حيدر الاجودي
الوعي شعور يعتمد على معطى معرفي ينبثق من العلم والعقيدة والرؤية والممارسة، وعليه فإن الوعي بهذا التوصيف يكون انعكاسا شموليا للمنظومة الحياتية التي يعيشها الإنسان، ثم إنه يعد موجها سلوكيا تبنى نتائجه على مساحة الوعي المختزن ليحقق موازنة بين النتائج السلوكية المستحصلة سلبا أو إيجابا بحسب قلته أو غزارته.
وهذا يجعلنا نفهم تشخيص مقومات الارتقاء بالوعي الكائنة بالنظرة الخاصة التي تعتمد على الفهم والإدراك المعرفي الذي يتنوع به المصطلح، فيكون هناك الوعي الاجتماعي، والوعي السياسي والوطني والنفسي وغيرها.
وإذا أردنا أن نستظهر الوعي الفكري ليكون موجها سليما لحركة الفرد السوي، كان لزاما علينا أن نتجه إلى ذكر التعابير التي تبين مصاديق الوعي، إذ ورد مصطلح الوعي بلفظه بصيغ تختزن معاني متعددة تؤكد تعلق هذه اللفظة، ومنها ما جاء في قوله تعالى (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) الحاقة /12، وفي قوله تعالى (وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ) المعارج/18، وقوله تعالى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) الانشقاق/23.
وتخرج دلالة لفظة واعية في الآية الأولى إلى معنى الحفظ بعد الفهم، وتأتي دلالة لفظة (أوعى) في الآية الثانية هو بجعل المال في وعاء وكنزه، أما دلالة اللفظ الأخير (يوعون) فتخرج إلى الجمع والإضمار.
إن تشابك دلالات لفظ وعى وما تخرج منها من صنع يؤكد على نتيجة واحدة هي (الكم المخزون) إن كان معنويا مثل المحفوظ الذهني أو ماديا مثقلا بالظرف مثل المال المجموع أو جمع السلوك المجتمعي، وبذلك يكون المعنى الأول العقلي هو موضوع الدراسة الذي يتصل بالفكر والمفاهيم، وقد أكد النص العلوي هذه الدلالات بقوله (عليه السلام): “إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها”، وفي قوله (عليه السلام): “ألا إن أسمع سماع ما وعى التذكر وقبله”.
والوعي الإسلامي هو حفظ الأفكار والمفاهيم والقيم وفهمها وترجمتها بحراك حياتي متكامل يرسم منهجا صحيحا للإنسان المسلم، ولكي يكون مستودعا لحفظ هذا المخزون المعرفي ومستوعبا وصائنا له، لابد أن ينتج أثره في حصيلته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية.
فعلماء النفس يعرفون الوعي بأنه (شعور الكائن بما في نفسه، وما يحيط به)، وهذا الشعور هو الإدراك بالموجودات بطبيعة الحال، وتأتي في القرآن الكريم مقاربات معنوية للفظ الوعي لتركيزه في الذهن منها البصيرة، فقد جاء في قوله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) يوسف/108، وفي قوله تعالى (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) طه/96، حيث تخرج دلالة بصيرة في هذا السياق القرآني إلى الإدراك والعلم بالشيء والتبصير يعني الإيضاح.
وهناك عوامل عدة تساهم في تكوين البصيرة التي تشكل الوعي لدى الإنسان ويمكن الاستدلال عليه من النص القرآني ففي قوله تعالى (والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً) النحل/78، تتضح في الآية الكريمة محددات أدوات المعرفة بوصفها عاملا أساسيا في تكوين البصيرة فيخرج السمع والبصر إلى المعرفة الحسية، أما الفؤاد فيخرج إلى المعرفة العقلية، فالبصيرة هو الإدراك العقلي بما لا يمكن رؤيته بالبصر، وهذا المعنى يلتقي مع الدلالة العقلية بالوعي، ثم أن القرآن الكريم رسم لنا منهجا فكريا وعمليا يتمثل بالشريعة الإسلامية التي يشير إليها في قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) الأنعام/6، وفي قوله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف/12، وقوله تعالى (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الأعراف/203.
ثم أن التجارب البشرية التي تعكس حراك الإنسان في الحياة، كل هذه العوامل تؤسس لصناعة وترشيد وتثبيت أركان الوعي، وقد جعل الله سبحانه وتعالى للبصيرة عناصر تنميتها، وهي التقوى والورع والإيمان، ومن ذلك فالبصيرة تلتقي مع الوعي بالمواطن التي ذكرت فضلا عن المصطلح الآخر الذي يقارب في دلالته معنى الوعي وهو (البينة).
ومن تعريف مصطلح الوعي ومرادفاته وأهميته في النص القرآني لابد من الوصول إلى نتيجة مهمة، هي أن الوعي ضرورة ملحة مرتبطة ارتباطا كليا بتحديد هدف الإنسان في الحياة وتشخيص موجهات ذلك الهدف، فسعادته تكون بمقدار تمسكه بالهدف الذي خلق من أجله، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون/115.
