وضعت عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) العالم كله تحت اختبار أخلاقي وقيمي لا مثيل له في التاريخ المعاصر، ومن ثم فإن على إفريقيا أن تتحمل دورها أمام ذلك التاريخ. ذلك الاختبار القيمي والأخلاقي يتمثل في المفاضلة ما بين القوة والقيم، ما بين الأخلاق والقانون، وبالرغم من أن كثيرًا من دول العالم الأول ومؤسساتها الرسمية قد فشلت في ذلك الاختبار، إلا أن إفريقيا جنوب الصحراء لا يجب عليها أن تفشل، وذلك لعدة اعتبارات أخلاقية وقيمية، بالإضافة إلى حتمية التعاضد والتساند الإفريقي مع المظالم حول العالم، فمن أكثر من الأفارقة قد عانوا من مظالم العالم الأول الاستعماري؟
لقد جاء رد دولة الاحتلال على العملية العسكرية لحركة حماس في السابع من أكتوبر برد غير متناسب؛ سواء في استهداف المدنيين أو بحجم القوة النيرانية، أو على مستوى استهداف البنية التحتية والمؤسسات المحمية بقوة القانون الدولي مثل المستشفيات وملاجئ المدنيين وقوافل النازحين. في السابق كانت إفريقيا وساكنيها معزولون عن تلك المذابح حتى التي كانت ترتكب بين جنباتها، ولكن اليوم فإن قوة الصورة قد اخترقت كل الحجب، ووصلت إلى كل فرد تقريبًا حول العالم، ومن ثم فإن الاختبار بات حتميًا ولا يمكن تجاهله، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات.
ولكن لماذا على إفريقيا مسئولية أخلاقية أكبر من غيرها؟ لأن المقموع يستطيع أن يشعر بسهولة بالمضطهدين، ومن المؤكد أن مشاهد الدماء والأشلاء تستدعي لدى الذاكرة الإفريقية حجم المذابح التي تعرض لها الأفارقة في طول التاريخ الاستعماري الدامي للعالم الأول، فقط من أجل إخلاء مناطق النفوذ أو السيطرة على مناجم الذهب أو الألماس، أو حتى للتطهير العرقي وإعادة ترتيب الجغرافيا من أجل تحقيق مصالح المستعمر، وكثيرًا ما غض الغرب الطرف عن الانقلابات العسكرية وجرائم المستبدين طالما تصب في صالحهم وصالح شركاتهم العابرة للحدود، ومن ثم ظلت إفريقيا السمراء في طوال التاريخ المعاصر عرضة للتنكيل من أجل نهب ثرواتهم واستغلال جغرافيتهم الممتدة على جانبي العالم القديم في آسيا وأوروبا.
ولطالما شهد الأفارقة الازدواجية في تطبيق القانون الدولي، بل لمسوها حتى وصلت إلى عقر دارهم وأثرت على حياتهم اليومية، كما كانت ممارسات الفصل العنصري واحدة من الأيقونات الدامية للإمبراطورية البريطانية قائدة العالم الغربي لقرون، والتي ورثتها أمريكا التي كانت تمنع دخول السود لمطاعمها حتى وقت قريب، كما أن الاستعباد والاختطاف هو قرين ما يُمارس من تطهير عرقي ضد سكان فلسطين اليوم، كما عملت عجلة الحضارة الغربية على محو وتدمير مختلف الثقافات الإفريقية في طريقها لتشجيع التنصير في أدغال إفريقيا ومقايضة معتقداتهم المحلية بحفنة من الدولارات.
كما أن العقاب الجماعي هو اختراع غربي، ومورس ضد كل من أراد أن يرفع رأسه ضد الاحتلال الغربي للأراضي الإفريقية، حيث يجيء الرد بذات الطريقة القمعية الوحشية غير المتناسبة والتي تمارسها دولة الاحتلال الصهيوني اليوم ضد الفلسطينيين، في حين أن استغلال ثروات الأفارقة لا يبعد كثيرًا عن محاولة سرقة غاز شرق المتوسط الذي يمتلكه الفلسطينيون وهم السكان الأصليون، فيما تساند كبريات شركات الغرب على استخراج ذلك الغاز وقسمة عوائده مع الاحتلال الصهيوني، ويعمل ذلك التخادم الصهيوني الغربي على قمع وسحق كل من يقف في وجهه، فلسطينيون كانوا أم أفارقة، وسرقة ثرواتهم، غازًا كان أم ألماسًا أو ذهبًا.
ومن هنا تأتي المسئولية الأخلاقية على الأفارقة.
فاليوم هناك 44 دولة من أصل 54 دولة إفريقية تعترف بالكيان الصهيوني، وهناك 30 دولة تقيم علاقات دبلوماسية معهم، بالرغم من أن المزاج العام الإفريقي يبدو معارضًا للصهيونية، كما وضح في عملية التصويت على رفض قبول إسرائيل كمراقب في الاتحاد الإفريقي، بقيادة الجزائر وجنوب إفريقيا، إلا أن القبول العربي بعقد صفقات سلام وصلح وتبادل للسفراء أدى إلى تخفيف حدة العداء الإفريقي، ولكن ذلك السلام العربي لا يجب أن يبرر للأفارقة السكوت على الظلم والقمع والتطهير العرقي والإخلاء القسري، ومن هنا كذلك تأتي أهمية إفريقيا باعتبارها كتلة تصويتية معتبرة في المحافل الدولية ويجب عليها أن تتحمل مسئوليتها الأخلاقية.
وقد عملت بعض الدول الأفريقية على دعم حق الفلسطينيين بصورة رسمية في بياناتها أو تصريحات وزراء خارجيتها، لاسيما تلك الدول العضوة بمجلس الأمن، مثل الجابون التي أدانت العنف بكل صوره، والبعض الآخر صوت ضد إدانة حركة حماس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك الدعوة إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، ولكن يظل الضغط الشعبي هو الأهم عبر القارة السمراء، وكذلك تصريحات الناشطين وتعاطفهم مع القضية الفلسطينية باعتبار أنها اليوم باتت قضية كل الشرفاء حول العالم، تلك القضية التي لم تحل بالسلام بسبب الطبيعة الخاصة بالدولة الصهيونية، والتي تعتمد في مجملها على ازدراء الآخر واستحلال قتله، كان أولئك مسلمون أو مسيحيون.
إن الرد الإسرائيلي غير المتناسب على عملية طوفان الأقصى أثبت أن الكيان الصهيوني لا يعير اعتبارًا للإنسانية فضلا عن كل ما يتعلق بالقانون أو منظومة العدل، ومن ثم فإن إفريقيا على مستوى الأفراد والشعوب عليها مسئولية أخلاقية برفض ذلك الظلم والمعاونة مع الدول الأخرى من الجنوب العالمي، مثل دول أمريكا اللاتينية، في تصعيد الضغط على الكيان الصهيوني، والضغط على العرب من أجل التراجع عن السلام كخيار استراتيجي، باعتبار أن إسرائيل دولة لا يمكن التعايش معها بحال من الأحوال.
لقد دفعت قوة الصورة الكثيرين حول العالم إلى قول كلمة الحق والوقوف ضد الظلم، وباتت إسرائيل وداعميها في موقف المدافع، بل أجبرت آلة الدعاية الإسرائيلية على تلفيق أدلة من أجل غسل أياديها من الدماء، إلا أن عصر الإعلام الجديد كشف زيف تلك الدعاية وفضح كذبها وافتراءاتها، وانقلب السحر على الساحر ورُد كيدهم في نحورهم ووجهت تلك الدعاية بعاصفة من فضح الأكاذيب وتعرية أقنعتهم أمام العالم، ومن ثم فإن المواطن الإفريقي بات هو كذلك في قلب الصراع القيمي والأخلاقي، وبات الاختبار هو هل يقف الأفارقة اليوم على الجانب الصحيح من التاريخ أم لا.
إن العصر القادم هو عصر الشعوب، حيث تقارب المكان والزمان، وما يحدث في فلسطين رأينا أصداؤه سريعًا في لندن وواشنطن على مستوى التظاهرات والاستياء الشعبي، كما بات الإعلام الجديد هو صانع الخبر وكاشف المعلومة وهو الذي بات يقود اتجاهات الرأي العام، كما بات ذلك الإعلام هو فاضح الزيف والدعاية والوجه القبيح للاستبداد وسرقة مقدرات الشعوب، وباتت كاميرا Go Pro الفلسطينية المحمولة على جباه المقاومة هي الذعر الأكبر للكيان الصهيوني، وبات توثيق المجازر وفضح قتلة الأطفال هو الهاجس الأكبر للكيان الصهيوني، والذي حرص في بداية الحرب على قطع كل وسائل الاتصال والكهرباء لكي يخفي جريمته، إلا أن ذلك لم يعد ممكنًا في عصر الشعوب وعصر الصورة وعصر الإعلام الجديد.
ربما تكون الخطوة القادمة هي نسج التشبيك بين مواطني العالم من أجل الوقوف أمام السياسيين الفاسدين أصحاب المصالح والذين يشاركون في سفك الدماء من أجل أموالهم أو بقائهم في مناصبهم، وذلك التشبيك بين مواطني العالم يجب أن تكون القارة الإفريقية في القلب منه، إلى جوار كل ما يسمى بالجنوب العالمي Global South والذي يتداعى بعضه من أجل البعض الآخر، فقد أثبتت عملية طوفان الأقصى بأنها قادرة على إيقاظ الضمير العالمي، وأن تتحدى آلة الحرب اللاأخلاقية في إسرائيل والتي تغذيها القوى الكبرى بالذخيرة والمنصات الإعلامية، وكان نجوم ذلك الصراع هو من يسمون بـ “المؤثرين” أو Influencers والذين تكالبت عليها قنوات الإعلام الجديد حيث صعدت مشاهداتها إلى الملايين، أولئك الملايين هم أولئك المقهورون وأصحاب الأصوات المقموعة حول العالم، وقد وجدوا في تلك المنصات فرصة للتعبير عن مشاعرهم الإنسانية برفض الظلم وقتل الأطفال وتهجير الآمنين من أجل المصالح السياسية والاقتصادية.
إن المستقبل للشعوب، وللقيم الإنسانية والأخلاقية، ويجب على سكان الجنوب العالمي، وفي القلب منهم إفريقيا، أن يتحملوا مسئولياتهم الأخلاقية أمام التاريخ.
المصدر : https://qiraatafrican.com/16032/?fbclid=IwAR3_qCNvDxdV7rxZliEzelFDgRUvCxKl0u_a7f4aSCwehDDT_anSlr6vw24