لا توجد منطقة في العالم تعيش بين حرب وأخرى مثل الشرق الأوسط، وذلك بدفع من فاعلَين أساسيين هما إسرائيل وإيران، بسبب من طبيعة كل منهما، ورؤيتهما لذاتهما، ولمكانتهما في الإقليم والعالم، بحيث باتتا، في العقدين الأخيرين، بمثابة المشكّلتين الرئيستين لخرائط تلك المنطقة، السياسية والبشرية والأمنية، خاصة المشرق العربي.
ما يفترض ملاحظته هنا أن هذين الطرفين يحاولان فرض مكانتهما بواسطة القوة العسكرية، مع فارق أن إسرائيل تشارك في الحرب مباشرة، كدولة وكجيش، في حين تنأى إيران بنفسها عن أية مشاركة مباشرة، إذ تتولى عنها في ذلك الميليشيات التي أنشأتها كأذرع إقليمية لها، حيث “حزب الله” في لبنان، وفصائل “الحشد الشعبي” في العراق، و”أنصار الله” الحوثيين في اليمن (“حماس” ليست ضمن هذا الإطار كونها وليدة الظرف الفلسطيني).
أيضا، تجدر ملاحظة أن إيران هي الأكثر نشاطا وفاعلية في تشكيل المشرق العربي، في العقدين الأخيرين، كأن إسرائيل اكتفت بالهيمنة المباشرة على الجغرافيا بين النهر والبحر، في حين تسعى الأولى لتعزيز هيمنتها إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا، رغم الفارق الكبير في ميزان القوى من الناحية الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين، لصالح إسرائيل.
وقد يفيد التذكير هنا بأن مساحة إيران أكبر من إسرائيل/فلسطين بـ60 مرة، وهي من حيث عدد السكان ثمانية أضعافها، في حين أن الفارق كبير بينهما في المجالين الاقتصادي والعسكري، إذ إن اجمالي الناتج المحلي السنوي لإيران 386 مليار دولار، في مقابل 540 مليار دولار لإسرائيل، وبينما يبلغ نصيب الفرد في إيران 4400 دولار سنويا، فإنه في إسرائيل 55 ألفا، وتبلغ نسبة البطالة في إيران 9.6 في المئة، أما في إسرائيل فهي 3.9 في المئة، وفي حين تصدر إيران بضائع (ضمنها النفط) بقيمة 71 مليار دولار سنويا فإن صادرات إسرائيل بلغت 73 مليار دولار، مع فارق أن إسرائيل تعتبر من الدول المتقدمة تكنولوجياً.
فارق آخر لغير صالح إيران يكمن في عزلتها في محيطها، بما لا يقل عن عزلة إسرائيل، إن لم يكن أكثر، بخاصة مع تحولها إلى فزاعة تهدد جوارها، كدولة تدخلية، تسعى للهيمنة، وتدعم قوى ميليشياوية، في جوارها، وهي عوامل باتت تشتغل لصالح إسرائيل، التي تتميز أيضا بعلاقات وطيدة مع معظم دول العالم، ومنها الصين والهند وروسيا، هذا إضافة إلى تمتعها بضمانة الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، لأمنها وتطورها وتفوقها في كل المجالات.
اللافت أن النظام الإيراني يبرر، ويغطي، سياساته بمحاربة الاستكبار الأميركي، ومقاومة إسرائيل، والانتصار لفلسطين، ودعم فصائل مقاومة، خاصة “الجهاد” و”حماس”
وفي المحصلة، فإن إيران توتر محيطها، حيث انخرطت في حرب اليمن، وفي الصراع الدائر في سوريا والعراق، وفي تعزيز هيمنة “حزب الله” في لبنان، بل إن بعض قادتها باتوا يتفاخرون بأن إيران تهيمن على أربعة عواصم عربية هي بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء.
واللافت أن النظام الإيراني يبرر، ويغطي، سياساته بمحاربة الاستكبار الأميركي، ومقاومة إسرائيل، والانتصار لفلسطين، ودعم فصائل مقاومة، خاصةً “الجهاد” و”حماس”.
أما إسرائيل فقد شنت، في العقدين الماضيين، حروبا عديدة، في لبنان، وضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، إذ شنت ضد لبنان حربين، الأولى 2006، التي أسهمت في تمكين “حزب الله” من الهيمنة على لبنان، والحرب الجارية حاليا (2024)، بهدف إضعاف هذا “الحزب”، أو كسر مكانته في لبنان، في حين شنّت خمس حروب على فلسطينيي غزة (2008، و2012 و2014 و2021) ضمنها حرب الإبادة التي تشنّها، منذ نحو عام.
بيد أن الحديث عن الطرفين الإقليميين الفاعلين لا يقلّل من مكانة أطراف أخرى، سواء في العالم العربي، أو تركيا، وهي دولة قوية ومؤثرة في الإقليم، لأن الأمر هنا يتعلق بالطرفين اللذين ينتهجان الحرب التي تتجاوز بتأثيراتها وتداعياتها السياسية والأمنية حدود الإقليم.
أيضا، فإن اعتبار إسرائيل وإيران الأكثر فاعلية في تشكيل الشرق الأوسط وهندسته، من كل النواحي، لا ينفي حقيقة أن تلك المنطقة ما زالت تخضع لشبكة علاقات الهيمنة الأميركية، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وضمن ذلك تحكمها بعلاقات القوة فيها.
ومثلا، فقد بدا غريبا قيام الولايات المتحدة، التي احتلت العراق (2003)، بتسليمه جملة وتفصيلا لميليشيات تشتغل كأذرع إقليمية للنظام الإيراني، الذي يعتبر نفسه في حرب أبدية معها، والذي يعتبرها “الشيطان الأكبر”، وبعد أن تعمّدت محو كل أثر للدولة العراقية السابقة، أي ليس جيشها وأجهزتها الأمنية فقط، بل وحتى مؤسساتها الخدمية. وفي النتيجة فقد كانت تلك الخطوة بمثابة حجر الزاوية في تغوّل النفوذ الإيراني، الذي تعزّز، بعد العراق، في لبنان عبر ميليشيا “حزب الله”، ثم في سوريا، إذ ما كان يمكن لميليشيات “الحرس الثوري” الإيراني، وأذرعه اللبنانية والعراقية والأفغانية أن تتمدد في هذا البلد، على خلفية الصراع السوري، لولا غضّ النظر، أو اللامبالاة، من قبل الولايات المتحدة.
يبدو أن إيران التي استفادت بدورها من حال الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في سياساتها، أدركت أنها وصلت إلى نهاية الطريق، وأن ثمة قراراً أميركياً بإزاحتها من صدارة المشهد كقوة إقليمية
ولعل زبينغيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، أفضل من فسّر تلك السياسة، التي تبدو متناقضة، في كتابه المتميّز: “بين عصرين”، باعتباره الولايات المتحدة موزّعا للتناقضات، وموزعا للحصص في العالم، كونها تمتلك القدرة على تشغيل أطراف متعارضة معها بالاعتماد على قوتها “الناعمة”، أي تفوقها وهيمنتها في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والمال، ولكونها الدولة الأقوى عسكريا، على الصعيد العالمي. بل إن بريجنسكي كان قد دعا لإقامة نوع من التحالف، ولو بشكل غير مباشر، بين الولايات المتحدة والقوى التي تنافسها أو تتحدى هيمنتها، لخلق نوع من إعادة التنظيم والتموضع للقوة الأميركية، بأعباء أقل.
هذا أكثر شيء يفسّر استثمار الولايات المتحدة (وإسرائيل بالطبع)، في سياسات إيران في المشرق العربي، التي تسببت في تقويض بنى الدولة، لصالح بنى ميليشياوية، باتت بمثابة دولة موازية، في لبنان والعراق (واليمن)، وبتصديع بنى المجتمع، لصالح تقسيمات طائفية، ما أدى إلى خراب بلدان المشرق العربي، ما أفاد إسرائيل لمدى بعيد، إضافة إلى خلق مشكلة تغوّل إيران، التي باتت بمثابة فزاعة، للنظام العربي، وهو ما تستثمر فيه إسرائيل أيضا.
الآن، يبدو أن إيران التي استفادت بدورها من حال الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في سياساتها، أدركت أنها وصلت إلى نهاية الطريق، وأن ثمة قرارا أميركياً بإزاحتها من صدارة المشهد كقوة إقليمية، وهي لا تبدي معاندة لذلك، وإنما تكيّف، كما يظهر من مواقفها.
يستنتج من ذلك أن الوضع في المشرق العربي وفق المعطيات الحالية، بات رهنا بما تفعله أو لا تفعله الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة في غياب محور عربي فاعل، ومع ضعف وتخبط الأطراف المعنيين، في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق.