لقد أغلق الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأطلق عدة توغلات في المدن الفلسطينية، مع ارتفاع حدة العنف الذي يمارسه المستوطنون أيضاً. في هذه الجولة من الأسئلة والأجوبة، تنظر خبيرة مجموعة الأزمات تهاني مصطفى في تبعات هذا التصعيد.
يراقب الجميع الحرب في غزة، لكن ما الذي يحدث في الضفة الغربية؟
لقد تردَّت الأوضاع في الضفة الغربية بحدَّة في الأسابيع الماضية، منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر في إسرائيل، الذي سرّع غالباً اتجاهات كانت موجودة سابقاً. وقد شنَّ الجيش الإسرائيلي عدداً كبيراً من الغارات التي تتسبب، إضافة إلى أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون الإسرائيليون، في ارتفاع أعداد الضحايا. في الوقت نفسه، أغلق الجيش الإسرائيلي المنطقة؛ إذ قطع الطرق وفرض قيوداً على الحركة الداخلية، بينما قمع بشدة التعبيرات السياسية الفلسطينية. لقد شُلَّ الاقتصاد، مع تكبُّد خسائر كبيرة في موسم قطاف الزيتون الذي يكون عادة في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر.
ويخشى سكان الضفة الغربية أن القادم أسوأ؛ فهم عالقون بين تعمُّق الاحتلال وتصاعد العنف الذي يمارسه الجيش والمستوطنون، ومن جهة أخرى، إن الغياب التام للقيادة السياسية أو لوجود أي أفق سياسي، يتركهم من دون أي وسيلة حقيقية لوقف الأفعال الإسرائيلية.
الوضع متوتر جداً؛ حيث أثار هجوم حماس حنق المستوطنين والجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية، فأجَّج الغضب أفعالهم ضد السكان الفلسطينيين. في هذه الأثناء، صرفت الحرب الجارية منذ وقوع الهجوم في قطاع غزة انتباه العالم، الأمر الذي أطلق لهم العنان للتصعيد بطرق كانت تؤدي في الماضي إلى إدانة دولية أسرع وأقوى.
لقد قتل الجنود الإسرائيليون، وفي بعض الأحيان المستوطنون، 216 فلسطينياً في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، ليصل إجمالي القتلى في عام 2023 وحتى الآن إلى 426، وهو رقم أكبر بكثير من الـ 170 الذين قتلوا في عام 2022، وهو العام الذي أعلنته الأمم المتحدة الأكثر دموية منذ عام 2006. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر أيضاً، اعتقل الجيش الإسرائيلي 2,280 فلسطينياً من الضفة الغربية، في معظم الأحيان رداً على منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبِّر عن الدعم لحماس أو للمقاومة المسلَّحة، لكنها تعبِّر أحياناً عن مجرد التعاطف مع محنة الناس في قطاع غزة. تدَّعي السلطات الإسرائيلية أن كثيراً من المحتجزين أعضاء في حركة حماس أو حركة الجهاد الإسلامي. لكن من بين المعتقلين عدة شخصيات سياسية بارزة، مثل عهد التميمي وعمر عساف، اللذان لا ينتميان إلى أي حزب. وقد أغار الجيش على مدينة رام الله، المركز الإداري للسلطة الفلسطينية، بشكل شبه يومي. وأصبحت هذه العمليات أكثر تدميراً، حيث ألحقت درجة أكبر من الأضرار بالمنازل والمؤسسات التجارية. تبدو تلك الأضرار في كثير من الأحيان غير مبرَّرة، كما حدث عندما قطعت إسرائيل الطرقات في المخيمات والمدن الفلسطينية، وعندما أزال الجيش وسرق منحوتة “حصان جنين” في مخيم جنين الذي يرمز إلى الحرية، والتي أقامها فنان ألماني وسكان من المنطقة احتفالاً بذكرى مجزرة جنين في عام 2002، وجرف بوابة المخيم المقوَّسة. وقد ارتكب الجنود الإسرائيليون أفعال تدمير مماثلة في مناطق حضرية فلسطينية كثيفة السكان في الضفة الغربية.
وتُتَّخذ بموازاة هذه الحملة إجراءات إغلاق مكثفة تُبقي كثيراً من الفلسطينيين مسجونين أكثر من المعتاد؛ إذ تسيطر إسرائيل على الطرق الرئيسية في الضفة الغربية وعلى معظم الطرق الفرعية التي تربط البلدات والقرى الفلسطينية. وقد أغلق الجيش نقاط تفتيشه النظامية على شريانات المنطقة الرئيسية، وأوقف أي حركة عبرها، بينما أقيمت عدة نقاط تفتيش مرتجلة جديدة يديرها مستوطنون. كما أغلقت ميليشيات المستوطنين التي تحرس المستوطنات قرى فلسطينية، مستعملة الأكوام الترابية، والكتل الإسمنتية والبوابات الحديدية، عند نقاط تفتيشها في بعض الأحيان. ويخاطر أي فلسطيني يسافر على الطرقات بالتعرض للمهاجمة.
الأخبار عما يحدث على الأرض محدودة، بسبب القيود التي فرضها الجيش على الحركة والمضايقات المتكررة للصحفيين. يُتاح اليوم معلومات أكثر من الأسبوع الأول بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكنها أقل مما كان متاحاً سابقاً. وتعتمد منظمات المجتمع المدني التي تراقب الوضع على المتطوعين المحليين، بسبب عدم قدرة موظفيها التنقل بحرِّية.
كيف استغلَّ المستوطنون في الضفة الغربية تركيز وسائل الإعلام على قطاع غزة؟
لقد شهدت الضفة الغربية عملية تعبئة كبيرة للمستوطنين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقد استدعت الحكومة الإسرائيلية متطوعين من سكان المستوطنات لتشكيل ميليشيات في الضفة الغربية، والقدس الشرقية والمدن المختلطة في إسرائيل، حيث يعيش السكان اليهود والعرب جنباً إلى جنب. لقد وصف وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، وهو نفسه مستوطن وناشط من أقصى اليمين، هذه الميليشيات بأنها ”فرق أمنية“. إضافة إلى ذلك، فإن معظم الجنود الذين ينتشرون الآن في الضفة الغربية هم من جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم للتعبئة في إسرائيل بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، ويُذكر أن كثيرين منهم يتحدرون من المستوطنات. ولذلك فإن الخط الفاصل بين الجيش والمستوطنين المسلحين ليس واضحاً. علاوة على ذلك، فإن الجنود الإسرائيليين كانوا إما يراقبون دون اكتراث أو يدعمون المستوطنين بفعالية في أكثر من نصف الهجمات الخطيرة على أشخاص فلسطينيين أو ممتلكات فلسطينية في الشهر الماضي.
من بين الفلسطينيين الـ 216 الذي قتلوا في الضفة الغربية والقدس الشرقية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، قتل المستوطنون ثمانية (مقارنة بستة في بداية عام 2023 واثنين في عام 2022). ومن بين الـ 202 هجوم خطر شنَّها المستوطنون وسجَّلتها الأمم المتحدة (بمتوسط سبعة يومياً، وهي زيادة كبيرة عن المستوى الذي كان سائداً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر وهو ثلاثة يومياً)، فإن 28 هجوماً استهدفت أشخاصاً، و141 استهدفت ممتلكات، و33 هجوماً آخر استهدفت أشخاصاً وممتلكات على حد سواء.
وقام المستوطنون أيضاً بعمليات خطف وتعذيب فلسطينيين. ففي 12 تشرين الأول/أكتوبر احتجزت مجموعة من الجنود والمستوطنين وقيَّدت ثلاثة فلسطينيين من قرية وادي السيق في الضفة الغربية، وجرَّدتهم من ملابسهم، وصوَّرتهم وهم بالأغلال وبملابسهم الداخلية فحسب، وضربتهم بشدة على مدى عدة ساعات. تبوَّل الجنود على اثنين وأطفأوا سجائرهم على جسديهما؛ وحاولوا إدخال جسم في مؤخرة أحدهما. وكان اثنان من هؤلاء الفلسطينيين من مسؤولي السلطة الفلسطينية. وجرى تداول مقاطع فيديو على حسابات إسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تلغرام تُظهر تعذيب فلسطيني خطفه مستوطنون وجنود إسرائيليون.
كما هجَّر مستوطنون قسرياً 15 تجمعاً فلسطينياً تتكون من 111 أسرة أو 905 أشخاص، منهم 356 طفلاً، في وادي السيق وتلال الخليل الجنوبية، وجميعها في المنطقة (ج)، التي تشكّل 60 بالمئة من الضفة الغربية الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية الحصرية. في الأجزاء الشمالية من المنطقة (ج)، قاموا بجولة على البلدات والقرى لتوزيع منشورات يهددون فيها بطرد السكان الذين يرفضون المغادرة. ووقف الجيش متفرجاً بعدم اكتراث خلال قيام المستوطنين بمثل تلك الأفعال.
ما شكل الحياة اليومية بالنسبة لفلسطينيي الضفة الغربية في الوقت الراهن؟
كانت الظروف تزداد صعوبة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر بوقت طويل؛ إذ كان عنف المستوطنين يتصاعد؛ وأحدثت غارات الجيش قدراً كبيراً من الأضرار، في الأرواح والممتلكات على حد سواء. إلَّا أن الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون في حياتهم اليومية بلغت مستوى جديداً.
لقد أصبح التنقل في الضفة الغربية، سواء في السيارات الخاصة أو في وسائل النقل العام، شاقاً وخطراً أيضاً، بسبب الإغلاق وعنف المستوطنين. لقد مُنع أكثر من مئة ألف فلسطيني من سكان الضفة الغربية الموظفين في إسرائيل من الدخول؛ ونتيجة لذلك خسروا دخلهم. وتحوَّلت معظم المدارس والجامعات إلى التدريس عن بُعد خوفاً على أمن وسلامة الطلاب. وتوقفت التجارة الطبيعية؛ فلا يدخل شيء من المواد التي تستوردها الضفة الغربية من خلال إسرائيل. ويدفع نقص المواد في بعض المناطق إلى ارتفاع الأسعار، بما في ذلك أسعار مواد مثل الدجاج المذبوح، حيث تشهد المناطق الواقعة قرب مزارع الدجاج وفرة كبيرة بينما تعاني تلك الأبعد عنها من الشِّح. كما أن ازدياد وتيرة هجمات المستوطنين تعني أن كثيراً من المزارعين لا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم أو شهدوا تدمير محاصيلهم.
لقد هاجم المستوطنون المزارعين الفلسطينيين بالعصي والحجارة وهم يعملون في مزارع الزيتون، وقُتِل مُزارع بالرصاص الحي. وأحرق مستوطنون معدَّات زراعية أو سرقوها وقطعوا أشجار الزيتون.
ومن الهواجس الرئيسية لكثير من فلسطينيي الضفة الغربية هي الظروف السائدة داخل السجون الإسرائيلية، بالنظر إلى أن ثمة نحو 7,000 فلسطيني معتقلون فيها الآن. منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، تردَّت هذه الظروف بشكل كبير، مع زيادة في عدد حالات الضرب وشدَّته وأشكال أخرى من التعذيب. لقد توفِّي ما لا يقل عن ستة فلسطينيين من بين أولئك الذين شملتهم حملة الاعتقالات الحالية في السجون الإسرائيلية. وذكر سجناء آخرون أن عظامهم وأسنانهم قد كُسرت. كما يُذكر أيضاً أن المحققين عذَّبوا المحتجزين للضغط على أقاربهم كي يستسلموا. كانت جميع هذه الممارسات شائعة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكن يبدو أنها أصبحت أكثر انتشاراً الآن. وقد عمَّقت مقاطع الفيديو التي انتشرت عن تعذيب فلسطينيين على أيدي الجنود والمستوطنين من مخاوف أولئك الذين لهم أقارب في السجون الإسرائيلية.
إضافة إلى الصدمة التي شعر بها كثير من الفلسطينيين بسبب هجمات حماس – سواء من حيث عدد الوفيات، بما في ذلك بين المدنيين الإسرائيليين، وحقيقة أن حماس تمكَّنت من اختراق الدفاعات الإسرائيلية اختراقاً كاملاً وتغلَّبت على وحدات من الجيش الإسرائيلي القوي – فإن الفلسطينيين كانوا يخشون الطريقة التي قد تعاقبهم بها إسرائيل جماعياً على ما فعلته حماس. فمنذ البداية، أدركوا أن نطاق هجوم حماس، وارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين وردّ الفعل الأوَّلي من حلفاء إسرائيل الغربيين سيطلق رداً إسرائيلياً ما كانت حتى حكومة إسرائيل المشكَّلة من أقصى اليمين أن تتخيلها سابقاً. وحضَّروا أنفسهم للأسوأ، ليس في غزة فحسب بل أيضاً في الضفة الغربية، حيث يشكُّون بأن لدى إسرائيل خطط لطرد الفلسطينيين إلى الأردن بعد أن أجبرت الفلسطينيين في قطاع غزة على الإقامة في مخيمات للاجئين في صحراء سيناء المصرية. وأرعبهم حديث السياسيين الإسرائيليين عن “نكبة ثانية“، في إشارة إلى عملية الطرد الجماعي وهروب الفلسطينيين في عام 1948 والتي بدت على أنها إشارة إلى نية إسرائيل إنهاء ما كانت قد بدأته. دفعت هذه المخاوف وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إلى تحذير إسرائيل من أن حكومته ستعتبر أي محاولة لإخراج الفلسطينيين من قطاع غزة أو الضفة الغربية إعلان حرب. وبالنظر إلى أن الحكومات الغربية ظلت بشكل عام صامتة في وجه العمليات الإسرائيلية التي قتلت آلاف الفلسطينيين الأبرياء ودمَّرت جزءاً كبيراً من غزة، فإن الغضب والشعور باليأس المطلق من أن الأمور ستتحسن يوماً ما يتنامى بوضوح، الأمر الذي من شأنه أن يغذِّي أعمال مقاومة غير منسَّقة لكن عنيفة.
ما الذي قاله الرئيس محمود عباس وقادة السلطة الفلسطينية الآخرين عن حرب غزة؟ وكيف يستجيبون للغضب الفلسطيني في الضفة الغربية؟
تبدو السلطة الفلسطينية في رام الله أضعف من أي وقت مضى خلال الأزمة الراهنة. في 5 تشرين الثاني/نوفمبر، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنكن خلال زيارة لرام الله إنه ينبغي على السلطة الفلسطينية أن تلعب دوراً محورياً في أي صيغة تحدث لاحقاً في قطاع غزة. لكن مقترحه لا ينسجم مع حقيقة أن السلطة الفلسطينية كانت تنهار ببطء حتى قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، حيث كانت غارقة في أزمة اقتصادية، وحالة تشظي سياسي وغياب للدعم الشعبي نتيجة قيادتها الفاسدة وغير الفعّالة، إضافة إلى قيام إسرائيل بتقويض قاعدتها على نحو منهجي. علاوة على ذلك، أشار مسؤولو السلطة الفلسطينية إلى أن أي ترتيب يتعلق بإدارة قطاع غزة يمكن أن يحدث فقط بالتعاون مع حماس، التي يصفونها بأنها جزء لا يتجزأ من الكيان السياسي الفلسطيني.
إن تواطؤ السلطة الفلسطينية الظاهري مع إسرائيل خلال غارات الجيش وحالات هياج المستوطنين جعلها أكثر عرضة لازدراء الفلسطينيين؛ إذ تحركت السلطة الفلسطينية لقمع الاحتجاجات الشعبية في الضفة الغربية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فسمحت فقط لأنصارها بالخروج إلى الشوارع في مظاهرات خجولة ضد ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة. ويبدو أنها تريد الآن الانتظار حتى نهاية حرب غزة، حيث إن ما يشغلها هو بقاؤها قصير الأمد فحسب،
إن تواطؤ السلطة الفلسطينية الظاهري مع إسرائيل خلال غارات الجيش وحالات هياج المستوطنين جعلها أكثر عرضة لازدراء الفلسطينيين؛ إذ تحركت السلطة الفلسطينية لقمع الاحتجاجات الشعبية في الضفة الغربية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فسمحت فقط لأنصارها بالخروج إلى الشوارع في مظاهرات خجولة ضد ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة. ويبدو أنها تريد الآن الانتظار حتى نهاية حرب غزة، حيث إن ما يشغلها هو بقاؤها قصير الأمد فحسب، وهي غير قادرة على مقاومة أفعال الجيش الإسرائيلي والمستوطنين.
أدان الرئيس محمود عباس حماس في اليوم الذي تلا 7 تشرين الأول/أكتوبر، قائلاً إن المجموعة لا تمثل الشعب الفلسطيني، لكنه سحب تصريحه بعد مواجهة رد فعل غاضب عندما بدأت إسرائيل بقصف قطاع غزة. وكان هو من عبَّر عن أوّل انتقاد للسلطة الفلسطينية لإسرائيل بعد ما ذُكر عن أن هجوماً على المستشفى الأهلي في مدينة غزة قد أدى إلى مقتل نحو 500 فلسطيني (حددت وزارة الصحة الفلسطينية عدد ضحايا الهجوم لاحقاً بـ 470). وادَّعى رئيس الوزراء محمد اشتيّة أن السلطة الفلسطينية منخرطة في دبلوماسية وراء الكواليس لوقف هجوم إسرائيل، لكن إذا كانت تفعل ذلك، فإن النتائج كانت صفراً حتى الآن.
تشكِّل أحداث الشهر الماضي تهديداً وجودياً للسلطة الفلسطينية. فإذا تمكنت حماس، أو على الأقل جناحها السياسي، من البقاء بعد نهاية الحرب بشكل يشبه وضعها الراهن، فإن كثيراً من الفلسطينيين قد يرون في ذلك نصراً للتنظيم في وجه الهجوم الإسرائيلي. وقد يقبل عدد أكبر منهم بادعاء حماس بأنها تقود المقاومة الوطنية الفلسطينية في وجه الاحتلال الإسرائيلي. وإذا حدث ذلك، قد تقرر مجموعات أخرى في الضفة الغربية المقاومة بالوسائل العنيفة، الأمر الذي سيقوِّض أكثر القيادة الفلسطينية التقليدية وإستراتيجية التوصل إلى تسوية مع إسرائيل. إلَّا أن التهديد الأكبر لمستقبل السلطة الفلسطينية يتمثل في مزيد من القيود التي تفرضها إسرائيل على نشاطها، الأمر الذي سيجعلها غير ذات أهمية، بصرف النظر عن حصيلة مجريات الأحداث في قطاع غزة. ويمكن لهذا أن يدشِّن مرحلة جديدة أكثر وحشية للاحتلال، مع ازدياد عدوان المستوطنين والجيش في الضفة الغربية، كما رأينا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ماذا كان أثر هذه الأحداث على المجموعات المسلَّحة في الضفة الغربية؟
نشأ جيل جديد من المجموعات المسلحة – غير المرتبطة بفتح، الفصيل المهيمن في السلطة الفلسطينية، أو حماس أو أي فصيل سياسي آخر – في الضفة الغربية في عام 2021 في ردٍّ على عمليات التفتيش والاعتقال التي قامت بها إسرائيل في المنطقة (أ) – وهي المناطق الحضرية التي تشكِّل نحو 18 بالمئة من الضفة الغربية، والواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية – مع ما ترتَّب عليها من خسائر في الأرواح والممتلكات. نجحت إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى حد كبير في قتل، أو اعتقال أو استمالة مقاتلي هذه المجموعات المسلحة منذ ذلك الحين. ونتيجة لذلك، ظلت الضفة الغربية هادئة نسبياً بعد هجوم اليومين الذي شنَّته إسرائيل على مخيَّم جنين للاجئين لاقتلاع إحدى تلك المجموعات، وهي كتيبة جنين، في تموز/يوليو.
لكن اليوم، يمكن لأفعال إسرائيل أن تُشعل مزيداً من أشكال المقاومة العنيفة. ومن المرجَّح أن تتفكك هذه المجموعات بسبب انقسام الفلسطينيين. تحدث الانقسامات نتيجة إستراتيجية إسرائيل بمنع التعبئة الجماهيرية بعد الانتفاضة الثانية في عام 2000 وانهيار قيادة السلطة الفلسطينية فيما يرى فيه الفلسطينيون صراعهم من أجل التحرر الوطني. من غير المرجح أن تؤدي أفعال حماس بحد ذاتها إلى إشعال شرارة المزيد من العنف في الضفة الغربية؛ بل إن الاحتلال العسكري المتشدد هو الذي سيتولى ذلك. لكن قد يستخلص الفلسطينيون دروساً من استعمال حماس لعنصر المفاجأة في 7 تشرين الأول/أكتوبر. لا يزال الاستياء الشعبي من الفصائل السياسية واليأس من احتلال وحشي يبدو ألّا نهاية له والذي حفّز على تشكيل هذه المجموعات حاضراً بقوة.
لقد بدأت المجموعات المسلَّحة بإعادة ترسيخ وجودها في شمال الضفة الغربية، بما في ذلك في مدن مثل جنين وطولكرم التي شهدت بعض أكثر الاشتباكات دموية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، شارك فيها غالباً مقاتلين فلسطينيين ذهبوا إلى هناك للمساعدة في صد التوغلات الإسرائيلية. لقد صنَّعت واستعملت عبوات ناسفة محلية الصنع ضد القوات الإسرائيلية خلال هذه التوغلات؛ وحسَّنت من قدراتها الاستطلاعية؛ وأقامت كمائن فعَّالة؛ وانخرطت في معارك مع جنود من وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي؛ وأجبرت إسرائيل – لأول مرة في حزيران/يونيو وفي عدة مناسبات لاحقة – على الرد بالضربات الجوية على الأحياء السكنية لحماية جنودها وإخراجهم. الجيش الإسرائيلي، من جهته، حسَّن تكتيكاته في البحث والاعتقال منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، إذ قام أولاً بتنظيف شوارع المدينة من العبوات الناسفة بالبلدوزرات أو بحفر شوارع المدينة، ومن ثم تحرَّك بقوة طاغية لقتل أو اعتقال المقاتلين.
برَّرت حماس هجومها في 7 تشرين الأول/أكتوبر بالإشارة إلى المسجد الأقصى في المدينة القديمة في القدس. فما الذي يحدث هناك منذ ذلك الحين؟
لقد كان المسجد الأقصى نقطة اشتعال منذ وقت طويل. فالمجمَّع مقدَّس للمسلمين في جميع أنحاء العالم، ولليهود بصفته موقع الهياكل القديمة. وقد حافظ تفاهم يُعرف بـ ’الوضع القائم‘ على إدارة مشتركة إسرائيلية–أردنية للموقع منذ احتلته إسرائيل عام 1967. في السنوات الأخيرة، بدأ ’الوضع القائم’ بالانهيار، بسبب ازدياد القيود الإسرائيلية المفروضة على وصول المسلمين إلى المسجد، وأيضاً بسبب أفعال قوميين–دينيين يمينيين مثل بن غفير لفرض ادِّعاء إسرائيل بحق سيطرتها على المجمَّع كاملاً. وأفضت هذه الأفعال بدورها إلى مواجهات. وقد ارتفعت التوترات في القدس الشرقية على نحو خاص منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وفي الأسابيع التي تلت، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية ستة فلسطينيين في المدينة، واعتقلت العشرات، غالباً بسبب نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
في بداية حرب غزة، نشبت أعمال عنف بين محتجين فلسطينيين والقوات الإسرائيلية في عدة أجزاء من القدس الشرقية، بما في ذلك المدينة القديمة. حدثت الاحتجاجات رغم الإغلاقات في جميع أنحاء المدينة وضواحيها، التي أعاقت هناك كما في أماكن أخرى من الضفة الغربية، تحرُّك الفلسطينيين بشكل كبير وأحدثت حالات نقص حادة في السلع الأساسية. وتوقف مرور المشاة على نقاط تفتيش الشرطة توقفاً كاملاً، وبات النقل العام لا يعمل بسبب الحواجز المُقامة على الطرقات. وقد شهد مخيم شعفاط، مخيم اللاجئين الفلسطينيين الوحيد داخل حدود المدينة، توغلات إسرائيلية أفضت إلى اعتقالات بالجملة وحدث تدمير كبير للممتلكات. وقد ضايق الجنود الإسرائيليون الأشخاص، وأوقفوهم وفتشوهم على نحو روتيني، بما في ذلك أطفال المدارس، ودون تقديم مبررات.
بات الوصول إلى المدينة القديمة محدوداً مرة أخرى، ولا سيما إلى المسجد الأقصى، حيث قُيِّدت مشاركة المسلمين تحت سن الستين في صلاة الجمعة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقد كثَّفت الشرطة الإسرائيلية وجودها، حيث نشرت 2,500 عنصر شرطة ومتطوِّع لتسيير دوريات في المدينة القديمة وجوارها. وقد استمرَّ المصلُّون اليهود في الدخول عنوة إلى المسجد الأقصى بحماية الشرطة للصلاة في الموقع في انتهاك للوضع القائم تاريخياً. كانت هذه الأنماط من التوغلات بالتحديد هي التي تدَّعي حماس أنها دفعت جزئياً إلى هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر.
كيف استجابت الدول الغربية لما يحدث في الضفة الغربية؟
لم تفعل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى شيئاً يذكر لكبح جماح إسرائيل أو عنف المستوطنين الذي مكَّنت من حدوثه في الضفة الغربية. لقد بدأت مؤخراً بانتقادها أكثر في التصريحات العلنية، لكن في معظم الأحيان دون القيام بإجراء فعلي دعماً لتصريحاتها. في هذه الأثناء، يستمر الوضع على الأرض بالتدهور يومياً وتصبح الحياة اليومية للفلسطينيين أكثر صعوبة.
لا تكمن المشكلة في عدم استجابة العواصم الغربية للوضع المتردِّي في الضفة الغربية بقدر ما تكمن في حقيقة أن أياً من هذه العواصم لم تعالج المشكلة الحقيقية، وهي أن الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي هما اللذان يمكِّنان المستوطنين من فعل ما يفعلونه. في الواقع فإن الحكومات الغربية لم تقرّ فعلاً بتواطؤ الحكومة الإٍسرائيلية، ناهيك عن اتخاذ خطوات ملموسة لردعها عن مسارها الراهن.
على سبيل المثال، أدانت فرنسا ما يحدث في الضفة الغربية، ومضت إلى حد وصف عنف المستوطنين الإسرائيليين بأنه “سياسة إرهاب“، ودعت السلطات الإسرائيلية إلى اتخاذ “الإجراءات الضرورية لحماية السكان الفلسطينيين“. لكنها لم تعترف بأن تلك السلطات نفسها ضالعة بعمق في أعمال العنف.
قال الرئيس بايدن إن الولايات المتحدة مستعدة، للمرة الأولى، لفرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين في هجمات على الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وقد وصفت إدارة بايدن في الولايات المتحدة عنف المستوطنين بأنه “تهديد خطير” للسلام. على تلك الخلفية، فإنها تدرس اتخاذ خطوات لضمان ألَّا تستعمل إسرائيل الأسلحة التي تقدمها لها الولايات المتحدة لتسليح مجموعات المستوطنين في الضفة الغربية التي كانت ضالعة في جزء كبير من العنف المرتكب ضد السكان الفلسطينيين في المنطقة (ج)، وهو شرط يُذكر أن إسرائيل وافقت عليه. كما قال الرئيس بايدن إن الولايات المتحدة مستعدة، للمرة الأولى، لفرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين الضالعين في هجمات على الفلسطينيين في الضفة الغربية، التي قد تشمل حظر منحهم تأشيرات الدخول.
على نحو منفصل، حذَّرت إدارة بايدن من أن إسرائيل تنتهك اتفاقية الإعفاء من تأشيرات الدخول التي دخلت حيِّز التنفيذ في 27 أيلول/سبتمبر، وذلك بمنع فلسطينيي الضفة الغربية الذين يحملون الجنسية الأميركية من دخول إسرائيل. وإذا لم تسوَّ هذه القضية قريباً، يمكن حرمان المواطنين الإسرائيليين من دخول الولايات المتحدة دون تأشيرة دخول. إلّا أن هذا الإجراء يعد عقاباً إدارياً روتينياً يستند إلى اتفاقية ثنائية بشأن تأشيرات الدخول، وليست عقوبة تُفرض رداً على عنف المستوطنين.
ثمة تطوّر أكثر جدية من حيث إخضاع إسرائيل للمساءلة عن عنف المستوطنين يتمثَّل في تشريع تنظر فيه الجمعية التشريعية لولاية نيويورك من شأنه أن يمنع الجمعيات الخيرية من إرسال الأموال لتمويل توسُّع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية. قد يسمح التشريع للدولة بملاحقة المجموعات قضائياً؛ ويسمح للفلسطينيين المتضررين من الأنشطة التي تموِّلها هذه المجموعات برفع دعاوى قضائية للمطالبة بتعويضات.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/37231