أحمد دياب
في 8 سبتمبر 2022، بدأت القوات الهندية والصينية في إجراءات “فك الارتباط” على طول خط السيطرة الفعلية Line of Actual Control (LAC) للحدود بين البلدين، لاسيما في منطقة لاداخ وجوجرا، عقب انتهاء الجولة السادسة عشر من المفاوضات بين وفدي البلدين في 17 يوليو 2022، الأمر الذي يُشير إلى إمكانية حدوث تهدئة في العلاقات الهندية-الصينية، خلال الفترة المقبلة.
وعلى الرغم من أن الهند أكَّدت أن “فك الارتباط” الكامل فقط هو الذي يُمكِن أن يؤدي إلى وقف تصعيد الأعمال العدائية مع جارتها الصين، إلا أنها أشادت بالانسحابات الصينية المحدودة باعتبارها تنازلات كبيرة انتزعتها من بيجين. إذ تنازلت نيودلهي عن بعض أراضيها للصين من خلال الموافقة على الانسحاب من مناطق داخل حدودها، وعلى إنشاء “مناطق عازلة” داخل أراضيها. وفي حين أن الصين لم تستجب لدعوة الهند لاستعادة جميع الأراضي التي استولت عليها، فإن قرار بيجين بـ”فك الارتباط” يمثِّل اعترافاً لا لبْس فيه بأن مزاعمها تفتقر إلى المصداقية.
حسابات وحوافز التهدئة بين بيجين ونيودلهي
مع أن المناوشات الحدودية بين الصين والهند تحولت إلى حدثٍ متكررٍ كَبَحَ إمكانية إقامة علاقات وثيقة وطبيعية بين الجانبين على مدى عقود وسنوات، لكن ثمة مستجدات وحوافز تضافرت خلال الشهور القليلة الماضية، قد تكون بداية لـ”تحسُّن مطرد” أو “تهدئة محتملة” في العلاقات بينهما على المدى القريب، من بين أهمها:
1. توافُق رؤية الصين والهند بشأن القضايا العالمية: تشترك نيودلهي في بعض جوانب النظرة الجيو-سياسية العالمية للصين، حيث تفضل نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب في المستقبل أقل سيطرة من قبل الولايات المتحدة، ويعكِس مكانة الهند الصاعدة بشكل أكثر إنصافاً في المؤسسات الدولية. وقد ألمحت الصين بعد زيارة وزير خارجيتها وانغ يي إلى نيودلهي في 25 مارس 2022 إلى تفهُّمها مخاوف الهند، مُشيرةً إلى أن “الصين لا تسعى وراء ما يسمى بـ”آسيا أحادية القطب “، وتحترم دور الهند التقليدي في المنطقة”.
وذهبت بيجين إلى حدِّ الإشارة إلى أن ما دعتهُ “سلوك البلطجة” لواشنطن قد جعل الهند والصين أقرب من خلال إحداث التغيير المطلوب لـ “إعادة الدفء في العلاقات بين البلدين”. في حين ذكر وزير الشؤون الخارجية الهندي س. جايشانكار، في 30 أغسطس 2022، أن الكثير من مستقبل آسيا يعتمد على كيفية تطور العلاقات بين البلدين في المستقبل المنظور.
2. رغبة الصين في توسيع فجوة الخلاف الأمريكي-الهندي: منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في 24 فبراير 2022، أُتيحَت للصين فرصة للتواصل مع الهند وسط فجوة متنامية بين واشنطن ونيودلهي، حيث امتنعت كلٌّ مِنْ الهند والصين عن إدانة روسيا مباشرةً بشأن غزو أوكرانيا في غمرة موجة من الإدانات والعقوبات الغربية ضد روسيا، إذ جمعت الدولتان بين الانزعاج الهادئ من الغزو الروسي لأوكرانيا مع الشكوك المستمرة والمتنامية تجاه الغرب. وفي اجتماعات التحالف الرباعي (كواد)، خرقت الهند مراراً وتكراراً خطَّها مع اليابان وأستراليا والولايات المتحدة ومنعت التحالف من إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. ومن دون الهند لا توجد “استراتيجية إندو-باسيفيكية” ضد الصين. وتشعر هذه الأخيرة بالرضا لأن الهند تعتز باستقلالها الاستراتيجي.
من الممكن تصوُّر بعض التحسُّن المحدود في العلاقات الصينية-الهندية بعد البدء في تنفيذ اتفاق “فك الارتباط” بين قوات الدولتين على طول خط السيطرة الفعلية للحدود بينهما، ولكن لا تزال هناك حواجز كبيرة أمام تطبيع علاقاتهما على نطاق أوسع
ورغم كل الحديث عن الصين باعتبارها تهديداً مشتركاً، لا يبدو أن الهند تهتم بمعظم ما يُهمُّ الولايات المتحدة حتى الآن، ولم تُبْدِ أي موقف قوي مؤيد لواشنطن بشأن قضية تايوان أو إقليم شينجيانغ. وأصبحت الهند سريعاً حليفاً غير محتمل لكلٍّ من الصين وروسيا، أكثر من أي وقت مضى، لاسيما بعد عضوية الهند في منظمة “شنغهاي” إلى جانب عضويتها في منظمة “بريكس”. وبالنسبة للهند، فإن الهدوء على الحدود مع الصين يظل الهدف الأساسي، وربما الوحيد. إذ تشك نيودلهي في أن الولايات المتحدة ستكون على استعداد لمساعدة الهند في هذه القضية دون الحصول على التزامات في مكان آخر، سواءً في آسيا أو أوروبا.
3. رغبة الدولتين في تقوية روابطهما الاقتصادية: تشعر كلٌّ من الهند والصين بالأهمية الكبيرة لمتابعة مسارات كلٍّ منهما للنمو الاقتصادي والتنمية على النحو الأمثل في مناخ صعب وغير مواتٍ على الصعيد الدولي. وأدت العلاقة الاقتصادية المتنامية دوراً كبيرا في كبْح تردِّي العلاقات بين الدولتين إلى مواجهات عدائية واسعة. فعلى سبيل المثال، تعد الصين أكبر شريك تجاري للهند، وارتفع عجز الهند التجاري مع الصين من 56.8 مليار دولار عام 2019 إلى 69.4 مليار دولار عام 2021، حتى مع وصول التجارة الثنائية إلى مستوى قياسي بلغ 125 مليار دولار عام 2021. وتسعى الدولتان لتقوية الروابط الاقتصادية والتجارية بينهما لتفادي تداعيات جائحة كورونا والأزمة الأوكرانية، لاسيما بشأن إمكانية فرض عقوبات غربية عليهما، ومواجهة ارتفاع أسعار الطاقة.
عوائق وصعوبات التهدئة بين الدولتين
كثيراً ما كان لدى العملاقين الآسيويين علاقات معقدة منذ الحرب التي نشبت بينهما عام 1962. وقد اتخذ كلاهما على مرِّ التاريخ خطوات للحد من التوترات بينهما، كان آخرها الاجتماع بين الزعيمين شي جينبينغ وناريندرا مودي في مدينة ووهان الصينية في عام 2018 بعد التوترات الحدودية السابقة.
لكن لا تزال هناك عدة عوائق رئيسة أمام التطبيع الكبير بين القوتين الآسيويتين، من بينها:
1. تعقيدات المشكلات الحدودية بين الدولتين: عندما وقعت الهند والصين اتفاقية السلام والهدوء على الحدود في عام 1993، اتفقتا على الحفاظ على الوضع الراهن القائم على الحدود على طول خط السيطرة الفعلية (LAC). وهناك اختلافات كبيرة بين تصورات البلدين حول تحديد مكان خط السيطرة الفعلية حقاً، خاصة في القطاع الغربي حيث يمر عبر لاداخ. ولم تعترف الدولتان بخطوط انتشار الجيشين الهندي والصيني ولم تُجمِّدهما. وقد أسهمَ الغموض الناتج عن ذلك في تعزيز مطرد للقوات على جانبي الحدود، وسمح لجيش التحرير الشعبي الصيني على وجه الخصوص بالتقدُّم خلسة.
وعلى الرغم من آليات واتفاقيات بناء الثقة مثل اتفاقية التعاون الدفاعي الحدودي (BDCA) عام 2013، أصبحت المواجهات الحدودية بين الدولتين ليست فقط أكثر تكراراً وأوسع نطاقاً، ولكن أيضاً أطول أمداً وأصعب حلاً، لاسيما الاشتباكات المسلحة المتكررة في منطقة لاداخ، إذ يعتمد تفسير كل دولة لاتفاقية خط السيطرة الفعلي على مساحة الأراضي التي تعتقد أنه يمكن السيطرة عليها عسكرياً أو السيطرة عليها من خلال الدوريات. وهذا يعني أنه يمكن لأيٍّ من الجانبين تغيير تفسيره لاتفاقية خط السيطرة الفعلي ببساطة عبر تحسين موقعه العسكري على طول الحدود. وتُسهِم الطبيعة الغامضة لخط السيطرة الفعلي نفسها في زيادة التوترات الحدودية.
رغبة الهند في الحفاظ على العلاقات مع كلٍّ من واشنطن وموسكو تهدف جزئياً على الأقل إلى التحقق من طموح الصين الإقليمي وسلوكها “العدواني” تجاهها. وحتى لو كانت الهند تتنقل بين تحالفها مع الولايات المتحدة وروسيا، فإن ذلك لا يُترجَم بأيِّ حال إلى رغبة في التوافق الكامل مع بيجين أو الاعتماد عليها
2. غياب عنصر الثقة بين الدولتين: يمكن إرجاع غياب الثقة بين البلدين إلى الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أصبحت مخاوف الهند بشأن طموحات الصين الإقليمية واضحة. واستمر انعدام الثقة الدائم هذا في التأثير على العلاقات الثنائية، حتى بعد أن أمضى البلدان عقوداً في محاولة حل النزاع الحدودي بينهما من خلال التسويات السياسية وإجراءات بناء الثقة. والآن، تبدو المؤسسة السياسية في نيودلهي موحَّدة إلى حد كبير في رؤيتها للصين باعتبارها أهم تحدٍّ أمني للهند. وفي نظر صانعي السياسات الهنود اليوم، تُشكِّل هيمنة بيجين الاستراتيجية المتعاظمة في آسيا، وفي ما هو أبعد من آسيا، قوة غير محدودة قد تؤثر على صعود دولتهم.
وهناك شعور بالخطر في نيودلهي، حيث يستعد شي جينبينغ لتأمين فترة ولاية ثالثة مدتها خمس سنوات كرئيس للصين. ومن المتوقع أن يتم تأكيد تعيين شي في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، الذي يبدأ في بيجين في 16 أكتوبر 2022. وفي عهد شي، تحدَّت الصين بصرامة لا هوادة فيها، سيادة الهند من خلال التعدِّي على مياهها الإقليمية وإعادة رسم خط السيطرة الفعلية (حدود الهيمالايا التي يبلغ طولها 3488 كيلومتراً) والتي تفصل بين الجارين المسلحين نووياً.
3. العاملان الأمريكي والباكستاني: يمكن القول إن التطور الذي بدأت تشهده العلاقات بين الهند والولايات المتحدة في سياق سعي الأخيرة إلى محاصرة الصين في محيطها الجيو-سياسي، يمثل هاجساً كبيراً للصين، حيث تواصل الهند تعميق شراكاتها المختلفة مع التحالف الرباعي(كواد) الذي يضم إلى جانبها الولايات المتحدة، واليابان، وأستراليا. وتخشى بيجين خصوصاً مِن قطع طرقها التجارية في حال نشوب صراع مع واشنطن، إذ قد تضطلع الهند بدور محوري في ذلك نظراً إلى موقعها الاستراتيجي في المحيط الهندي بين الصين ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط، والموارد الأفريقية، والأسواق الأوروبية.
ومن ناحية ثانية، فإن الصراع التقليدي بين الهند وباكستان يمثل عاملاً آخر من العوامل التي يمكنها أن تُسهِم في عرقلة التحسُّن في علاقات نيودلهي وبيجين، إذ تعتبر شراكة الصين الطويلة الأمد مع باكستان تحدياً كبيراً للهند، حيث تنظر نيودلهي بكثيرٍ من القلق إلى هذا التحالف بين جاريها اللدودين، لاسيما بعد أن أعلنت كل من بيجين وإسلام آباد عن رغبتهما المشتركة في تكثيف تعاونهما في أفغانستان.
التوقعات والاستنتاجات
من الممكن تصوُّر بعض التحسُّن المحدود في العلاقات الصينية-الهندية بعد البدء في تنفيذ اتفاق “فك الارتباط” بين قوات الدولتين على طول خط السيطرة الفعلية للحدود بينهما، ولكن لا تزال هناك حواجز كبيرة أمام تطبيع علاقاتهما على نطاق أوسع. وبالتالي، فإن التحسُّن التدريجي في العلاقات بين الصين والهند مُمكِنٌ خلال الأشهر المقبلة؛ مع الأخذ في الاعتبار أن حسابات الهند لمصالحها الأمنية الخاصة تُشير إلى أن احتمالات حدوث تقارُب أوسع مع جارتها الصين لا تزال ضئيلة، في حين أن احتمالات إعادة الاصطفاف الحضاري الأوسع المعادية للغرب، كما روَّجت لها بيجين وموسكو، تبدو بعيدة.
وحتى لو عانت العلاقات الهندية-الأمريكية من نكسة مؤقتة بسبب رفض نيودلهي إدانة روسيا، فلن يؤدي ذلك إلى إزالة أو تخفيف مكانة الصين باعتبارها أكبر تهديد للأمن القومي للهند. علاوة على ذلك، فإن رغبة الهند في الحفاظ على العلاقات مع كلٍّ من واشنطن وموسكو تهدف جزئياً على الأقل إلى التحقق من طموح الصين الإقليمي وسلوكها “العدواني”. وحتى لو كانت الهند تتنقل بين تحالفها مع الولايات المتحدة وروسيا، فإن ذلك لا يُترجَم بأيِّ حال إلى رغبة في التوافق الكامل مع الصين أو الاعتماد عليها.
.
رابط المصدر: