د. عمار أحمد إسماعيل المكوطر
شهدت الآونة الأخيرة حركة تطبيع أو ما يسمى (بالسلام) بين دولتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين مع الكيان الصهيوني، ولعله سنشهد مزيداً منه لدول عربية أخرى، الخليجية منها خاصة. ولا نريد مناقشة موضوعة التطبيع في هذا المقال بشكل موسع، بيد أننا نسعى لدراسة وتحليل الوضع الإقليمي والدولي الذي تسارع في حركته، وانعكاساته في ظل ظروف معقدة على الصعيدين الإقليمي والمحلي، كما نتناول تداعياته على الساحة العراقية من خلال التوازنات الجديدة المتوقع حصولها في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ولا شك في أن أمن الكيان الصهيوني يٌعد أولوية قصوى في السياسة الأمريكية واستراتيجياتها، بل لعله يوازي أمن الولايات المتحدة نفسها، لما للكيان الصهيوني وجماعات الضغط التابعة له (إيباك) من ثقل كبير وتأثير مباشر في صناعة السياسة والقرار الأمريكي.
وبعد فشل تمرير صفقة القرن كما تم طرحها، دأبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المختنقة بأزمات داخلية وخارجية شتى، ففي بعدها الداخلي، جائحة كوفيد-19 وتأثيرها السلبي على الاقتصاد الذي يعاني انكماشاً حاداً، وترك جيوشاً من الشعب في بطالة وحالة معيشية بائسة، وعجز الدولة الأعظم في العالم عن مواجهته، مما كشف للمواطن الأمريكي وهن إدارته ونظامه في مواجهة فايروس صغير تعجز العين المجردة عن رؤيته، وأخذ يتساءل: ما جدوى الأساطيل والأسلحة النووية وغيرها إن عجزت حكومته عن حمايته صحياً امام هذا الفايروس؟!
أما على الصعيد الخارجي، فليس من منجز حقيقي يعتد به، ليستثمر به في التأثير على الناخب الأمريكي، والذي لا يتأثر كثيراً بالسياسة الخارجية لبلاده، ما خلا عودة الجنود إلى بلادهم وإبعاد شبح الحروب عنهم، لما ذاقوه من ويلاتها.
لقد سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتملص من أزماته الداخلية في لصق التهم بالصين في شأن الجائحة او ما اسماه بالفايروس الصيني، كما عمل على تحقيق منجز خارجي تمثل في دفع بعض الدول العربية الى توقيع معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني معللاً ذلك في انه يحقق امن المنطقة وإسرائيل والولايات المتحدة، وأنه سيسحب في النهاية معظم قواته لتعود إلى الوطن.
لعله ليس فيما قال وجه الحقيقة، وأن ثمة أمور اخرى، هي إعادة تمرير صفقة القرن بحلة جديدة خدمة للكيان الصهيوني وطمعاً في ولاية رئاسية ثانية، كما ان له غايات اخرى، منها تحجيم الدورين الإيراني والتركي على السواء في العراق وسوريا والخليج العربي والبحر المتوسط، وتجميع قوى بلاده لمواجهة الصين وروسيا الاتحادية لاحقاً، فالسياسة الخارجية الأمريكية غالباً ما ترسمها المؤسسات، وليس للرئيس سوى التغيير في التكتيك، اما الإستراتيجية العليا تبقى ثابتة، رغم تأثير الدولة العميقة في صناعة السياسة والقرار الأمريكي.
لقد أدركت الولايات المتحدة الخطر الجدي من تنامي النفوذين التركي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط عموماً والعربي خصوصاً، مع صعود الصين السريع في المسرح العالمي اقتصادياً وما يتبعه عسكرياً وسياسياً ومزاحمتها على النفوذ في قيادة العالم، كذلك محاولات روسيا الجادة في استعادة نفوذ الإتحاد السوفييتي السابق سياسياً وعسكرياً ووصولها الى المياه الدافئة في حوض المتوسط، وهذا نراه في سوريا وليبيا.
وفق هذه المتغيرات وتفاعلاتها، عملت الولايات المتحدة الساعية للانسحاب من الشرق الأوسط لعملية تطبيع واسعة مستغلة الاستياء الشعبي والرسمي العربي من التوسع التركي والإيراني، وابرازه انه الخطر الأول عليها ومصدر تهديدها الأمني وليس الكيان الصهيوني! استجابت بعض الأنظمة بحكم الضرورة والضغط الشديد طمعاً في حماية الولايات المتحدة في بقاءها في سدة الحكم.
الخطر الحقيقي من التطبيع ليس العلاقات السياسية بين الكيان الصهيوني والنظام العربي، فهي قائمة منذ ردح طويل من الزمن، بعضها معلن وآخر بالخفاء، بيد ان العلاقات الرسمية تسمح بمدى أوسع من الاحتكاك الشعبي بين العرب والكيان الصهيوني عبر السياحة والتجارة والاقتصاد مما يجعل منه في قادم الأيام امراً طبيعياً، خاصة للأجيال القادمة، ويترك الشعب الفلسطيني وحيداً بين أنياب الكيان الصهيوني ومخالبه، مما يذهب فيه الحق والكرامة والدم والشرف العربي، الذي اهرقه الصهاينة المحتلون طيلة عقود خلت.
أما في الشأن العراقي، فقد مثل فساد الأحزاب السياسية برمتها وزعاماتها تحت مختلف المسميات وما انعكس عليه من أوضاع أمنية، سياسية، اقتصادية، صحية، ومالية سيئة، حقبة سوداء مظلمة، تعد من اسوء الحقب التي مر بها العراق منذ تأسيسه كدولة في عام 1921 ! جعلت من الشعب يكاد يفقد الثقة بمستقبله بعد أن ضاعت من عمره قرابة العقدين من الزمان، دون أن يرى منجزاً يبني عليه أملاً مشرقاً بغد أفضل، مما دفع الشباب منه خاصة لتظاهرات عديدة كبرى، أهمها تظاهرات تشرين من العام 2019 والتي لازالت قائمة حتى كتابة سطور هذا المقال.
رغم كل الظروف والتحديات التي يمر بها البلد، تم تغيير حكومة عادل عبد المهدي بضغط التظاهرات الذي أفرز حكومة مصطفى الكاظمي الذي لازال يسير بخطى من سبقه إلى حد كبير، إنها خطى عرجاء لا تنقذ صاحبها من خطر جسيم محدق به تتطلب الجرأة والسرعة والقرار الحاسم في تشخيص الخلل وتحديد الأولويات ومواجهة المشكلات والفاسدين بضرس قاطع.
بعد الدعم الغربي متمثلاً بالولايات المتحدة وبعض الدول الغربية كفرنسا، لم يستثمر الكاظمي ذلك واستغلال التناقضات بينها وبين دول الإقليم مثلاً لدعم مادي، اقتصادي، سياسي للعراق، وجاء دعم شبه مطلق له داخلياً من المؤسسة الدينية بعد زيارة ممثلة الامم المتحدة جينين بلاسخارت للمرجع الديني السيد علي السيستاني، فقد جاء ذلك الدعم في بيان مباشر منه، وهو شيء مهم للغاية في تحقيق الإصلاح ومواجهة الفساد والفاسدين واستعادة أموال الشعب منهم وتحقيق سيادة واستقلال العراق.
مالم يستغل الكاظمي وحكومته هذه الظروف الدولية والمحلية الساندة فإنه يعرض وحدة وامن وسلامة البلاد لمخاطر لا تحمد عواقبها، ويتحمل مسؤولية تاريخية لا تغتفر. العراق والمنطقة الآن في مفترق طرق لإعادة توازناتها الاستراتيجية، وسيشهد كلاهما تحولات كبرى، فعلى صناع القرار قراءة الواقع والتفاعلات السياسية المتسارعة في العالم والأخذ بشعوبها لبر الأمان والاستقرار.
ونخلص مما تقدم بتوصيات موجزة:
1. التطبيع مع العدو الصهيوني جريمة كبرى وخطيئة لا تغتفر، يجب التراجع عنها، كما أن الولايات المتحدة ليس بالشريك النزيه الموثوق به.
2. على الدول العربية التضامن الحقيقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وامنياً، والعمل على مشروع يماثل مشروع الاتحاد الأوروبي، فمقومات ذلك قائمة بأوسع واشمل مما عليه في أوروبا.
3. النأي بالنفس عن سياسة الأحلاف والمحاور، وبناء علاقات متوازنة مع دول الجوار والدول الفاعلة عالمياً ما خلا الكيان الصهيوني، بما يحقق المصالح العليا للبلدان العربية.
4. على كل من إيران وتركيا اعادة سياساتها إزاء الدول العربية، وقد تشهد كل منها حركة احتجاجات واسعة، أو اكثر منها خطورة تهدد أمنها، ولربما نظامها السياسي لاحقاً، اذا ما استمرت بهذه السياسات، التي استغلتها الولايات المتحدة في تسريع التطبيع بين الكيان الصهيوني وبعض الأنظمة العربية من خلال توسيع دائرة الخوف والهلع منهما.
4. الوضع العراقي بحاجة إلى اصلاح سريع وإنتاج قوى سياسية وطنية نزيهة وفاعلة بعيدة عن كل ما هو قائم منذ العام 2003، وإعادة إنتاج عقد اجتماعي جديد يلبي طموحات الشعب ويحقق وحدته ومصالحه.
رابط المصدر: