في إطار تصعيد الضغط على أكبر اقتصادات القارة الأوروبية، أثار إعلان روسيا تخفيض صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا العديد من المخاوف بشأن احتمالات نقص الوقود في أوروبا الشتاء القادم؛ إذ يُمثل هذا التخفيض الروسي في إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا أحدث تصعيد في المواجهة بين أوروبا وروسيا بشأن الطاقة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي هذا السياق، اتهم سياسيو الاتحاد الأوروبي روسيا باستخدام “الغاز الطبيعي” كسلاح موجه ضد عقوبات الاتحاد الأوروبي، من خلال تلويح روسيا بإغلاق صنبور الغاز الواصل لأوروبا، الأمر الذي استغله الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلنيسكي” ليوضح للعالم أن التخفيضات الروسية للغاز الطبيعي هي “ابتزاز” روسي واضح للدول الأوروبية ككل.
هذا وتجلى أبرز مظاهر الضغط الروسي على القارة الأوروبية في تباطؤ وتيرة تدفق الغاز الطبيعي عبر خط الأنابيب “نورد ستريم” –وهي القناة الرئيسية لتزويد أوروبا باحتياجاتها من الغاز الروسي– وذلك منذ إعلان روسيا عن ذلك التخفيض، حتى وصل يوم 17 يونيو 2022 إلى 55% فقط مما كان عليه يوم 13 يونيو 2022.
وفي السطور التالية، سنعرض بإيجاز لتداعيات القرار الروسي على الصعيد الأوروبي، والأسباب المُعلنة والخفية وراء القرار الروسي بتخفيض الإمدادات، وسنعرض في الأخير للبدائل الأوروبية، والتي تُمكن الدول الأوروبية من الفِكاك من قبضة الروس.
التداعيات على الصعيد الأوروبي
في حال استمرار نقص الإمدادات من روسيا، فمن المرجح أن تنفذ الإمدادات في أوروبا بحلول يناير 2023، فضلًا عن الضغط الذي سيواجه المرافق الأوروبية لتغطية احتياجات فصل الشتاء. بجانب أن انخفاض عمليات التسليم سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وهو ما سيكون مُكلفًا للصناعات، خاصة في ألمانيا التي تحتاج مصانعها إلى كميات هائلة من الغاز في الكيماويات والحديد والأسمنت والأسمدة.
وستنعكس تداعيات ذلك في زيادة الضغط وإثارة قلق واضعي السياسات الاقتصادية، في الوقت الذي يحاولون فيه احتواء معدلات التضخم المرتفعة؛ فزيادة تكاليف الطاقة تخاطر بتقويض جهود البنك المركزي الأوروبي لكبح زيادات الأسعار.
في سياق آخر، أكدت شركة “يونيبر أس إي” (Uniper SE) الألمانية، أكبر مستورد للغاز الروسي في القارة، أنها تتلقى 40% فقط من الغاز الذي تحتاج إليه من شركة الغاز الروسية المملوكة للدولة “غازبروم”. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت شبكة الغاز الفرنسية أنه لم يتدفق الغاز إلى البلاد عبر حدودها مع ألمانيا مُنذ يوم 15 يونيو 2022، وأفادت إيطاليا –ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو-بأن شركة “إيني” (Eni) تلقت فقط نحو 50% من إمدادات شركة الغاز الروسية المملوكة للدولة “غازبروم”.
وبالإضافة إلى القلق بشأن النمو الاقتصادي، فإن المستهلكين يتعرضون لضغوط بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وقد يؤدي تقنين الطاقة وفواتير الغاز المرتفعة إلى إضعاف الثقة في الحكومات، ما يترتب عليه تداعيات سلبية على الصعيد السياسي، الأمر الذي سيفرض على الحكومات إيجاد حلول وطرق بديلة لامتصاص غضب الشارع.
الدوافع الروسية
جاءت الخطوة الروسية بتخفيض إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا بحوالي 60%، عقب يوم واحد من سفر المستشار الألماني “أولاف شولتس” والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ورئيس الوزراء الإيطالي “ماريو دراجي”، إلى “كييف”، وربما يكون هذا هو الهدف الخفي للقرار الروسي بتخفيض الإمدادات.
وتأتي الإجراءات الروسية الأخيرة بتخفيض صادرات الغاز إلى أوروبا كرد فعل على مواجهة العقوبات الأوروبية والدعم العسكري لأوكرانيا، مُستهدفة بذلك قدرات أوروبا على تشغيل اقتصاداتها بعيدًا عن الغاز الروسي؛ إذ تعتمد القارة الأوروبية على الغاز الروسي لتوليد الكهرباء ووقود المصانع وتدفئة المنازل، والتي تُمثل نقطة ضعف يستغلها الكرملين الآن.
ومن خلال تقليص صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، تسعى روسيا جاهدة إلى تكثيف الضغط الاقتصادي على الشركات والأسر التي تُعاني بالفعل من مُعدلات التضخم المرتفعة بالقارة الأوروبية مُنذ عقود مدفوعة بارتفاع تكاليف الطاقة؛ لذلك تُسابق أوروبا للحصول على مصادر بديلة للغاز مُنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتكافح لتعويض النقص الحالي في الإمدادات الروسية؛ تجنبًا للتعرض لتوقفها بالكامل.
