لم تعبِّر إسرائيل علناً عن خطة متماسكة لتحويل إنجازاتها العسكرية الأخيرة إلى مكاسب إستراتيجية. ورغم إظهارها جسارة في المعارك، من غير الواضح ما إذا كان لإسرائيل رؤية بشأن كيفية منع استئناف الهجمات من لبنان بعد نهاية التوغلات والقصف ولا كيف يمكن للحكومة أن تقنع السكان المهجرين بالعودة…
يمثل الغزو البري الإسرائيلي للبنان تصعيداً رئيسياً لصراعها مع حزب الله، الذي كان يتفاقم بموازاة الحرب في قطاع غزة لمدة عام. في هذه الجولة من الأسئلة والأجوبة، يحلل خبراء مجموعة الأزمات (هايكو ويمن، ديفيد وود، مايراف زونزيان) الوضع والرهانات.
ما الذي تحاول إسرائيل تحقيقه في لبنان؟
في 1 تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت إسرائيل أن قواتها كانت قد عبرت الحدود إلى جنوب لبنان، بعد عام تقريباً من مواجهتها مع الميليشيا الشيعية حزب الله، المواجهة التي تعود إلى ما بعد هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 مباشرة وما تلاها من هجوم إسرائيلي في قطاع غزة. قال الجيش الإسرائيلي لاحقاً إنه كان يشن غارات سرية على جنوب لبنان منذ أشهر، لكن هذه العملية تهدد بأن تكون أكثر جسامة بكثير. أتى إعلان إسرائيل بعد أسبوعين من تصعيدها الدراماتيكي لما كان قد أصبح حرب استنزاف مع حزب الله – تفجير متفجرات كانت قد زرعتها في أجهزة اتصال الحزب وإطلاق ضربات جوية كاسحة في ضواحي بيروت الجنوبية، وجنوب لبنان وأجزاء من وادي البقاع. يبدو أن الهجمات السابقة قتلت أو جرحت مئات من كوادر حزب الله. قضت الهجمات الأخيرة على عدد كبير من كبار قادة الحزب، بمن فيهم أمينه العام حسن نصر الله. كما قتلت الجولات الأخيرة وجرحت عدداً كبيراً من المدنيين.
ترتبط الحرب بين إسرائيل وحزب الله بالحرب بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة. فبعد اندلاع الحرب الأخيرة، أعلن حزب الله أنه يفتح ”جبهة إسناد” لحليفته حماس، فأطلق الصواريخ على المنشآت العسكرية الإسرائيلية في مزارع شبعاً، وهي منطقة يقول الحزب إنها جزء من لبنان وتدّعي إسرائيل أنها جزء من مرتفعات الجولان المحتلة. ردت إسرائيل النار. وتبادل الطرفان لاحقاً الضربات عبر الحدود على مدى أحد عشر شهراً. قبل تصعيد منتصف أيلول/سبتمبر، كان قد قُتل 600 شخص في لبنان وهُجِّر أكثر من 110,000؛ وكان 50 شخصاً قد قُتلوا في إسرائيل (إضافة إلى 12 درزياً سورياً في الجولان المحتل) وهُجِّر نحو 80,000 من منازلهم.
منذ البداية، قال حزب الله إنه سيستمر في القتال إلى أن توافق إسرائيل على وقف لإطلاق النار في قطاع غزة. رسمياً، تسعى الحكومة اللبنانية إلى وقف لإطلاق النار وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي أنهى حرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله. ينص القرار 1701 على انسحاب حزب الله من جنوب لبنان إلى جنوب نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب بقوة أكبر. لكن الحكومة تفتقر إلى أي نفوذ على قرارات حزب الله وتكتيكاته، وليست في موقع يمكّنها من جعل الحزب يلتزم بمتطلبات القرار. في هذه الأثناء، لم تقبل إسرائيل بربط حزب الله جبهتي لبنان وغزة. بدلاً من ذلك، فإنها تهدف إلى فرض “واقع أمني جديد” على حدودها مع لبنان، على نحو منفصل عن عملياتها في قطاع غزة. يعني ذلك، بشكل عام تطهير المنطقة الحدودية في لبنان من منصات صواريخ حزب الله، ومستودعات سلاحه وأصول أخرى استعملها لإطلاق النار على إسرائيل، وأيضاً إجبار مقاتلي الحزب الذين يتمركزون الآن في الجنوب على الانتقال بمسافة كبيرة نحو الشمال.
لجزء كبير من عام 2024، حاولت الولايات المتحدة وفرنسا التوسط في وقف لإطلاق النار كان من شأنه قيام حزب الله بسحب مقاتليه إلى مواقع تبعد 7-10 كم إلى شمال الحدود مع إسرائيل، وإرسال الجيش اللبناني جنوده إلى جنوب لبنان بدلاً منهم. لكن هذا الإطار ظل مركوناً على الرف لمدة أشهر، مع رفض حزب الله الدخول في حوار دون التوصل إلى هدنة في قطاع غزة. بمرور الوقت، بدا أن حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تحبط جهود وقف إطلاق النار. احتفظت إسرائيل بقوات في قطاع غزة رغم أن الجيش قال إنه كان قد ألحق ضرراً كبيراً بكتائب حماس المقاتلة في القطاع وأن تقييم الولايات المتحدة أفاد بأنها لم يعد بوسعها فعل المزيد. مع زيادة حدة تبادل النيران عبر الحدود وتصاعد مطالب عشرات آلاف المهجرين الإسرائيليين بالعودة إلى منازلهم في شمال إسرائيل، حوَّلت إسرائيل تركيزها على المواجهة مع حزب الله.
بدأت المرحلة الجديدة في حملة إسرائيل على حدودها الشمالية بهجماتها في 17 و18 أيلول/سبتمبر على أفراد حزب الله الذين يحملون أجهزة نداء (بيجر) ولاسلكي مفخخة. قتلت التفجيرات 42 وجرحت 3,500 شخصاً، بمن فيهم أشخاص لا علاقة لهم صادف وجودهم في أماكن التفجيرات، وأشارت إلى أن إسرائيل كانت تصعِّد عملياتها. أتبعت إسرائيل هذه الهجمات بحملة قصف في جنوب لبنان، وضواحي بيروت الجنوبية وأجزاء من وادي البقاع – وجميعها أماكن لحزب الله فيها كثير من المقاتلين، والأسلحة والمنشآت. لقد كان لعمليات القصف، التي تدَّعي إسرائيل أنها دمرت أكثر من نصف ترسانة الحزب، كلفة بشرية ترتفع باستمرار، وتوضح أن إسرائيل كانت قد ابتعدت عن جهودها السابقة في تجنب المخاطرة بإحداث أضرار بالمدنيين. في الوقت نفسه، شنت القوات الإسرائيلية ما يسميها الجيش ”توغلات برية محلية” على الحدود، تهدف إلى القضاء على أصول حزب الله في الجنوب.
إن مدى ونطاق حرب إسرائيل ليسا واضحين تماماً. يبدو أن أحد الأهداف يتمثل في قطع الصلة التي أقامها حزب الله بين جبهتي غزة ولبنان، بحيث تتمتع إسرائيل بحرية العمل في غزة دون أن تقلقها أي آثار على الحملة في الشمال. وربما تحاول إسرائيل تعزيز موقعها في المفاوضات بتحقيق “واقع أمني جديد“، اعتقاداً منها أنها يمكن أن تتوصل إلى اتفاق أكثر تحقيقاً لمصالحها – رغم أن البنود المحددة لمثل ذلك الاتفاق المفترض ليست واضحة. يتمثل أحد الأسئلة فيما إذا كان اتفاق من شأنه أن يجعل المدنيين الإسرائيليين يطمئنون للعودة إلى منازلهم كافياً – وما يترتب على مثل ذلك الاتفاق. لكن قد يكون لإسرائيل أهداف أكبر في كل الأحوال: اختراق شبكة اتصالات حزب الله، والقرار بقتل نصر الله، وحملة القصف التي استهدفت قادة الحزب ومخازن أسلحته، وقد يهدف الغزو البري إلى إركاع حزب الله.
مع دعم الولايات المتحدة لحملة إسرائيل – وإشارة بعض كبار المسؤولين الأميركيين إلى أنها فرصة تاريخية لتقليص نفوذ حزب الله في السياسة اللبنانية – قد تتجرأ إسرائيل على المضي قُدماً. في هذه الأثناء، فإن التداعيات على الشعب اللبناني كانت هائلة. طبقاً للسلطات اللبنانية، فقد قتل أكثر من ألفي شخص، وجُرح نحو عشرة آلاف وهُجِّر أكثر من مليون شخص منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
هل ينبئ موت نصر الله بنهاية حزب الله؟
ربما لا. قاد نصر الله الحزب لمدة 32 عاماً، وأشرف على نموه من مجموعة مقاومة في جنوب لبنان إلى لاعب إستراتيجي في الشرق الأوسط برمته. كما أشرف على دخول حزب الله إلى السياسات الانتخابية اللبنانية والحكم الرسمي. كان لاعباً مهيمناً في المشهد السياسي اللبناني، يجسد فكرة “المقاومة” بشخصيته الكارزمية. لكن رغم ذلك، فإن حزب الله مؤسسة سياسية واجتماعية، وميليشيا أيضاً، ومن غير المرجح أن ينهار بسبب موت قائد مهم. في الواقع، في عام 1992 أصبح نصر الله نفسه أميناً عاماً خلال 24 ساعة من قيام إسرائيل بقتل سلفه عباس الموسوي.
من المؤكد أن مقتل نصر الله يمثل أكثر الضربات دراماتيكية في سلسلة من الضربات التي تلقاها الحزب منذ صعدت إسرائيل هجماتها في منتصف أيلول/سبتمبر، ومن الواضح أنه كان لهذه الهجمات أثر. لمدة بضعة أيام بعد تصعيد منتصف أيلول/سبتمبر، كان الحزب يطلق عدداً أقل من الصواريخ على إسرائيل، بدلاً من الرد بقوة أكبر، الأمر الذي يشير إلى أن قدراته قد تعرضت للضرر.
لكن هناك أيضاً علامات على الصمود؛ فقد بدأت نيران الصواريخ المُطلقة على شمال إسرائيل بالتصاعد مرة أخرى بعد أقل من أسبوع من موت نصر الله، الأمر الذي يشير إلى أن مقاتلي حزب الله تمكنوا من إعادة التجمع وأن جزءاً على الأقل من سلسلة قيادته ما يزال سليماً معافى. في 8 تشرين الأول/أكتوبر، أطلق الحزب 100 صاروخ على حيفا ومحيطها، وهي أكبر صلية من الصواريخ حتى الآن في الصراع الذي نشأ بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. جُرح شخص واحد. وأعلن الجيش الإسرائيلي على تلغرام في 8 تشرين الأول/أكتوبر أن الصورة الإجمالية تتمثل في أن حزب الله كان قد أطلق 3,000 صاروخ منذ هجمات أجهزة البيجر في 17 أيلول/سبتمبر. كما يستمر الحزب في إظهار تصميمه؛ ففي البيانات العامة، أظهر أعضاء حزب الله تحدياً صارماً، في حين أظهرت القاعدة الشعبية للحزب التزاماً أيديولوجياً مستمراً. في 30 أيلول/سبتمبر، بعد يومين فقط من مقتل نصر الله، قال القائم بأعمال الأمين العام، نعيم قاسم، إن حزب الله لديه بدائل أكفاء عن كل مسؤول وقائد يموت. سيتمثل أحد الإجراءات التي تُظهر قدرة الحزب على امتصاص الضربات التي تلقاها في مدى قدرته على تجنيد عناصر جدد بسرعة.
ما هي طبيعة المزاج الشعبي الإسرائيلي فيما يتعلق بالغزو البري للبنان؟
يبدو أن ثمة إجماعاً في إسرائيل على أن غزواً برياً كان ضرورياً. لقد كان المسؤولون الإسرائيليون، والسياسيون من الشمال والمهجَّرون حاسمون في مطالبتهم بأن يضمن الجيش، في الحد الأدنى، عدم تمكن حزب الله في المستقبل من نشر مقاتليه وأسلحته قرب الحدود.
على عكس جبهة غزة، حيث وقفت المؤسسة العسكرية وراء اتفاق يحقق وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى انسحاب القوات، ثمة ما يشبه الإجماع بين خصوم نتنياهو على وجوب أن تنشر إسرائيل جنودها على الأرض في لبنان. دعت شخصيتان بارزتان في المعارضة الإسرائيلية – بما في ذلك بيني غانتس، الجنرال ووزير الدفاع السابق الذي يقود حزب الوحدة الوطنية الوسطي، ويائير غولان، الجنرال السابق والرئيس الجديد لحزب العمل على يسار الوسط تقليدياً وفصيل ميرتس – إلى عملية برية، رغم أن كلاهما جادلا بأنه يتعين على إسرائيل استخدام تلك العملية كأداة للضغط لتحقيق تسوية تفاوضية تكون لصالحها. ووقف قائد المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، أيضاً وراء العملية لكنه دعا إسرائيل إلى تحديد أهدافها الإستراتيجية واتخاذ خطوات دبلوماسية لتحقيقها. بعض المسؤولين الأمنيين السابقين يشجعون إسرائيل على ضمان وجود مسار سياسي بموازاة المسار العسكري يمكن أن يحوِّل المكاسب العملياتية إلى أمن على المدى الطويل.
قد يتعزز موقف نتنياهو أيضاً بتحسُّن معدلات القبول بسياساته مع انتقال تركيزه على الجبهة الشمالية خلال الشهر الماضي. قوبلت هجمات البيجر ومقتل نصر الله بمظاهر الفرح في إسرائيل، حيث شرب مقدِّم الأخبار نخب وفاة نصر الله على الهواء وشجعت وزارة التربية المدارس على إقامة الاحتفالات. بعد أن تعرضت عمليات استعراض القوة الإسرائيلية وقدرتها الردعية لضرر كبير في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتراجعها أكثر تحت الهجمات المستمرة لحزب الله على مدى الأشهر الأحد عشر التالية، يبدو أن قادة إسرائيل العسكريين باتوا يشعرون بشيء من استرداد القوة نتيجة تصفية قيادة حزب الله وتفجير عدد كبير من مخازن أسلحة الحزب (وربما رد حزب الله المحدود حتى الآن). لقد كانت إسرائيل تحضِّر لمثل هذه العمليات على مدى عقدين من الزمن تقريباً، منذ حربها الأخيرة مع حزب الله في عام 2006. تلاشت البهجة الأولية إلى حد ما في 1 تشرين الأول/أكتوبر، عندما أطلقت إيران نحو 200 صاروخ باليستي على إسرائيل، ووضع البلاد بأسرها في حالة تأهب قصوى وإرسال جزء كبير من السكان إلى الملاجئ. اعتُرض عدد كبير من الصواريخ، لكن صور الأقمار الصناعية تشير إلى أن قاعدتين جويتين على الأقل أصيبتا، الأمر الذي يشير إلى أن إيران قد تكون قادرة على إرباك الدفاعات الجوية الإسرائيلية إذا شنت هجمة أخرى أكبر. لكن في هذه الأثناء، فإن هذه الهجمة ربما زادت ببساطة من تصميم إسرائيل على المضي قُدماً في الغزو البري.