وقد تخطأ فطرة الإنسان بإتباع الهدف الصحيح نتيجة عدم قدرته العقلية على التشخيص الصحيح أو نتيجة قلق نفسي نابع من تأزم واقعه المعيشي، مما ساهمت مؤثرات سلبية عدة في إيجاد أزمة وعي تحيده عن مساره، فيقع في شرك الضلال، وهذا يدعونا إلى التفكر في صناعة أزمة الوعي عند أعداء الإسلام، الذين يثبت في وجدانهم وقناعتهم في أن للإسلام جذورا عميقة في وجدان الأمة، فكان لابد لهؤلاء من أن يسعوا جاهدين إلى رسم خطة إستراتيجية تتضح ملامحها في بعض الاتجاهات الفكرية التي تتعارض وفكر الإسلام فتخلق ممارسات سلوكية قد نهى عنها الإسلام في ظل المتغير الفكري في البلاد الإسلامية، حيث أوجدت اضطرابا كليا في العالم الإسلامي، إذ أصابت الأمة بالشلل لانشغالها بنفسها.
فنتج عن ذلك، وعي متأزم أدى إلى خلق مواقف مخطئة ومسالك غير صحيحة حدتهم عن الهدف الذي خطه الإسلام، وقد نتج عنه جمهور مشلول الفكر، ومنهج غير مدروس قد ولد قلقا دائما في الذات الإسلامية لتؤدي إلى فقدانه هويته، ومن المسلمات لغياب الوعي هو القصور في حجم المسؤولية، وأبعادها الاستخفاف بمقدار خطورة أعباء القيادة، فينتج عن هذا القصور والاستخفاف قيادات قاصرة تتولى القيادة، فتشتغل في الاحتراب بينها، وهي في الوقت نفسه تكون بموقف العاجز عن التصدي لخط إستراتيجية التدخلات الخارجية، فهذا تحدي تنأى تلك القيادة بنفسها عنها لقصور في إدراكه وفهمه لواقعه، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات، وهذه الأزمات تدخل في نوع واحد من الوعي، وهو الوعي السياسي الإسلامي، فليس الوعي السياسي للإسلام وعيا للناحية الشكلية في الحياة، بل هو وعي سياسي عميق مرده إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي السياسي الكامل.
وربما تتعدد مواطن التأزم في الوعي، والتي أهمها هي أزمة الوعي الديني المتمثل في إشكالية التعامل مع الحداثة بسبب الانفتاح على المجتمعات الأخرى ومحاولة اللحاق بركبها، فضلا عن إشكالية التعاطي مع مناهج التجديد والإصلاح، وأزمة الخطاب الديني الذي يبدو واضحا في قصور بعض المتصدين الإسلاميين في فهم المقاصد الشرعية مثل العدل والاعتدال ونبذ الفرقة والخلاف والجهاد…الخ، ولاسيما في الخطاب الديني المعاصر ومظاهر التطرف الفكري والانغلاق والتعصب لبعض العلماء والاعتقاد برأيهم الذي لا يحتمل فيه قبول رأي آخر.
وهناك أزمة الوعي الحضاري، وأزمة الوعي بفعل المرأة الفكري والثقافي والاجتماعي.. وغيرها من الأزمات، ومما ذكر تبدو ملامح الهمجية الشرسة من أعداء الإسلام واضحة وخطتها مكشوفة، بيد أن العلاج لذلك هو تحرير الوعي الإسلامي من قيوده، خاصة أنه في حالة إنسانية في العقل والشعور، تستند إلى معطيات معرفية وينبثق عنها موقف عملي وممارسة سياسية، وهو انعكاس للموقف العقائدي الذي يتبناه الإنسان مؤلفا نظرة خاصة إلى الواقع بما يكتنزه من أفكار وأشخاص وأشياء وظواهر وأحداث، وتوليف هذه النظرة الخاصة للواقع تتأتى من إدراك المنهج الحياتي الذي اختطته الشريعة، ويكون ذلك بدءا بوعي الإسلام وعيا صحيحا فأخذه صافيا من منابعه الأصل وهو الكتاب المجيد الذي تكفل الله تعالى بصيانته من التحريف والسنة المطهرة التي تطابق ما جاء في الكتاب الكريم.
وهذا الوعي يتطلب من المسلم أن يعرف مسؤولياته الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية بموجهات النص القرآني، فالوعي بهذه المسؤوليات يقود إلى الغوص في الأعماق فيقي من الوقوع في الخطأ أو التغرير والتضليل، والوعي يحرك الذهن باتجاه الربط بين الأشياء فتتكون النظرة الشمولية التي يراقب بها سلوك الإنسان قولا وفعلا ويشكل الوعي مادة ثرة للوعي الإسلامي الذي يكون منارا للآخرين، وهذا صنع المتخصص بثقافة الوعي الإسلامي العميقة الواضحة في نتاجهم الفكري، مما يثري في المتلقي القدرة على التشخيص الدقيق.
لذا فإن الوعي ضرورة قصوى لواقع متأزم معيشي تتفاقم فيه آفات العجز الفكري وفقدان الرؤية النقدية العلمية، وهذا يدعو المسلم إلى التنبه على هذا الخطر العظيم، فيحركه باتجاه المصالحة مع الذات الإسلامية الواعية قيادة وجمهورا.
رابط المصدر: