إن المواجهة الحالية بين حزب الله وإسرائيل والتي بدأت منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تنطبق عليها أوصاف الحرب الحدودية إلى حدٍّ بعيد، فمعظم البلدات الحدودية على الضفتين وعلى بعد بضعة كيلومترات من الحدود خالية من السكان أو تكاد تخلو ويقتصر الوجود الأساسي على العسكريين والمقاتلين، وتتعرض لقصف متواصل وتشهد دمارًا خاصة على الجانب اللبناني، بما يذكِّر بحرب يوليو/تموز عام 2006. وقد زادت المواجهات مؤخرًا، كثافةً وحدَّةً واتسعت مساحتها، وأعلن مؤخرًا مسؤولون إسرائيليون استعدادهم لشن هجوم خاطف على لبنان، كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أنه يستعد لعملية ضد لبنان بعد أن يستكمل المعركة في رفح، في حين أعلن الوسطاء عن فشلهم في التوصل لاتفاق على الجبهة اللبنانية يشمل وقف إطلاق نار دون وقفها باتفاق على جبهة غزة.
يراجع التعليق المواجهة الإسرائيلية-اللبنانية في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، ويتناول نقطتين أساسيتين: طبيعة المواجهة القائمة وتوصيفها وإذا ما كانت ستُفضي أو تتحول في مرحلة ما إلى مواجهة شاملة بين الطرفين.
توصيف المواجهة
من طبيعة هذه المواجهة أنها تتسع سواء بسبب الفعل أو رد الفعل، لكنها أيضًا منضبطة بكوابح وحسابات من قبل أطرافها أنفسهم.
بدأت المواجهة الحالية بمبادرة من حزب الله في منطقة مزارع شبعا منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول وامتدت على كامل الشريط الحدودي مع “إسرائيل”، وعمل حزب الله، ولو على تراخ، على إخلاء القرى الأمامية وغالبها حاليًّا إما خالية أو شبه خالية. من الواضح ابتداء أن حزب الله لم يكن يريد لهذه المواجهة أن تتسع ويريد حصرها بالشريط الحدودي وبمستوى منخفض ما استطاع، مع الحفاظ على استمرارها ما دامت الحرب على غزة مستمرة، وأكد أنه ينفذ عملياته إسنادًا للمقاومة في غزة، واستباقيًّا كي لا تفكر إسرائيل بعد غزة بالحرب على لبنان.
أما إسرائيل فهي على الأغلب المبادر إلى توسيع المواجهة منهجيًّا، لإجبار حزب الله على إيقاف عملياته والانسحاب إلى ما قبل نهر الليطاني تنفيذًا للقرار 1701، الذي صدر في أعقاب حرب 2006. في حين تقوم عدة دول بدور الوساطة أو نقل رسائل التهديد إلى السلطات اللبنانية وإلى حزب الله لوقف عملياته وإبرام اتفاق مع إسرائيل، منها أميركا التي يعمل مبعوثها الخاص إلى لبنان، آموس هوكستين، على اقتراح اتفاق لوقف إطلاق النار يتضمن ترسيم الحدود اللبنانية-الإسرائيلية وتراجع مقاتلي حزب الله عن الحدود إلى ما وراء نهر الليطاني، لتجنب حرب إسرائيلية واسعة على لبنان، إلا أن حزب الله لا يزال يلتزم القول: إن المواجهة ستتوقف بمجرد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في غزة، وحينها يمكن البحث بأي أمر آخر.
وقد اتسعت مساحة المواجهات المكثفة لتشمل كل الخط الحدودي مع لبنان، ثم ازدادت عمقًا لتشمل بلدات عدة تقترب من الساحل الجنوبي اللبناني، لاسيما من بلدة صور الساحلية، ولا تزال تتمدد. أما الاستهداف بالمسيرات لاغتيال مسؤولين أو أعضاء من حزب الله أو من المقاومين، فتكاد لا تعرف الحدود. بالمقابل، لم يتردد حزب الله في استهداف الجليل الأعلى حتى إن نيرانه وصلت في بعض المرات إلى صفد، كما أن مسيَّراته باتت تخرق الأجواء الإسرائيلية.
دوافع إسرائيل للحرب
إن لإسرائيل دوافع سابقة على معركة “طوفان الأقصى” لخوض حرب ضد حزب الله وكانت محل نقاش إسرائيلي مستمر، وجاءت تطورات ما بعد الطوفان لتحفز على ذلك.
أولًا: دوافع لأسباب تتصل بحرب 2006: فقد كانت إسرائيل تهدف من تلك الحرب إلى القضاء على حزب الله ولجم تعاظم دوره في لبنان، إلا أن الحرب انتهت وفق القرار الأممي رقم 1701، أي إلى “وقف كامل للعمليات القتالية في لبنان” واستمر دور حزب الله. ومما نصَّ عليه القرار الأممي إنشاء منطقة على الحدود اللبنانية خالية من المسلحين ومنزوعة السلاح تمتد إلى نهر الليطاني، وكانت إسرائيل تأمل من ذلك لأن يحد من وجود وحركة حزب الله في المنطقة الحدودية، إلا أن دوره تعزز بدلًا من ذلك.
ثانيًا: بسبب ترسخ دور حلفاء إيران على حدودها وتهديدهم مصالحها: تعتبر إسرائيل حزب الله الفاعل الأساس من حلفاء إيران في الإقليم، ويشارك بدور رئيسي وريادي في معركة مساندة غزة الحالية، إلى جانب حلفاء من اليمن والعراق، وله -كما لهذه القوى- تمركز عسكري قرب الحدود السورية مع الجولان المحتل.
ثالثًا: لأسباب تتعلق بالأمن الإقليمي من المنظور الإسرائيلي: فحزب الله يقوم بدور قوة متقدمة لصالح إيران، تستخدمها طهران لردع إسرائيل عن استهدافها أو استهداف مشروعها النووي.
أما بعد طوفان الأقصى، فأهم ما يمكن التأكيد عليه، سعي إسرائيل لاستعادة قوة الردع في المنطقة، وهذا لا يمكن أن يكتمل بالحرب على غزة دون لجم الحزب على “الحدود الشمالية” لإسرائيل، وهو مطلب لشريحة واسعة من الجمهور الإسرائيلي، كما أبدى سكان المستوطنات الشمالية مرارًا فقدانهم للشعور بالأمن مع عدم إبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود، وهو ما تسعى إسرائيل للوصول إليه بحرب أو باتفاق.
كوابح توسعة الحرب
هناك مخاوف لدى الطرفين، حزب الله وإسرائيل، من مواجهة شاملة ومفتوحة بموازاة الحرب الإسرائيلية على غزة.
أبسطها بالنسبة لإسرائيل أنها تخوض حربًا على “تخومها” في غزة وليس هناك حتى اللحظة تأكيد بالقضاء على المقاومة أو إطفاء جذوتها، ولا تزال تواجه تحديات عدة جرَّاءها، ولديها من الانقسامات الداخلية ومن الخلافات مع الحلفاء، لاسيما واشنطن، ما يحتاج لترميم. وعلى الضفة الأخرى، لا تعرف إسرائيل المسار الذي قد تبلغه أي مواجهة مع لبنان، سواء من حيث تضرر إسرائيل وعدم التيقن من قدرتها على تحقيق أهداف أي عملية عسكرية قد تقدم عليها، لاسيما أن حزب الله منخرط في هذه المعركة تحت عنوان “وحدة الساحات” أي هو جزء من محور لا تخفي إيران تأييدها له ودعمه بكل ما يلزمه، خاصة إذا ما كان هدف الحرب حزب الله نفسه، الذي يرتبط عضويًّا بروح النظام الديني في إيران وليس بحلفه السياسي فحسب.
كما أن حزب الله قد راكم خلال فترة حرب الإشغال في هذه الأشهر التسعة على الأقل، قدرات لا يمكن الجزم بإحاطة إسرائيل بها، وقد ظهرت عينات منها في الحرب السابقة، عام 2006، كالقوة الصاروخية ولكن بتطور أكبر، أو الجديدة منها كما الشأن مع المسيرات وقدرتها على الانقضاض أو الوصول لأهداف داخل إسرائيل، حتى إن حزب الله نشر صورًا للعمق الإسرائيلي ومواقع حساسة مع إحداثياتها المحددة، جاءت بها إحدى طائراته المسيرة.
بالنسبة لحزب الله، فهو لا يريد توسعة الحرب حتمًا، وانخرط في المواجهة ويريدها محدودة وضمن إستراتيجية “وحدة الساحات” ليوقف الحرب على غزة، وليحول دون أن تنتصر إسرائيل فيها انتصارًا واضحًا يعزز قدرتها على شن حرب شاملة على لبنان أو بالأحرى على الحزب نفسه لاسيما أن لبنان يعاني من أزمة اقتصادية وسياسية حادة. كما يضطلع حزب الله بدور متقدم في الشأن اللبناني وحتى في الإقليم مما يجب أخذه بالحسبان في أي مواجهة، فهو ليس “مقاومة” لبنانية فقط، هو أيضا فاعل أساسي في الإقليم وفي محور “إيران”، ومدى مصالح هذا المحور أوسع من غزة وإن كانت جزءًا منه.
ويبدو الطرفان، حزب الله وإسرائيل، أن كلًّا منهما يهيئ نفسه في سياق هذه الحرب، لاحتمال استمرارها لفترة طويلة لتلاقي استحقاقات أخرى مثل الانتخابات الأميركية المقبلة، أو لاحتمال أن تنزلق لتصبح شاملة كما كان شأنها عام 2006، وحينها ستكون عنيفة وبلا حدود بشكل غير مسبوق، فالطرفان مستمران في الحشد والتعبئة ومراكمة الطاقات والاستعدادات اللوجستية لهذه الاحتمالات مع محاولة كل منهما فهم وتقدير قوة خصمه في هذه الأثناء، هذا من جهة.
أما من جهة أخرى، فكلا الطرفين لا يريد أن تتكرس معادلة لصالح الطرف الآخر ولو في مواجهة محدودة، فيلجأ للرد على الرد بأقوى منه أو بما يعادله، حتى لو اضطر لإدخال عناصر جديدة في المواجهة ما يعني اتساع دوائر الحرب لتشمل مساحات جغرافية أوسع واستعمال أسلحة أشد؛ ما ينذر بحتمية الوصول في نهاية المطاف إلى مواجهة مفتوحة في حال عدم التوصل إلى وقف لإطلاق نار قريب في غزة، بغض النظر عما تريده الأطراف نفسها.
لهذا مع كل توسع جديد للمواجهات تتدخل أطراف الوساطة لتفادي الوصول إلى حرب مفتوحة، ومنهم أميركا والأوروبيون، وليضعوا حدودًا جديدة تضبط الجبهة اللبنانية بانتظار اتضاح غبار الحرب في غزة وكسبًا لمزيد من الوقت.
لكن هذه الآلية لا تزال ناشطة لاسيما أن إسرائيل باتت أكثر وضوحًا في توسعتها للحرب منهجيًّا في جنوب لبنان، وهو ما يقابله حزب الله باستهداف عمق الشمال الإسرائيلي، مع سعيه لوضع معادلة في السياق تكبح الاندفاع الإسرائيلي، من ذلك تهديده بإدخال مناطق إسرائيلية حيوية ضمن المواجهة الحالية إذا ما استمرت إسرائيل في نهجها هذا، من ذلك مثلًا أنه هدد بأن إدخال مدينة صور في دائرة المواجهة سيقابله الحزب بإدخال حيفا فيها، ورد الطرف الإسرائيلي بأن حيفا ستكون بمقابل بيروت، وهكذا دواليك، تصنع الحرب توازناتها مع كل اتساع.
سيناريوهات المواجهة
يمكن الوقوف على ثلاثة أساسية منها بالجملة:
الأول (وهو ما تسعى إليه إسرائيل): توسعة المواجهة لتشمل معظم الجنوب اللبناني وخطه الساحلي دون بيروت وضواحيها، مع الاستمرار في سياسة الاغتيالات بالمسيرات في عموم الأراضي اللبنانية؛ وهو الأمر الذي من شأنه أن يضع ضغوطًا على حزب الله وتأليب حاضنته ضده أو معاقبتها. وفق هذا السيناريو، من المفترض أن يكتفي حزب الله بالتوسع في استهداف الجليل وبقية المناطق الحدودية بعمق أكبر بقصد الرد والردع دون الذهاب إلى مواجهة مفتوحة شاملة، لتفادي تعرض لبنان أو مناطق حاضنته لدمار أعظم، أو لحسابات تتعلق بالإقليم، كأن تتدخل الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل. ومثل هذه التوسعة ستعاني منها إسرائيل وستدفع كلفة أكبر لكنها نظريًّا ومن منظورها قد تتيح لها تحقيق بعض أهم أهدافها، منها تحطيم قدرات حزب الله على الحدود، وتحجيم قوته بشكل عام وإجباره لاحقًا على الإذعان لشروطها بسحب مقاتليه إلى ما وراء نهر الليطاني، وربما فصل جبهة الجنوب اللبناني عن غزة.
الثاني: تحول المواجهة إلى مفتوحة، وهو ما يهدد به حزب الله للجم إسرائيل ومنعها من توسعة الحرب بلا حساب كلفتها، فهو يؤكد لإسرائيل أنها قد تملك المبادرة على توسعة الحرب وهو ما تفعله من حين إلى آخر، لكنها لا تملك بالضرورة القدرة على إيقافها أو ضبطها، وهذا ما جعلها حذرة في كل توسعة أو تصعيد إضافي حتى اللحظة. ولا شك أن الانزلاق إلى مواجهة شاملة لا ترغب فيه إسرائيل، لأن ذلك قد يعرضها إلى صدمة أخرى قد تقترب من تلك التي عرفتها في “طوفان الأقصى”، خاصة أن حسابات الحرب المفتوحة مع حزب الله أكثر تعقيدًا من تلك التي مع غزة، وقد تعني بدورها الانزلاق إلى حرب إقليمية أوسع تشارك فيها قوى أخرى وجبهات أخرى، وحتى إيران نفسها. وعلى العموم، قد تنتهي الحرب إلى شاملة ومفتوحة نتيجة لتطور الحرب نفسها، أو نتيجة الخطأ في الحسابات خاصة إذا ما اعتقدت إسرائيل أنها تملك القدرة على فرض وقف الحرب كما تملك القدرة على مباشرتها.
الثالث: استمرار المواجهة بالتوازي مع استمرار الحرب في غزة، وقد تشهد مزيدًا من التصعيد لكن لا يخرج عن إطار الاحتواء والتراجع لتنخفض حدته مجددًا، وقد تتراجع المواجهة إلى الحد الأدنى لاسيما إذا ما أعلنت إسرائيل انتهاء عملياتها الأساسية هناك ولو لم يحصل اتفاق على وقف لإطلاق النار. هذا السيناريو تعايش معه حزب الله رغم أنه دفع ثمنًا عاليًا من مقاتليه دون وجود أفق واضح لانتهاء الحرب، فالخسائر في المقاتلين في هذا الشكل من المواجهة أكثر من المدنيين. أما إسرائيل فأعلنت عدم قبولها بهذه المواجهة وتأبى التعايش معها، والأرجح أنها تفكر بتوسعتها جنوبًا دون أن تكون مفتوحة، ولكن هذا السلوك مع وجود نتنياهو في القيادة، يزيد جدًّا من مخاطر الحرب الشاملة.
بالعموم، إن سيناريوهات هذه الحرب تبدو معقدة وصعبة، لأن قرار إطلاق شراراتها كان سببه المباشر من خارجها من غزة، ويبدو قرار وقفها أيضًا ليس بيد أطرافها إلى حدٍّ كبير حتى اللحظة على الأقل، والبحث هو في قرار تصعيدها أو ضبطها، أما وقفها فهو في غزة.
خاتمة
شهدت هذه المواجهة تطورات لم تعرفها سابقاتها، ولها أهمية في توصيفها، فهي أطول مواجهة من حيث مدتها، وتجري دفعة واحدة على طول الحدود، وتشهد استعمال أسلحة وتكتيكات تختلف جذريًّا عن كل ما سبقها، والأهم أن قرار وقفها ليس بالكامل بيد أطرافها لارتباط المواجهة بالحرب على غزة. وعلى الصعيد اللبناني، بخلاف المواجهات السابقة فإن الخسائر بالمقاتلين أكثر من المدنيين، ولأول مرة منذ الطائف يشارك فلسطينيون في مواجهات عبر الحدود اللبنانية ولو لمدة وجيزة، ولا شيء يمنع من انخراط قوى أخرى ومن جنسيات مختلفة في هذه المواجهة وإن كان حزب الله يؤكد عدم حاجته لأي مساعدة على هذا الصعيد. بالمقابل، لأول مرة تخلي إسرائيل مستوطنات بالشمال خشية من تكرر سيناريو السابع من أكتوبر/تشرين الأول فيها، ولأول مرة تعرف إسرائيل نازحين بهذه الكيفية من الحدود الشمالية، كما لأول مرة تخوض إسرائيل مواجهات متعددة بهذا الاتساع، لاسيما بعد تمدد “حلفاء” إيران في المنطقة.
وأي سيناريو ستشهده هذه المواجهة، لن يكون شبيهًا بأي مواجهة سابقة، سواء كانت محدودة أو شاملة وواسعة، ومهما كانت نتيجة الحرب الحالية، فإنها ستطلق وربما أطلقت دينامية جديدة، لحرب مقبلة بين حزب الله وإسرائيل، لأنها كشفت عن تعزز قوة حزب الله وتعاظم دوره المحلي والإقليمي، في الوقت الذي تهشمت به قوة الردع الإسرائيلي.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5951