ما هي مخاطر الغزو البري على إسرائيل؟
تتمثل إحدى المخاطر الرئيسية على إسرائيل في أن تصبح عالقة بحرب متسعة دون تحقيق أهدافها. إن النجاحات الأخيرة لا تعني أن الجيش سيحقق نصراً سهلاً. لقد شنت إسرائيل هجمات برية على لبنان ثلاث مرات من قبل، في عام 1978، و1982 و2006، ولم ينجز أي من تلك الغزوات ما خططت له. في جميع هذه الحالات، كانت إسرائيل تهدف إلى القيام بتوغل محدود وهادف. لكن في عام 1978 قدَّمت مساحات من الأرض لعميل غير موثوق، جيش لبنان الجنوبي. استمرت الهجمات التي كانت تشنها مجموعات حرب العصابات الفلسطينية رغم ذلك، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى الغزو من جديد بعد أربع سنوات. في عام 1982، انتهى الأمر بها إلى المحافظة على احتلال مطوَّل لأجزاء أكبر من الجنوب، الأمر الذي وفَّر دافعاً لتشكيل حزب الله، الذي ساعد بدوره على إخراج القوات الإسرائيلية من لبنان في عام 2000. شكلت حملة إسرائيل في عام 2006، رداً على غارات عبر الحدود قتل فيها حزب الله ثلاثة جنود إسرائيليين وأسر جنديين (وقٌتِل خمسة آخرون في محاولة إنقاذ فاشلة)، حرباً دامت 34 يوماً انتهت إلى طريق مسدود. بالنسبة للصراع الحالي، قد تتمتع إسرائيل بالتفوق الجوي، لكن القتال على الأرض التي تخص حزب الله في المنطقة الجبلية في الجنوب يترك قواتها عرضة للكمائن. بعد مضي أسبوع على الغزو الحالي، قتل ما لا يقل عن أحد عشر جندياً إسرائيلياً في جنوب لبنان. وتدّعي إسرائيل أنها قتلت ما لا يقل عن 440 مقاتلاً من حزب الله في ذلك الوقت.
يتمتع حزب الله بمزايا إضافة إلى خبرته الطويلة في حرب العصابات؛ إذ تحتوي ترسانته على صواريخ مضادة للدبابات وغيرها من الصواريخ التي يصعب اعتراضها. وقد حفر أنفاقاً تحت الحدود وأنفاقاً أخرى لربط المواقع المختلفة في جنوب لبنان، والتي بدأت إسرائيل بتدميرها. كما هو الحال مع حماس في قطاع غزة، من غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل قادرة على تحييد حزب الله على نحو كامل، أو على نحو كافٍ لأغراضها، أو إلى متى ستستمر العملية كي تكون قادرة على تحقيق أهدافها. من المرجح أن تعتمد الأجوبة جزئياً على كيفية تعريف إسرائيل لـ“الواقع الأمني الجديد” الذي تسعى إلى تحقيقه، بالنظر إلى أنها تبدي تشككاً مفهوماً في أن يتمكن الجيش اللبناني أو قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، اليونيفيل، من إبقاء حزب الله بعيداً. قد ينتهي الأمر باحتلال إسرائيل لقطاعٍ من الأرض في جنوب لبنان كمنطقة عازلة، أو كورقة تستخدمها في محادثات وقف إطلاق النار في المستقبل، حتى وإن كانت تدّعي الآن أنها ليست مهتمة بفعل ذلك.
سيعتمد مدى اندفاع إسرائيل داخل لبنان على الأرجح على ما إذا تمكن جيشها من التقدم بسرعة وبخسائر مقبولة للرأي العام الإسرائيلي. قد تسعى إلى تفكيك أصول حزب الله – بما في ذلك منصات إطلاق الصواريخ والأنفاق – على مسافة تمتد 10 كم من الحدود، بحيث تجعل شمال إسرائيل في منأى عن وصول الصواريخ قصيرة المدى التي استعملها حزب الله على نحو مكثف خلال الصراع. لكن حزب الله أيضاً استعمل صواريخ ومسيرات ذات مدى أبعد بكثير، والتي يمكن أن تدفع إسرائيل لاتخاذ قرار بأن السيطرة على الحدود ستكون غير كافية لتأمين بلدات الشمال. إذا مضت قُدماً وتعرضت لخسائر لا يكون الرأي العام الإسرائيلي محضراً لها، فإن الجيش قد يقرر تقليص خسائره. لكن قد يختار أيضاً التقدم أكثر للقضاء على مصدر الهجمات – وربما الغرق في لبنان.
ما هي الخطوة القادمة بالنسبة لإسرائيل؟
لم تعبِّر إسرائيل علناً عن خطة متماسكة لتحويل إنجازاتها العسكرية الأخيرة إلى مكاسب إستراتيجية. على نحو خاص، ورغم إظهارها جسارة في المعارك، من غير الواضح ما إذا كان لإسرائيل رؤية بشأن كيفية منع استئناف الهجمات من لبنان بعد نهاية التوغلات والقصف – ولا كيف يمكن للحكومة أن تقنع السكان المهجرين بالعودة.
في غياب حل دبلوماسي، من غير المرجح أن ينجح أي من خياري إسرائيل في العودة الآمنة للسكان المهجرين على المدى القصير. يتمثل أحد هذين الخيارين في احتلال طويل الأمد لأراضٍ لبنانية، والثاني في محاولة تدمير حزب الله. قد يتطلب الخيار الأول توسيع إسرائيل لاحتلالها إلى مناطق أخرى في لبنان، بما في ذلك وادي البقاع وضواحي بيروت الجنوبية، حيث يتجذر حزب الله بين السكان. يمكن أن تنطوي مثل هذه المناورة، التي تحاكي نهج إسرائيل في قطاع غزة، على فرض نظام أمني مؤقت في تلك المناطق لتعقب أفراد حزب الله وتفكيك مؤسساته الواسعة. لكن تكرار الاحتلال السابق لجنوب لبنان سيكون مسألة طويلة من المرجح أن تُلحق الألم بإسرائيل، على شكل سقوط مستمر للضحايا بين الجنود، واقتصاد أضعف وعزلة دبلوماسية.
بالنسبة للخيار الثاني، حتى مع النجاحات الأخيرة، ليس واضحاً أن لدى إسرائيل فرصة أفضل في القضاء على حزب الله بسرعة أكثر مما كان لديها في عام 2006، ولا سيما بالنظر إلى أن الجيش يحارب منذ سنة في قطاع غزة وما يزال ينتشر هناك وفي الضفة الغربية أيضاً. الأمر الأكثر ترجيحاً هو أن جهود إسرائيل ستسمح لها بالاحتفاظ بمزيتها العملياتية والتكتيكية في الوقت الذي تدير فيه التهديدات على الجبهة الداخلية لمدة طويلة من الزمن، لكن دون نتائج واضحة.
في هذه الأثناء، يعلق الطرفان في مواقع تجعل من الصعب تصوّر مخرج من الأعمال القتالية على المدى القصير، على الأقل في الوقت الراهن. ما يزال حزب الله يشترط وقف إطلاق النار في غزة لوقف إطلاقه للصواريخ على إسرائيل، وما تزال إسرائيل ترفض القبول بذلك الربط. ثمة مؤشرات على أن حزب الله قد يكون مستعداً لمراجعة الحد الأدنى لمطالبه، بما في ذلك روايات بأن نصر الله كان قد قبل بوقف لإطلاق النار مدته 21 يوماً اقترحته الولايات المتحدة وفرنسا قبل موته، والبيان الأحدث لعضو البرلمان اللبناني عن حزب الله بأن وقفاً لإطلاق النار في لبنان هو الأولوية القصوى للحزب. لكن الموقف الرسمي للحزب لم يتغير، وربما يسعى لنشر درجة من الغموض حول هذه المسألة، جزئياً لإظهار نفسه لاعباً عقلانياً في أعين الجمهور اللبناني.
ما التبعات التي يمكن أن تترتب على الغزو الإسرائيلي بالنسبة للحياة السياسية اللبنانية؟
لطالما عبَّر خصوم حزب الله الداخليون عن غضبهم من هيمنة الحزب في السياسة اللبنانية، وقد ينظرون إلى إضعافه غير المتوقع على أنه فرصة لتحقيق مكاسب سياسية – لكن مخاطر أي محاولة كتلك قد تكون كبيرة. قد يلقى هؤلاء اللاعبون، مثل القوات اللبنانية والكتائب، وكلاهما حزبان مسيحيان، أو ما بقي من تيار المستقبل، وهو تجمع سني، تشجيعاً من القوى الأجنبية لتحقيق هذه الغاية. وقد يسعى هؤلاء اللاعبون الخارجيون إلى الضغط على حزب الله للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بشروط إسرائيل أو حتى لإجباره على تسليم أسلحته مرة وإلى الأبد. وقد تسعى إسرائيل إلى دفع الحكومة اللبنانية إلى مواجهة ما بقي من قوة حزب الله. قد تقترح، على نحو خاص، تكليف الجيش اللبناني بإخضاع حزب الله. أما ما إذا كان الجيش قادراً على تحقيق ذلك الهدف فأمر غير واضح، وثمة ما يبرر الخوف من أن مثل تلك المهمة من شأنها أن تقوض وحدة الجيش، مع رفض جنوده الشيعة مواجهة حزب الله أو انشقاقهم عن الجيش.
إضافة إلى ذلك، فإن أي محاولة من ذلك النوع يمكن أن تؤدي إلى عنف واسع الانتشار؛ فحزب الله، ورغم موقفه الأضعف (أو ربما بسبب ذلك)، من شبه المؤكد أن يقاوم مثل تلك الجهود بقوة. وقد يلجأ الحزب إلى اغتيال السياسيين اللبنانين المرتبطين بهذه السياسات (خصوم الحزب يتهمونه بقتل عدد من الخصوم بعد عام 2005). وقد يحشد أنصاره لصدامات في الشوارع مع مجموعات اجتماعية وطائفية أخرى (كما فعل في تشرين الأول/أكتوبر 2021، عندما تطورت مظاهرة إلى تبادل لإطلاق النار بين حزب الله ومسلحين حلفاء له، من جهة، وقناصين مجهولي الهوية، من جهة أخرى). وقد يقوم حزب الله بانقلاب، كما فعل في أيار/مايو 2008، عندما سيطر على النصف الغربي من بيروت، وأجبر الحكومة على التراجع عن قرارات رأى الحزب أنها موجهة ضد جناحه العسكري والقبول بتشكيل حكومة وحدة وطنية بشروطه. يمكن أن ينجم عن هذه التطورات صراع بين اللبنانين السنة والشيعة – الطائفتان اللتان تكوّنان الجزء الأكبر من القوى المقاتلة في الجيش وتعيشان بجوار بعضهما بعضاً. بهذه الطرق، فإن جهوداً لإعادة ترتيب الحياة السياسية اللبنانية – ولا سيما في هذه اللحظة الحرجة – يمكن أن تمهد الطريق إلى صراع أهلي، إن لم يكن إلى الحرب.
إن تهجير أكثر من مليون لبناني، معظمهم شيعة يهربون من المناطق التي يسيطر عليها حزب الله، من شأنه فقط أن يفاقم التوترات الطائفية؛ فأولئك الذين باتوا دون مأوى قد يلجؤون إلى احتلال ممتلكات خاصة غير مسكونة، ولا سيما في بداية الشتاء. وقد لا تكون الأجهزة الأمنية اللبنانية الرسمية قادرة على إدارة ذلك الوضع إلى ما لا نهاية. وقد تردّ الأحزاب التي تهيمن على تلك المناطق المتأثرة بتنظيم مجموعات خاصة لحفظ الأمن. وإلى الحد الذي تحدث فيه مثل تلك الصدامات في الأحياء غير الشيعية، فإنها يمكن أن تتخذ بسرعة طابعاً طائفياً. ولذلك فإن جهداً إغاثياً دولياً متضافراً، ولا سيما لتوفير المأوى المؤقت قبل حلول الشتاء، قد يكون مطلوباً لتجنب مثل تلك السيناريوهات.