الصراع كما يؤكد المختصون نزعة تشترك في الطابع التكويني لبني البشر، أي أنها موجودة في أعماق الإنسان، لهذا خصص العلماء جهودا استثنائية لدراسة هذه الظاهرة في السلوك البشري، وكثير منهم أكد على أن الصراع يمتلك وجهين أو مسارين، أحدهما سلبي يثبط الإنسان ويحبطه ويؤذيه، والآخر إيجابي يسموا بالإنسان إلى مراتب التقدم باستمرار.
ولم يستطع الإنسان أن يتخلص من الجانب السلبي للصراع، حيث هناك من يميل إلى هذا النوع، فيلحق من خلاله الأذى بالآخرين، ومنه هنا حرمت الأديان والأخلاقيات والأعراف الاجتماعية وحتى المواثيق الدولية الجانب العنيف من الصراع، وهناك دعوات مستمرة لاحتواء الصراع، وتقريبه نحو حالة التنافس التي تمثل الجانب الإيجابي من الصراع.
علما أن الصراع بدأ منذ أن هبط الإنسان على الأرض، واستمر هذا الصراع طالما كان هناك مجتمع بشري، بسبب تضارب المصالح، وتفضيل الأنا، وانتعاش حالة الطموح، وعدم القدرة للسيطرة على نوازع الإنسان، فيصبح كائنا شريرا تتطاير سلوكياته العنيفة شمالا ويمينا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الفصل الثالث):
(إن ظاهرة العنف والإرهاب محرمة شرعاً، ومن مصاديقه القتل والغدر والاختطاف والتفجير والتخريب وما أشبه. وقد ابتدأت مسيرة الصراع بين البشرية في مختلف الميادين منذ أن هبط آدم (ع) إلى الأرض ووُجد الإنسان عليها، قال سبحانه: اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ).
وهكذا يظهر الوجهان الأكثر وضوحا للصراع من خلال التصادمات والنزاعات والأزمات المختلفة، سواء كانت فردية أو جماعية، وأخطر هذه النزاعات هي الجمعية التي تحدث بين جماعات كبيرة نسبيا وبين الدول التي تتصارع على مصالح مختلفة، قد تكون سياسية أو جغرافية أو سواها.
لماذا التشجيع على سياسة سحق الآخرين؟
على مستوى النوع الأول من الصراع، وهو الصراع الفردي، هناك أفراد لا يهمهم الآخرين مطلقا، ولا تهمهم مصالح الناس ولا حقوقهم ولا حرياتهم، وهؤلاء هم أخطر من يتبنى سياسة الصراع السلبي ويتمسك بها ويشجع عليها، فيسحق الآخرين بكل الوسائل المتاحة له من أجل أن يحصل على ما يريده من مكاسب سواء كانت مادية أو سياسية أو تتعلق بالنفوذ والسلطة، وهذا هو الوجه السلبي من الصراع.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان لهذا الصراع وجهان سلبي وإيجابي، فأما الأول: فله مظاهر كثيرة منها صراع من أجل السيطرة الفردية على الحياة ومميزاتها وسحق الآخرين وحقوقهم، فالبعض يريد لنفسه جلب أكثر قدر من النفع ودفع أكثر قدر من الضرر، وآخر سعى للتحكم على ما ينفعه وما ينفع غيره، وثالث أخذ يلحق الأضرار بالآخرين).
أما الوجه الإيجابي للصراع، فهو يتجسّد في حالات التحفيز التي تصبح بمثابة المحرك القوي نحو التقدم، فتدفع بالإنسان إلى أمام كما يحدث اليوم بين الدول المتقدمة والمجتمعات التي تتنافس مع بعضها لتحقق السبق في القضايا الصناعية المختلفة، وهذا ما ساعد البشرية على أن تحقق قفزات تقدمية هائلة وسريعة.
ولو لا وجود هذا النوع من الصراع لما تمكنت البشرية من أن تعيش عصر الازدهار المادي الذي ينتشر في عموم الكرة الأرضية، ولكن هذا الأمر وهذا التقدم السريع، يجب أن لا ينسينا الجوانب السلبية التي رافقت هذا التقدم المادي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتراجع المعنوي والأخلاقي والحقوقي لعالم اليوم، وهذا ما تسبب في حرمان البشرية من التقدم المعنوي الذي يجب أن يصطف إلى جانب الازدهار المادي لكي يقومه ويصحح مساراته المختلفة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على أن:
(الوجه الإيجابي للصراع البشري في هذه المسيرة يكمن في التنافس الذي يؤدي إلى تقدم الحياة، فعلى سبيل المثال الصراع في الجانب المعنوي، فلو لم يوجد بين الإنسان والشيطان، لم يتمكن الإنسان من التقدم إلى الدرجات الرفيعة في الدنيا ولا في الآخرة، ولم يمكنه الاختبار ليخرج فائزا، وينال درجة تسمو درجات الملائكة).
وهكذا كان الصراع والتنافس سببا أساسيا في تطور الناس، والدول، والمجتمعات، والانطلاق في مسيرة التقدم البشري الذي ما كان لها أن تستمر، لو لا وجود الصراع والتنافس بين الأمم وبين جميع الدول التي كانت ولا زالت تحركها حالة الصراع والتنافس مع الآخرين.
عدم الخروج من دائرة الطموح المشروع
علما أن هذا الصراع لم يعد محصورا في ثروات الأرض اليابسة والبحار، بل تعدى ذلك إلى الفضاء، فصارت الدول تتبارى في هذا المجال فيما بينها، وأدخلت تكنولوجيا الحروب بكل أنواعها، فضلا عن المحاولات العظيمة لاكتشاف اسرار الكون الغامضة والعصية على العقل البشري حتى هذه اللحظة، ومع ذلك يطمح الإنسان بمعرفة خفايا الفضاء كلها.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي حيث يقول:
(كذلك لولا الصراع والتنافس بين دول العالم في الجانب المادي لما حصل هذا التطور الذي تنعم فيه البشرية في المجالات المختلفة. إذ به تمكن الإنسان من الاكتشافات الغريبة، ولم يقتصر في طموحه على اكتشاف أسرار الأرض من بحارها وجبالها وأنهارها وأعماقها، بل شجعه البحث إلى اكتشافات جديدة في الكواكب الأخرى، حتى وصل إلى المريخ بل يريد اليوم الوصول إلى سائر المجرات).
ومن المفارقات المذهلة حقا، اكتشاف فائدة الصراع للحيوانات أيضا، فمع أن عالم الغاب يتبع معادلات الفريسة والمفترس، والقوي يتغلب على الأضعف ويقضي عليه، إلا أن هذا النوع من الصراع رغم كونه ذا طابع سلبي إلا أن بعض الدراسات العلمية أظهرت بعض فوائد التي انعكست على الحيوانات.
حيث يشير إلى ذلك الإمام الشيرازي حين يقول:
(لقد أكدت بعض الدراسات الحديثة على أن هذا الصراع هو الذي يوجب نمو هذه الحيوانات وكمالها، وقد قام فريق من العلماء ببعض التجارب في هذا المجال وذلك حينما أخلوا جزيرة من الحيوانات المفترسة المؤذية وملأوها بالوعول والغزلان وما أشبه ذلك، وبعد مدة رأوا ظهور الترهل على هذه الحيوانات وسقوطها عن الكمال والجمال).
وأخير لابد من الإقرار بأن السبب الأقوى الذي يقف وراء الصراع والتنافس هو طموح الإنسان المستمر، وهو أمر جيد وحالة تنمّ عن الخير والنجاح، ولكن يجب أن تتم في إطار القواعد الجيدة والمقبولة والتي تسعف البشرية على تحقيق الطموحات المشروعة وليس العكس، حيث توجد طموحات لا أخلاقية مرفوضة.
لذا لابد أن يكون الطموح في الإطار المنضبط، أو غير المؤذي، وهذا يتحقق في حال تمت مراعاة قواعد الحقوق والتعاملات الإنسانية المنضبطة التي تراعي الآخرين، وتحفظ حقوقهم، وهذا ما يحتاج له عالمنا اليوم حيث تشتعل الكرة الأرضية بنزاعات وحروب وأزمات كلها بسبب الطموحات غير المنضبطة وعدم الانصياع للقواعد الإنسانية الصحيحة.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن منشأ الصراع والتنافس بين البشرية في الوجه الأخير هو الطموح وهو حسن في نفسه إذا استعمل في موضعه، وربما يعبر عنه بالطمع، قال سبحانه وتعالى: وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ).
وهكذا تتضح لنا بأن إفرازات الصراع البشرية تتوزع على أنواع وأشكال مختلفة، منها السلبي المؤذية، ومنها المفيد الجيد، لهذا لابد من وضع الضوابط والقواعد العالمية التي تحكم النزاعات والصراعات بما يؤمن العدالة العالمية للحقوق البشرية بعيدا عن أساليب القوة والفرض والتسلط وعدم الخضوع لعدالة المكيال الواحد.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/imamshirazi/37873