د. عدنان أبو عامر
مقدمة
مع دخول الضربات الجوية الإسرائيلية في عامها الثامن، يستعيد كبار الضباط في سلاح الجو أبرز المشاهد والمواقف التي عاشوها منذ 2013 في الأجواء السورية، في استمرار واضح لاستراتيجية “المعركة بين الحروب”، التي شكلت بديلا عن خوض حرب شاملة مرة واحدة كل عشر سنوات، فأصبحت تشن عشر حروب في سنة واحدة.
جاءت بداية هذه الضربات الإسرائيلية في إحدى ليالي الشتاء في أواخر يناير كانون الثاني من عام 2013، حيث دخلت الحرب السورية عامها الثالث بين النظام ومعارضيه، وبدأت مساعدة الحرس الثوري الإيراني لجيش النظام تظهر إشاراتها، فيما تعمق حزب الله في القتال من أجل بقاء الأسد، وفي هذه الفوضى التي سادت في جارتها الشمالية، حددت شعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي اتجاهاً مقلقاً قبل أسابيع قليلة من ذلك التاريخ المفصلي.
السنوات الضائعة
في قمة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، نظروا إلى الوراء قليلاً، وتحديدا بين عامي 2007-2012، وتسميها “السنوات الضائعة”، حيث واصل حزب الله دون انقطاع تكثيف عملية تسليحه منذ نهاية حرب لبنان الثانية في 2006، وملأ مستودعاته بعشرات الآلاف من الصواريخ التي تغطي كامل الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وأنشأ وحدة جوية بمئات الطائرات بدون طيار، بعضها انتحاري، وأعاد تجهيز مقاتليه، وتزود بأفضل الصواريخ المضادة للدبابات، ووسائل أخرى لجمعها، وتحديد مكانها، فيما كان رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك الجنرال بيني غانتس مشغولاً في تلك الأيام بمعارك الميزانية مع وزارة المالية، في حين أن سلاح المشاة في الجيش الإسرائيلي بالكاد كان يجري تدريباته.
أما حماس في قطاع غزة، فقد تعافت من عملية “عمود السحاب” التي شهدت اغتيال أحمد الجعبري، قائد جناحها العسكري، في نوفمبر 2012، وخاض الجانبان حربا استمرت ثمانية أيام، لكن رأس الحربة كان متواجدا هناك في عمق الساحة الشمالية، وفجأة في ظل كل هذه التوترات، وفي قرار غير مسبوق، قررت إسرائيل مهاجمة سوريا في ذلك الوقت، ولم تكن تعلم أن هذه ستكون واحدة من مئات العمليات المماثلة في إطار “المعركة بين الحروب”.
بدأ الطيارون الإسرائيليون على متن طائراتهم المقاتلة التي تم إطلاقها شمالًا بداية العاصفة باتجاه سوريا، ولم يكونوا يعرفوا آنذاك أين تبدأ، وكيف ينهونها، في حين توفرت لدى رئيس الأركان بيني غانتس ووزير الحرب إيهود باراك ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو علامات استفهام أكثر من الإجابات حول كيفية تفسير هذه الخطوة على الجانب الآخر من الحدود، أي عند النظام السوري وحلفائه.
مع العلم أن النقاشات التي شهدها جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية- أمان، حول أول عملية قصف داخل سوريا تخللها اعتراف إسرائيلي بأنه حتى ذلك الحين، نفذت إسرائيل عشرات العمليات السرية خارج حدودها، وفي مختلف دول المنطقة، ولكن من خلال وحدات خاصة، ولذلك ظن عدد لا بأس به من كبار الضباط أن أياً من هجماتهم في سوريا ستكون بمثابة إعلان للحرب، في ظل الردع المتبادل الذي ساد في السنوات والعقود السابقة، ولذلك بلغ التأهب في القوات المسلحة وسلاح الجو ذروته تحسباً لاندلاع حرب مع حزب الله.
يستحضر كبار الضباط الإسرائيليين في هذه الأيام، ما نقلته وكالات الأنباء في الليلة السابقة، عند ساعات الفجر الأولى عن دخول 12 طائرة مقاتلة إسرائيلية إلى المجال الجوي اللبناني، وبعد ذلك بيوم، وفي ليلة الهجوم، أعلنت السلطات السورية الرسمية أن سلاح الجو الإسرائيلي هاجم مركز أبحاث الجمرية بالقرب من دمشق، وأصبح فيما بعد رمزًا ومرتعًا للعديد من الهجمات الإسرائيلية في قلب دمشق.
صمت إسرائيل وصدمة العالم
بعد ساعات من صدمة العالم بهذا التطور المفاجئ، بدأت وسائل الإعلام العالمية تنقل عن مسؤولين عسكريين في أكثر من دولة أن إسرائيل هاجمت صواريخ SA-17 المضادة للطائرات روسية الصنع، وأن الهجوم الإسرائيلي تركز على قافلة أسلحة من سوريا إلى لبنان، وفي الأيام الأولى من فبراير، وبعد أسبوع من الهجوم المدوي، ذكرت الصحف العالمية أن ضباطا كبارا في الحرس الثوري الإيراني قُتلوا في الهجوم، أما في حين أن إسرائيل الرسمية فالتزمت الصمت، لأن المفهوم السائد فيها “آنذاك” أن هذا الغموض مصدر أساسي لنجاح العملية، وإبقائها تحت السيطرة، فيما بدأ السوريون والإيرانيون يهددون بالرد.
أربعة أشهر من الصمت في الساحة الشمالية مرت حتى أغلق الجنرال إيتاي بارون، رئيس قسم الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية في تلك الأيام، الجزء الأخير من اللغز الغامض، بكشفه أن الهدف المهاجم هو بطارية صاروخ SA-17 كانت متجهة للوصول إلى حزب الله، وفيما لو وصلت فعلاً إلى وجهتها، فقد كان من الممكن أن يقضي على التفوق الجوي الإسرائيلي في سماء لبنان.
في الأشهر الخمسة من ربيع وصيف 2013، جاءت العمليات الأعلى من نوعها التي نفذت على الأراضي السورية كبيرة، لأن السوريين والإيرانيين غارقون حتى رؤوسهم في الحرب المستعرة هناك، ولم يردوا على الهجمات التي بدأت في أواخر يناير من ذات العام، رغم أن المستوى العالي من اليقظة لسيناريو الحرب أخذ في الانخفاض، لأن الضربات الإسرائيلية استهدفت منذ البداية الأسلحة الكاسرة للتوازن مثل الشحنات المحملة بالوسائل القتالية غير التقليدية، التي يتم تحميلها على متن طائرات ايرانية عملاقة.
بالون الاختبار
هذا يعني أنه تم وضع تفاصيل هذه العمليات داخل قيادة الجيش وأجهزته الأمنية، ودروسها المستخلصة منها في الأشهر المبكرة من عام 2013، تمهيدا للشروع في استراتيجية “المعركة بين الحروب”، وما تشتمل عليه من: الاستعدادات الأولية، حركات الخداع، مستويات اليقظة والتخطيط، ولذلك تم تشكيل فرقة كاملة داخل الجيش لتنفيذها على أرض الواقع، من خلال عناصر في دائرة المخابرات الذين يشاركون في هذه العمليات على مدار الساعة، لأنهم مقتنعون بأنهم ذاهبون للحرب.
لم يكن سراً أن المحافل العسكرية الإسرائيلية عاشت بالفعل في حالة توتر، ولذلك أجريت العديد من المناقشات الساخنة حول “بالونات الاختبار” التي شهدتها الشهور الأولى من خلال الضربات الأولى، وبعدها بدأت الطواقم تنشغل بشكل روتيني في وضع أهداف للحرب القادمة، من خلال تتبع شحنات الأسلحة، وتحديد طرق التهريب، ومناطق انتشار أسلحة القوى المعادية، دون التفكير في كيفية مهاجمتها بهدوء، أو الذهاب الى خيار الحرب الواسعة.
يستعيد الإسرائيليون ما يسمونه “السنوات الضائعة” التي سمحت فيها إسرائيل لحزب الله بالتقدم نحو حصوله على لقب “الجيش النظامي”، ولماذا لم تبدأ استراتيجية “المعركة بين الحروب” قبل اندلاع الحرب السورية، مع أن سوريا في تلك السنوات لم تسمح بمرور الأسلحة البرية والجوية إلى حزب الله في لبنان، في حين كانت تصل الأسلحة الايرانية للحزب من طرق أخرى مثل السفن التي أحبط الجيش بعضها، وكل ما انتقل بعد ذلك للحزب كان من الصناعة العسكرية السورية، لكن الحرب فيها غيرت الصورة، وأصبحت عاملاً يسمح لإسرائيل بالعمل ضد تسليحه، ما يعني أنها انتهزت هذه الفرصة السانحة.
مع العلم أن سلاح الجو الإسرائيلي دخل بداية العقد الماضي، عصر “انفجار المعلومات”، واستخراجها بطرق حديثة، ولذلك تمت ترقية القدرات الاستخباراتية إلى درجة لا يمكن التعرف عليها، مما مكنه من إنتاج عمليات إغلاق الدوائر التكنولوجية السريعة بناءً على التكنولوجيا المتقدمة.
هذا يعني أن هذه القدرات في العقد الماضي كانت مختلفة تمامًا عما كانت عليه في العقود التي سبقته، وهو ما سمح للجيش الإسرائيلي بالانتقال من وصف الواقع القائم لدى الجارة الشمالية في سوريا، إلى تصميمه أيضا، وهذه هي العناصر الدرامية التي مكّنت بالفعل من تنامي استراتيجية المعركة بين الحروب.
أين حزب الله؟
تزامنت الضربات الإسرائيلية الموجهة إلى داخل أعماق الأراضي السورية مع ما شهدته الساحة الشمالية من تطورات متلاحقة، وُصفت فيها صواريخ حزب الله بـ”الصدئة”، نظرا لعدم استخدامها منذ انتهاء حرب لبنان الثانية في صيف 2006، ويرجع ذلك أساسًا إلى تكثيف الضربات الإسرائيلية من جهة، وتآكل قدرات الحزب وسوريا من خلال هجمات المعركة بين الحروب من جهة أخرى، مما سمح بتخفيض ميزانية الدفاع، وتقليص الموارد العسكرية.
في الوقت ذاته، امتنع الجيش الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا عن الرد في السنوات الأخيرة على الهجمات الحدودية أو إطلاق الصواريخ القادمة من قطاع غزة، لأنه كان في خضم “قضية” سرية لإحباط تسليح حزب الله وإيران في سوريا بأسلحة دقيقة، وقد حصلت بالفعل حالات امتنع فيها الجيش الإسرائيلي عن الرد، ولم يهاجم على الفور، حتى لا يضر بالعمليات المنفذة في نفس الوقت على الجبهة السورية.
مع العلم أن الجمهور الإسرائيلي لا يرى كل شيء، فهناك اعتبارات عسكرية تمتد أبعد شرقا، إلى ما وراء سوريا حيث إيران، مما دفع أحد الضباط الكبار للزعم قائلا إننا لا نتخذ قرارات بناء على ما سيكتبونه في الجريدة في اليوم التالي، أو ما سيقولونه عن فقدان الردع الإسرائيلي.
تركزت الضربات الإسرائيلية في سوريا نحو البطاريات الإيرانية المضادة للطائرات، وصواريخ أرض- أرض الدقيقة، في مسعى إسرائيلي لا تخطئه العين لمحاولة الضغط على “المضيف السوري”، الذي بدأ يتضايق من ضيوفه الإيرانيين، مع العلم أن الضربات الإسرائيلية استمرت دون الانحدار إلى مستوى الحرب الشاملة.
في المقابل، رد الإيرانيون على عمليات المعركة بين الحروب، من خلال إرسال طائرات بدون طيار مرتين على الأقل إلى أجواء فلسطين المحتلة، وأطلقت صواريخ من سوريا على مرتفعات الجولان، مع تكرار محاولات لإرسال أسراب مزودة بعبوات ناسفة إلى حدود مرتفعات الجولان، فقد حاول حزب الله أن يثبت نفسه، ويحاول القيام بذلك في الجولان السوري، لكن الهدف الأساسي لإسرائيل تمثل في “عدم وضع إصبع في عين العدو”، كي لا يتم استفزازه أكثر، والضغط عليه للرد.
الثمن الرخيص
هذا لا يعني أنه لم توجد هناك خشية سادت أوساط قيادة الجيش الإسرائيلي من أن يؤدي الانشغال المستمر بعمليات “المعركة بين الحروب” إلى تآكل قدرات الجيش، أو نسيان القدرات الكلاسيكية لشن حرب حقيقية، لأنه قد يأتي أحيانًا على حساب التدريب والتمارين لمواجهة واسعة النطاق، وهناك حالات تم فيها وقف عمل قوات الأمن وسلاح الجو لأسابيع وشهور.
في الوقت ذاته، ينظر الإسرائيليون إلى أن تكاليف هذه العمليات المكثفة باتجاه الأراضي السورية لاستهداف القواعد الإيرانية هناك، “أرخص” كثيرا مقارنة بحرب قد تستمر شهرين، ما يعني أن هذه الاستراتيجية المتمثلة بـ”المعركة بين الحروب” تلفت انتباهًا كبيرًا، دون أن تتحمل إسرائيل بالضرورة، وعلانية، المسؤولية عنها.
مع العلم أن الهدف الإسرائيلي المزعوم لا يتمثل بـ”إذلال” العدو، و “إحراجه” أمام جمهوره الداخلي، وفي بعض الأحيان لا تتمثل هذه السياسة بإلقاء قنبلة على شحنة أسلحة فحسب، بل لإيصال رسالة، أو زرع فكرة ضمن “مراسلات ناعمة” مع العدو، وفي كثير من الأحيان يفهم الجانب الآخر هذه الرسالة الواردة من تل أبيب.
لا يتوانى كبار الضباط المنخرطين في تنفيذ هذه الضربات في الإشارة إلى عدد غير قليل من الثغرات في عمليات “المعركة بين الحروب”، والتنويه إلى بعض المخاطر التي يتعرض لها المهاجمون الإسرائيليون، وهو ما استغرق ساعات طويلة من المناقشات لبحث تلافيها.
في سبيل ذلك اقتنى الجيش أسلحة باهظة الثمن، ومحسنة ودقيقة، مع تقنيات تبدو أنها خيالية بسبب تقدمها، وتم إلقاؤها في المعركة التي اشترط فيها ألا تنتقل إلى حرب واسعة وطاحنة، بل أن تقتصر على مهاجمة واستهداف البنية التحتية الإيرانية والتابعة لحزب الله، مثل مستودعات الأسلحة، والقدرة على التطوير والإنتاج.
معادلات جديدة
شهدت السنوات الأخيرة محاولات مستمرة من حزب الله للانتقام من إسرائيل بسبب هجماتها المتواصلة من خلال إحداث حالة من التوتر الشديد على الحدود اللبنانية، أسفرت عن قتل جندي إسرائيلي، في محاولتين فعليتين اخترق قناصة الحزب منطقة الحدود، وأطلقوا النار على موقع قرب كيبوتسات استيطانية، لكنهما فشلتا، ويبدو أن الحزب لم يرد القيام بعملية سرية ضد إسرائيل، بل تحويلها إلى حدث مرئي ومتفجر.
الخلاصة أن “مفهوم “المعركة بين الحروب” التي تركز على سوريا في السنوات الأخيرة يعني أنه بدلاً من شن حرب واحدة كبيرة مرة كل عقد من الزمن، فإن إسرائيل تضطر لخوض عشرة حروب في السنة الواحدة، ولذلك ومنذ بدء هذه العمليات بداية العقد الماضي، فقد خسر سلاح الجو الإسرائيلي بالفعل طائرة مقاتلة في عام 2017 من نيران سورية مضادة للطائرات، وهو حدث نادر، جر إسرائيل إلى يوم مفتوح من المواجهات في الشمال.
ولكن مع مرور الوقت، فقد بات ما يحدث اليوم من ضربات وهجمات مبني على المعادلات، وتراجع مستوى عدم اليقين بنجاحها الذي بلغ معدلات مقلقة في البداية، وهو السبب الذي دفع إسرائيل في البداية عن عدم مهاجمة لبنان، لأنها كانت تعلم وتقدر أن حزب الله سيرد على الفور، لكن تبين العكس لاحقا، لأن كثيرا من المعادلات تم بناؤها بمرور الوقت، واتضح لاحقا أن تغيير المعادلة يمكن أن يحدد طبيعة الأمور التي يجب أن تستمر.
اليوم، ومع اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، تخشى إسرائيل من تأثر استراتيجيتها العسكرية المعمول بها في سوريا، بسبب موقفها المنحاز للغرب، صحيح أنها رفضت إدانة روسيا رسميا، خشية ان تعرقل عملياتها العسكرية والجوية في الأجواء السورية، لكن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا كفيل بزيادة المخاوف الإسرائيلية من تراجع وتخفيض وتيرة استراتيجية “المعركة بين الحروب”، وهذا مصدر قلق حقيقي لا تستهين به تل أبيب.
.
رابط المصدر: