إصلاح نظام التقاعد فى فرنسا.. إلى أين؟

د. وفاء صندي

 

تمكنت الحكومة الفرنسية، الإثنين الماضي، من تفادى سيناريو حجب الثقة الذى قدمته المعارضة أمام الجمعية الوطنية (مجلس النواب) فى مذكرتين، عقب استناد الحكومة الى المادة 49.3 من الدستور لتمرير مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد دون عرضه لتصويت الجمعية الوطنية. ورفضت هذه الاخيرة المذكرة الأولى التى تشارك فيها عدة احزاب بفارق تسعة أصوات فقط، فى حين لم تحصد المذكرة الثانية المقدمة من اليمين المتطرف سوى 94 صوتا من أصل 287.ومع هذا الإخفاق فى حجب الثقة، تم اعتماد إصلاح نظام التقاعد بشكل نهائي.

وضع الرئيس الفرنسى إصلاح نظام التقاعد فى صلب الإصلاحات التى يريد إنجازها خلال ولايته الثانية والأخيرة، معتبرا ذلك أمرا حتميا للحفاظ على التوازنات المالية لصندوق الضمان الاجتماعى. واذا كان هذا القانون، فى نظر الحكومة، يأتى كاستجابة للتدهور المالى الذى تشهده صناديق التقاعد، خصوصا فى ظل شيخوخة الهرم السكاني، فهو بالنسبة لمعارضيه اصلاح غير عادل، خاصة بالنسبة للنساء والعاملين فى بعض المهن الشاقة. ويقضى القانون الجديد برفع سن التقاعد القانونى من 62 الى 64 سنة، بمعدل 3 أشهر فى السنة من 1 سبتمبر 2023 حتى 2030، بينما سيتمكن العمال الذين يعانون إعاقة من التقاعد فى سن الـ55، والذين يعانون عجزا فى سن الـ60.

اعتماد قانون إصلاح التقاعد بشكل نهائى لن ينهى الجدل بخصوصه ولن يوقف موجة الاحتجاجات المستمرة منذ 19 يناير؛ بحيث تظاهر ملايين الفرنسيين، خلال الأسابيع الماضية، ثمانى مرات للتعبير عن رفضهم هذا المشروع. مباشرة بعد اعتماد القانون خرج آلاف الفرنسيين للاحتجاج فى مدن عدة. ومع الحديث عن تشكيل تنسيقيات ومجموعات مستقلة، من المتوقع ان تستمر الاحتجاجات فى الفترة المقبلة وربما ستتجاوز عنف وزخم ظاهرة السترات الصفراء قبل نحو 4 أعوام. ففى مخيلة الفرنسيين، المادة 49.3 من الدستور هى مرادف لانتهاك الديمقراطية، واعتماد القانون بهذا الشكل وفى هذه الظروف يفسر وكأنه عدم إصغاء لصوت الشارع، مما سيعطى النقابات زخما جديدا من اجل التعبئة ضد الحكومة.

لم تتأخر النقابات فى الدعوة إلى تجمعات الجمعة وخلال نهاية الأسبوع، إضافة إلى يوم تاسع من الإضرابات والمظاهرات الخميس المقبل، معتبرة قرار اعتماد القرار بالقوة انكارا حقيقيا للديمقراطية، ومحملة مسئولية الأزمة الاجتماعية والسياسية الناجمة عن هذا القرار للسلطة التنفيذية. ومن المرجح ان تلجأ النقابات إلى سلاح شل الحياة الاقتصادية فى البلاد، من قبيل إغراق البلد اكثر بالنفايات والحرائق وإغلاق الطرق، والانتقال من تعطيل شحنات الوقود الى توقيف المصافى السبع الفرنسية بالكامل، كما قد تشهد الأيام المقبلة إضرابات تشل حركة الطيران والموانئ الحيوية، وغيرها من اشكال التصعيد.

من ناحية أخرى، تمرير القانون دون منح المعارضة فرصة لمناقشته فى البرلمان سيجعل العلاقة بين رئيس الدولة والمعارضة أكثر تعقيدا. يرى فرنسيون أن ما تبقى من سنوات ماكرون فى الإليزيه ستكون مليئة بالمشاكل والازمات، خاصة ان هناك توقعات بأن تلجأ الأحزاب اليسارية واليمينية بالجمعية الوطنية على حد السواء، الى اتخاذ مواقف انتقامية ضد الرئيس ماكرون، كما انها ستعمل على أن ينهى ما تبقى من ولايته بصفته رئيسا يحكم ولا يسود.

إصلاح نظام التقاعد والاحتجاجات التى نتجت عنه سيتركان أثرا لا يزول فى ولاية ماكرون الثانية. ربما يكون ماكرون قد خاطر برصيده السياسى وما تبقى من مدة ولايته الثانية من أجل النجاح فيما فشل فيه رؤساء آخرون مثل جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وهو ترك بصمته كرئيس تحدى الرفض الشعبى وتمكن، ولو بالقوة، من تمرير مشروع إصلاحى هو ضروري،فعليا،لحماية المصالح العليا للدولة. لكن يبدو هذا النجاح قاصرا لعدة اعتبارات: أولا، كان من الممكن ان تتحمل الحكومة مسئوليتها بدل فرض الإصلاح بالقوة، وذلك بتهيئة الرأى العام من خلال نقاش سياسى ومجتمعى حول ماهية الإصلاح واهميته وحتميته للخروج من الأزمة الراهنة.

ثانيا، الإصلاح الحالى لن يكون كافيا بالقدر المأمول لضمان استمرارية النظام على المدى الطويل،خاصة انه اكتفت الحكومة فى تحديد سن التقاعد فى 64، فى الوقت الذى جعلت فيه معظم الدول الأوروبية سن التقاعد القانونى بين 65 و67. الإصلاح الحالى يمكن ان يضمن بعض التوازن إلى حدود عام 2030، لكنه لن يكون كافيا للاستغناء عن إصلاحات أخرى فى المستقبل.

نقلا عن جريدة الاهرام

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33380/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M