بعد مرور ما يقرب من عام على حرب غزة، يمكن القول إن السياسات المتطرفة في إسرائيل أسهمت بشكل كبير في تشكيل الرأي العام تجاه الفلسطينيين ولبنان، وكذلك تجاه حل الدولتين الذي يحتضر.
وقد أحدثت السياسات الصارمة والمتشددة التي تبنّتها الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو تحولا في نظرة المواطنين اليهود الإسرائيليين إلى المشهد السياسي، وفي كيفية تقييمهم للخيارات السياسية المتاحة مقارنة ببعضها البعض.
وأزعم أن السياسات والمواقف اليمينية المتطرفة التي يتبناها الوزراء الحاليون تُسهم في تصوير السياسات اليمينية وكأنها وسطية، ما يجعلها أكثر جاذبية في عين الناخب العادي. هذه الديناميكية تتضح من خلال استطلاعات الرأي الأخيرة التي منحت رئيس الوزراء نتنياهو وحزبه “الليكود” تفوقا على الأحزاب الأخرى، فيما لو جرت الانتخابات الشهر الماضي.
وتولّى الائتلاف الحكومي الحالي، برئاسة نتنياهو وحزب “الليكود”، السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2022 بعد الانتخابات العامة. ويتكوّن هذا الائتلاف من 64 من إجمالي 120 مقعدا في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بشكل رئيس من حزب “الليكود” الذي حصل على 32 مقعدا، بالإضافة إلى الصهيونية الدينية التي فازت بـ14 مقعدا.
وفي تلك الاستطلاعات، ارتفعت شعبية نتنياهو الشخصية بشكل ملحوظ لأول مرة منذ اندلاع حرب غزة، وهي الحرب الأطول في تاريخ إسرائيل، في وقت كانت البلاد على حافة مواجهة جديدة مع “حزب الله” المدعوم من إيران في لبنان، وربما حرب مباشرة مع إيران ذاتها.
وجاءت هذه الزيادة في شعبية رئيس الوزراء على الرغم من “إصلاحاته” القضائية المثيرة للجدل، التي أشعلت أكبر موجة احتجاجات مناهضة للحكومة منذ تأسيس إسرائيل في عام 1948، والإخفاقات الأمنية الكبيرة في عهده، واستمرار احتجاز العشرات من الرهائن لدى “حماس”، بالإضافة إلى إصراره على إعادة احتلال أجزاء من غزة، على الأقل في الوقت الحالي.
كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ أحد الأسباب المحتملة، كما أزعم، هو الاستقطاب المتزايد بين أحزاب المعارضة المعتدلة في إسرائيل؛ هذا الاستقطاب جعل الجمهور الإسرائيلي أكثر تعرّضا لخطابات متطرفة من كلا جانبيَّ الطيف الأيديولوجي: اليسار المتطرف واليمين المتطرف.
فخلال الحرب الحالية على غزة، تعرّض ملايين الإسرائيليين لموجة غير مسبوقة من الأفكار السياسية المتطرفة والعنصرية التي روّج لها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش والجدير بالذكر أن بن غفير أدين سابقا بعدّة تُهم، لعل أبرزها دعمه لمنظمة إرهابية وتحريضه على العنصرية.
الأشخاص الذين تعرضوا لسياسات شديدة التطرف باتوا أكثر ميلا إلى تصنيف المحافظين أو اليمينيين بأنهم معتدلون، خاصة عندما يبدو أن زعماء الوسط أنفسهم بدأوا في تبنّي سياسات أكثر يمينية مؤخرا
وعليه، فإن الأشخاص الذين تعرضوا لسياسات شديدة التطرف باتوا أكثر ميلا إلى تصنيف المحافظين أو اليمينيين على أنهم معتدلون أو وسطيون، خاصة عندما يبدو أن زعماء الوسط أنفسهم قد بدأوا في تبنّي سياسات أكثر يمينية في الأشهر الأخيرة، في محاولة لجذب أصوات الناخبين.
لنأخذ زعيم الوسط المخضرم يائير لابيد كمثال: التقيتُ به في الكنيست بالقدس في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وكان حينها مؤيدا بوضوح لحلّ الدولتين، لكنه كان يرى أن هذا الحل سيتأخر بشكل كبير.
وبعد بضعة أشهر، غيّر موقفه؛ حيث وصف قرار أيرلندا والنرويج وإسبانيا الاعتراف بدولة فلسطين بأنه “فشل سياسي غير مسبوق”، و”أمر مُخز”.
كما انتقد لابيد محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، عندما أصدرت حكما دراماتيكيا يأمر إسرائيل بوقف هجومها العسكري على رفح فورا.
وإذن، فقد تحوّل الموقف السياسي للابيد؛ وبدت تصريحاته مشابهة إلى حد كبير لتلك التي يتبّناها حزب “الليكود” بزعامة نتنياهو، الذي يتّسم برنامجه الانتخابي بالأفكار الشعبوية واليمينية.
ولا شك أن هذا التحول أثّر على تصوّرات الكثير من الناخبين بشأن السياسة السائدة في إسرائيل اليوم، والتي أصبحت تركز بشكل أساسي على الأمن، حتى لو كان ذلك على حساب الدولة الفلسطينية أو إعادة احتلال جنوب لبنان.
وقبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت الميزة الفريدة والجذابة التي يمتلكها يائير لابيد هي قدرته على إقناع عدد كاف من الناخبين بأنه يمثل “الوسط الحقيقي”، حيث لا يميل إلى كُتلة اليسار ولا إلى اليمين.
ويبدو أن زعيم المعارضة الوسطيّ، يتحرك اليوم باتجاه اليمين لتفادي خسارة الأصوات في الانتخابات البرلمانية المقبلة، نظراً لتركيز الناخبين بشكل كبير على التيار اليميني.
المسألة بسيطة: أي نسبة من الأصوات يفقدها لابيد على الجبهة الوسطية تتحول تلقائيا إلى مكاسب لصالح الكتلة “اليمينية”.
ومع ازدياد الانقسام داخل يسار الوسط في مقابل يمين الوسط، بات الفصيل الأكثر يمينية يبدو “وسطيا” بشكل تلقائي، ناهيك عن أن اليسار تلاشى تقريبا من المشهد السياسي.
وبعبارة أخرى، فإن التعرض للسياسات اليمينية المتطرفة التي ينتهجها الثنائي المتطرف في إسرائيل، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، قد جعل الناس يقيّمون السياسات اليمينية المعتدلة على الجانب الآخر من الطيف السياسي باعتبارها أكثر وسطية.
متظاهر إسرائيلي محاط بالدخان المتصاعد من الشعلات الضوئية يحمل ملصقًا يظهر فيه أحد الرهائن الذين اختطفوا خلال هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول
قبل السابع من أكتوبر، كانت الميزة الفريدة والجذابة التي يمتلكها يائير لابيد هي قدرته على إقناع عدد كاف من الناخبين بأنه يمثل “الوسط الحقيقي”، حيث لا يميل إلى كُتلة اليسار ولا إلى اليمين
المسألة إذن تتعلق بالتفضيلات السياسية المتعلقة بالأيديولوجيا والقضايا. أو ربما أصبح الإسرائيليون أكثر ميلا إلى التركيز على الأمن بعد الهجمات المروعة في السابع من أكتوبر، بدلا من التركيز على الأيديولوجيا.
ومهما يكن من أمر، فقد اختبرت هذه الهجمات المعتقدات الأساسية لمعظم الإسرائيليين بقدر ما اختبرت الحدود الأخلاقية لجيشهم.
هذا التحليل السياسي تؤكده أحدث استطلاعات الرأي العام في إسرائيل، حيث انخفض الدعم بين اليهود الإسرائيليين لفكرة إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل بشكل كبير، من 71 في المئة في عام 2010 إلى حوالي 21 في المئة حاليا.
وفي استطلاع أُجري عام 2020، كان هذا الدعم قد انخفض بالفعل بأكثر من 20 في المئة. وفي المقابل، تضاعف دعم فكرة دولة واحدة بشعبين غير متساويين في الحقوق ليصل إلى 42 في المئة.
أجرى الاستطلاعين المركزُ الفلسطيني لبحوث السياسات والاستطلاعات في رام الله، والبرنامج الدولي لحل النزاعات والوساطة في جامعة تل أبيب.
وربما كان المشاركون في هذه الاستطلاعات يكرهون نتنياهو على المستوى الشخصي، لكنهم يؤيدون سياساته الأمنية اليمينية بشكل عام.
وفي الوقت نفسه، برز نتنياهو كقائد قوي في نظر كثير من الناخبين، الذين قد يتساءلون فيما بينهم: لماذا يدعمون تحالفا “وسطيا” من الأحزاب أو حزبا معارضا إذا كانوا يتشاركون نفس اللاءات الثلاث؟ (لا لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في غزة، لا لإقامة دولة فلسطينية، ولا للانسحاب من غزة في المستقبل القريب).