على الجانب الآخر، فقد أعلنت شركة الغاز الروسية “غازبروم” أن تخفيض صادرات الغاز الروسية جاء نتيجة تأخر الشركات الألمانية في إجراء تحديثات خطوط الغاز –وهذا هو السبب المُعلن من قِبل الروس- إلا أن العديد من المسؤولين الأوروبيين والمحللين في قطاع الطاقة قاموا بنفي هذه الادعاء، مؤكدين أن تخفيض الصادرات الروسية يبدو أنه يهدف إلى اختبار تصميم الاتحاد الأوروبي على معاقبة روسيا على الحرب في أوكرانيا، في إشارة إلى أن “موسكو” يُمكن أن تغلق خط الأنابيب بالكامل في أي لحظة، خاصة وأن “موسكو” قد قامت في وقت سابق بقطع إمدادات الغاز الطبيعي عن بولندا وبلغاريا وفنلندا وهولندا والدنمارك.
البدائل الأوروبية
في الوقت الذي تتسابق فيه أوروبا لإبعاد نفسها عن الطاقة الروسية، يُكافح منتجو الغاز الطبيعي بالولايات المتحدة الأمريكية لتلبية الطلب الأوروبي، ومواجهة ارتفاع الأسعار، إلا أن إعلان روسيا تخفيض إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا قد وضع الاقتصادات الأوروبية بالفعل في أزمة اقتصادية واسعة النطاق.
فقد شكّل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي مع خطر أن تقطع موسكو الإمدادات -ردًا على العقوبات الاقتصادية المفروضة- بعد شن عملياتها العسكرية في أوكرانيا مصدر قلق للاتحاد الأوروبي، مما دفعه إلى زيادة المخزونات والبحث عن إمدادات بديلة. وتدرس ألمانيا –التي تعتمد على روسيا في أكثر من ثلث إمداداتها- مجموعة من الخيارات لتقليل الطلب على الغاز؛ من بينها حث المواطنين على توفير الطاقة.
ومن المرجح أن تطلق إيطاليا خطة طارئة للغاز خلال وقت قريب، في حال استمرت روسيا في الحد من الإمدادات، وهي خطوة تنطوي على اعتماد أكبر أنواع الوقود تلوثًا، من خلال استخدام المزيد من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم لتعويض النقص، كما أعلن ذلك وزير الاقتصاد الألماني “روبرت هابيك”.
وردًا على الخطوة الروسية، يحاول المفاوضون من الدول الأعضاء في مجموعة السبع الصناعية بحث آلية لمناقشة احتمال إدخال حد أقصى لسعر واردات الطاقة من روسيا، كجزء من الاستعدادات لعقد قمة في وقت لاحق من هذا الشهر، للتباحث حول ما يُمكن القيام به في مواجهة التعنت الروسي.
هذا ويشكل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، واحتمال قطع موسكو الإمدادات بعد قرار التخفيض؛ ردًا على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد غزو أوكرانيا، مشكلة كبيرة للكتلة، ودفعها ذلك إلى ملء الخزانات والبحث عن إمدادات بديلة.
وفي هذا السياق وردًا على التخفيض الروسي للغاز، انضمت شركة “إيني” الإيطالية، يوم 19 يونيو 2022، إلى مشروع “قطر إنرجي”؛ لزيادة الإنتاج من أكبر حقل للغاز عالميًا. وفي هذا السياق، قال “سعد الكعبي”، وزير الطاقة القطري والرئيس التنفيذي لشركة “قطر للطاقة”، إنًّ “إيني” ستمتلك حصة تزيد قليلًا على 3% في مشروع حقل الشمال الشرقي الذي تبلغ تكلفته 28 مليار دولار، لتُعد شركة “إيني” ثاني شركة أجنبية تفوز بحصة في المشروع. وكانت شركة “توتال” الفرنسية، أول وأكبر شريك أجنبي في المشروع، بحصة بلغت 6.25%. ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل الغاز في المشروع في عام 2026، وسُيساعد قطر على زيادة انتاجها من الغاز بأكثر من 60%.
وعلى الرغم من أن أوروبا رفضت الصفقات طويلة الأجل في الماضي، لكنًّ الصراع الأوكراني أجبرها على تغيير موقفها، وكذلك تُعد قطر من المصادر الأقل تكلفة في الوقت الراهن، وبالتالي فهي جذابة بشكل كبير للشركات الكبرى العالمية.
ويحاول الاتحاد الأوروبي كذلك خفض واردات الغاز من روسيا بمقدار الثلثين بحلول نهاية العام، وقد استخدم الغاز المُسال، المستورد من الولايات المتحدة لبدء سد تلك الفجوة. لكن انفجارًا وحريقًا في منشأة تصدير أمريكية رئيسية في “فريبورت” بولاية تكساس أوقف “خُمس” طاقة تصدير الغاز للبلاد وأكد المخاوف بشأن هشاشة إمدادات الغاز في أوروبا.
ختامًا، وعلى الرغم من استقرار أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا حنى الأن، ما يدحض التخوفات بشأن مصادر القلق التي تنتاب أوساط بعض الأوروبيين بشأن النقص الفوري للغاز الطبيعي في الفترة المُقبلة، إلا أن مسألة نقص إمدادات الغاز الروسي لا تزال مصدر قلق للجانب الألماني بشكل أكبر من الجانب الفرنسي والإيطالي؛ نظرًا إلى افتقار ألمانيا الوصول إلى مصادر الغاز الطبيعي المُسال، وحال عدم قيام روسيا بتعزيز تدفقات الغاز عبر خط الغاز “نورد ستريم” إلى المستويات الطبيعية، فإن الاتحاد الأوروبي ككل سيُكافح لتحقيق هدفه المتمثل في دعم المخزون الألماني بنسبة 80% بحلول نوفمبر القادم.
.
رابط المصدر: