام كاملة، وبمشاركة 10 آلاف جندي، حيث بدأ استهداف مجموعة من المباني المجاورة للسجن تمترس فيها مقاتلو داعش لأيام، تمكنوا خلالها من إدارة اشتباك نيراني ممتد مع القوات الكردية.
خلال هذه العملية الممتدة في الحسكة السورية، كانت هناك عملية نوعية خاطفة قام بها التنظيم ضد وحدة عسكرية للجيش العراقي بمحافظة ديالى، تمكن فيها من إسقاط (12 عسكرياً)، قبل أن تتمكن عناصره من الخروج سالمة من المكان. هذه بعض من الإشارات الدالة على قدرات للتنظيم، يبدو بجلاء أنه تمكن من استعادتها مؤخراً في كل من سوريا والعراق، تنذر في طياتها بالكثير الذي لن يقف بالطبع عند حدود الدولتين، وهذا يحتاج لقراءة معمقة واستكشاف دلالات استعادة تلك القدرات.
بين التكيف وإدارة الارتباك: تحولات تنظيم داعش
عند النظر إلى قدرات تنظيم «داعش» في هذا الفصل الراهن من مسيرته، يتبين حدوث العديد من التحولات الهامة على المستويين الاستراتيجي والعملياتي، والتي يمكن إجمال أبرز ملامحها فيما يلي:
١. المرونة واستعادة الزخم: استعاد تنظيم داعش مع بداية هذا العام قدراً من زخم ترتيب الصفوف، واختيار الأهداف بعناية مع جاهزية نسبية من عناصره الطليقة للتحرك بمرونة ما بين سوريا والعراق، تلك الجاهزية تمثلت في القدرة اللوجيستية التي تضررت بشدة فيما بعد معركة الباغوز 2019، اليوم تستعيد بعضاً من إمكانياتها بحيث يمكنها نقل وتجهيز عشرات المقاتلين التابعين للتنظيم إلى نقاط الاستهداف، فضلاً عن تزويدهم بالسلاح والذخائر والمفخخات حيث تضعهم تلك الإمكانات الجديدة أمام تنفيذ خاطف كما الحال في الهجوم على النقطة العسكرية في ديالى بالعراق، أو عبر عملية مركبة وطويلة نسبياً مثلما جرى في نموذج الهجوم على سجن «غويران» بالحسكة السورية.
٢. تصاعد العمليات النوعية:بالنظر لدلالات ما جرى يتضح أنها قد لا تقف عند حدود مدينة الحسكة وحدها فقد كان هناك العديد من إرهاصات الوصول لهذا المشهد الفارق. فخلال ما يتجاوز الستة شهور مضت ظل منحنى التصاعد في وتيرة العمليات النوعية، بداخل سوريا وفى العراق أيضاً لافتاً ويشى بأن التنظيم لديه الإرادة كي يعود مجدداً، وهذه تمثل أولى الدلالات التي لا يمكن عبورها، فلم تكن تلك الإرادة حاضرة بهذا الإصرار للحد الذي جعل التنظيم يكشف عن قدرة متميزة على التكيف، رغم ما يعانيه من انهيار كامل لقوامه القيادي على وجه الخصوص، وينسحب بالطبع على بقية تشكيلاته القتالية التي تقبع القوة الضاربة منها داخل سجون الشمال السوري. هذا التكيف بدأ صياغته القائد الجديد للتنظيم، الذي يبدو تخلى عن البروباجندا الإعلامية التي اشتهر بها التنظيم لصالح تأكيد أن هزيمة ومصرع سلفه البغدادي، ليست كلمة النهاية، والتأكيد على أنها جولة لها ما بعدها من أفكار مبتكرة وقدرة على تقديم الانتحاريين، كي يتغلب التنظيم على فارق الإمكانيات، بينه وبين جهاز مكافحة الإرهاب في العراق وقوات سوريا الديمقراطية في سوريا.
٣. إدارة الارتباك والاستهداف الذكي: عدن تحليل النشاط الإعلامي الحالي للتنظيم، يتضح أنه ابتعد عن أدائه القديم الذي استخدم فيه آلته الإعلامية في تضخيم قدراته والاحتفاء بعملياته القتالية، وذهب إلى نمط أكثر ذكاء وفاعلية عندما وجّه جهده الرئيسي إلى ضرب مصداقية قوات التحالف، بل واخترق حلفاءها في كل من سوريا والعراق ليضخ معلومات على نطاق واسع تروج للترهل الذي أصابها، وتقتنص حقائق الخلافات ما بين مكونات تلك الجبهة المضادة له طوال الوقت. وما جعل هذا الأمر يكتسب فاعلية مجدداً تمثلت في تحفيز حركة التجنيد وتأجيج مشاعر أتباع التنظيم، أنها كانت تستند على وقائع يلمسونها على الأرض ولها عديد من الإشارات الدالة على صحتها. فيكفي حالة الترهل التي بالفعل أصابت حالة مكافحة الإرهاب بشكل عام في تلك المناطق، رغم عشرات التقارير الاستخباراتية والتحليلات الرصينة المنشورة التي ظلت تؤكد أن «داعش» ما زال على قيد الحياة، بل وانحاز الكثيرون إلى إمكانية وخطورة عودته في ظل معطيات الارتباك التي خيمت على كلتا الساحتين للمجابهة وبينهما المنطقة الحدودية.
دلالات الارتباك وفقدان الإرادة الصلبة لمجابهة خطر التنظيم، بالعشرات وأكثر من أن تحصى، لكن يظل الأخطر فيها هي قدرة التنظيم على قراءتها بدقة، واستخدام الفجوات الناتجة عنها في تسديد ضرباته المؤثرة. فليس هناك أبلغ من قدرته على حشد (200 مقاتل) مزودين بالسلاح والذخائر والسيارات المفخخة، تحت أنظار القوات الأمريكية والروسية التي تنتشر في عدة مناطق من محافظة الحسكة، وعبر مناطق تسيطر عليها قوات موالية لتركيا وتدار من قبل عسكريين أتراك موجودين على الأرض، حتى الوصول إلى أسوار سجن «غويران» في قلب المنطقة الأكثر تحصيناً وحراسة من قبل قوات سوريا الديمقراطية.
٣. القدرة على الاختراق: تفتح حالة التعتيم وتضارب البيانات التي تحمل معلومات موثقة عن طبيعة ما جرى، نافذة هي الأخرى عن قدرة اختراق استثنائية نجح فيها التنظيم بالنظر إلى حجم التنسيق الذي جرى بين المقاتلين المهاجمين وبين السجناء الذين نجحوا في الفرار، واشتركوا مع قرنائهم في إدارة معركة نيران استغرقت أياماً في الأحياء المحيطة بالسجن. وهذا مما لم تتمكن حالة التعتيم من إخفائه، ليتكشف بالتبعية أن هناك توزيعاً منسقاً لأدوار جرى تقاسمها بين مكونين من المقاتلين، وهذا تفسيره الوحيد أن حجم الفساد الذى لعب لصالح التنظيم لم يكن بالقليل، إما أن يكون هناك تجنيد عقائدي ساهم في إنجاح الأمر على النحو الذى جعل المعركة تستغرق كل تلك الفترة، وتسير على الصورة التي استدعت بعد أيام تدخل القوات الأمريكية بالقصف المباشر لمحيط السجن، حيث لا يمكن فهم طبيعة هذا النمط من المجابهة، إلا أن يكون إنقاذاً لانهيار وشيك أو لترميم نتائج مروعة كانت على وشك الحدوث.
عادة في مثل تلك الوقائع التي يلفها غموض كثيف مثلما جرى في الحسكة، وفي ظل ما يبدو من انعدام احتمالية أن يتم الإفصاح قريباً عن السيناريو الحقيقي لما جرى، تصير أهم الدلالات ممثلة في البحث عن المستفيد من خروج المشهد بهذه الصورة، وقبلاً السماح به وتمريره من أجل أجندة مصالح خاصة ما زالت غامضة هي الأخرى. ففي الشمال السوري الذي يعج بالمتنافسين، قد يبدو من الصعوبة بمكان الوقوف على حقيقة معادلة العداء التي يمكن أن تعطى إشارة واضحة ومتكاملة، فإن كان الجانب التركي الذي سمح بمرور مقاتلي داعش من المناطق التي يسيطر عليها، كي يصل ويسدد ضربة انتقامية للقوات الكردية التي تسببت في هزيمته وتحتجز قوته الضاربة في سجونها، أمر متوقع ويمكن الاستناد على وجاهته. يطل الوجود الروسي الذي لا تغيب عنه مثل تلك التحركات بعد أن تمكن من نشر قوات له بالقرب من مسرح عمليات الشمال، ويفترض وجود تمثيل لقوات النظام السوري شريكة له، فأي مصلحة يمكن لهذين الطرفين تحقيقها بدفع هؤلاء أو غض الطرف عنهم على الأقل كي يصلوا لهذا الموقع المتقدم، وبتلك الكفاءة التي ستسجل لصالح التنظيم بالتأكيد؟ هذه أسئلة أولية تقودنا لبعض من الدلالات التي قد تضئ حول المشهد، لكنها بالطبع ليست كاملة إلى أن تستجلي بقية التداعيات حتى يمكننا العودة للأمر مرة أخرى، وهذا يقيناً لن يكون بعيداً زمنياً عما جرى.
.
رابط المصدر: