د. أحمد سلطان
الذهب الأسود يتألق، عنوان يختصر الحديث عن حركة أسواق النفط والطاقة في الأشهر الماضية بعد اضْطِرار شركات الطاقة إلى سحب كميات كبيرة من مخزونات الخام بسبب الاضطرابات في الإنتاج العالمي، بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية وحرب العقوبات الأمريكية الروسية، خاصة وأن ارتفاع أسعار النفط جاء في الوقت الذي يكافح فيه الاقتصاد العالمي للخروج من عثرته الناتجة عن التداعيات السلبية لفيروس كورونا، وهو ما قد يزيد بعض التحديات على اقتصادات الدول.
مدخل
تتأثر أسعار النفط بالأحداث التي لا تتعلق بصورة مباشرة بعمليات العرض، بدءًا من الأحداث الجيوسياسية مثل الأحداث المناخية الكبرى إلى حالات عدم الاستقرار الإقليمي أو الجيوسياسي، قياسًا على ما حدث في الصدمة النفطية الأولى والتي أُطلقت على الحظر النفطي العربي عام ١۹٧٣، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل مبالغ بنحو ٢٣٠٪ وأيضًا عندما قررت منظمة الأوبك عام ٢٠١٧ تقليص إنتاجها من أجل الحفاظ على أسعار النفط عالميًا، مما أدى أيضًا إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة بلغت ٧٪ تقريبًا. وايضًا انتشار الأوبئة مثلما حدث في بداية عام ۲۰۲۰ وتأثيرها الحاد على انخفاض أسعار البترول. ومؤخرًا الحرب الروسية الأوكرانية والتي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات لم تحدث منذ ١٤ عامًا. ولكن في صناعة النفط الارتفاعات اللحظية السريعة تتبعها انخفاضات حادة في الأسعار.
الحرب الروسية الأوكرانية
الطلب العالمي على النفط ربما تجاوز ذروته ولن يعود إلى ما كان عليه، هكذا قالها الرئيس التنفيذي لشركة شل “فان بوردن” في عام ۲۰۲۰، وقال للصحفيين بعد أن أعلنت شركته الإنجليزية الهولندية للطاقة انخفاضًا حادًا في أرباح الربع الثاني إن تعافي الطلب سيستغرق وقتًا طويلًا هذا إذا تعافى. لم يكن “فان بوردن” وحيدًا في رأيه المتشائم، فقد كان ما تمر به سوق النفط العالمية غير مسبوق شأنه شأن كثير من الأحداث خلال جائحة كورونا، كان الطلب قد انخفض انخفاضًا حادًا مع توقف عمليات السفر، ولم تستطع صناعة النفط خفض معدلات الإنتاج بالسرعة الكافية لمجاراة الانخفاض الحاد في الأسعار.
وما لبث النفط ينفض غبار الكوفيد، إلا وتعثر في تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، غير أنه بعد أقل من عامين يبدو أن تنبؤات “بوردن” وغيره من كبار رجال الطاقة عن نهاية عصر النفط كانت سابقة لأوانها، وتسببت الحرب في أوكرانيا إلى دفع الأسعار إلى مستويات قياسية لم تصل لها منذ ١٤ عامًا، ليتخطى سعر برميل النفط حاجز ١٣٠ دولار، وسط توقعات بتخطي السعر ٢٠٠ دولار في سابقة لم تشهدها أسواق النفط العالمية والتي لم تتخط من قبل ١٤٧ دولارًا للبرميل.
ومن المتوقع أن يعصف الصراع الروسي الأوكراني بأسواق النفط العالمية والتي لم تستفق بعد من آثار الكورونا ومتحوراتها المختلفة، وروسيا هي المنتج الثاني للنفط في العالم وتتحكم في ٤۰٪ من احتياجات القارة الأوربية من الغاز الطبيعي، ولذلك فإن الأزمة الراهنة ستؤدي إلى خلخلة عنيفة ولأشهر طويلة في أسواق النفط والطاقة. ومن المؤكد ثبات سعر البرميل النفطي فوق ۹۰ دولارًا على المديين القريب والبعيد ما لم تتدخل منظمة الدولة المصدرة للنفط (أوبك) مقررة زيادة الإنتاج.
فموسكو أضافت معدلات جديدة من التقلبات السعرية وحالات عدم اليقين في أسواق النفط، وحطمت العديد من أساسيات السوق؛ فمع بدء الحرب تجاوز سعر البرميل ١۰٥ دولارات، إلى أن تجاوز ١۳۰ دولارًا في سابقة لم تحدث منذ ١٤عامًا. ومع بداية التلويح بسلاح العقوبات من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بدأت الأسعار مجددًا في التذبذب الواضح؛ فتأثير الحرب الروسية الأوكرانية على رأس أسباب اشتعال الأسعار.
وستثير هذه التوترات القوية بين المعسكرين الغربي والروسي القلق في استمرار عمليات وسلاسل الإمدادات النفطي؛ إذ تنتج روسيا حوالي عشرة ملايين برميل من النفط، فجاء الارتفاع القياسي في أسعار النفط كنتيجة رد فعل رجال ومستثمري الطاقة تجاه التطورات في أوكرانيا، مع قلقهم من التأثير المحتمل للحرب على إمدادات البترول والغاز الطبيعي، وأنه في حالة استمرار الحرب وتوسع الدب الروسي في الأراضي الأوكرانية سيحدث صدع حاد في الإمدادات النفطية، مما سينعكس على أسعار النفط بشكل ملحوظ. وسنجد الأسعار تتهاوى إلى الانخفاض المتذبذب في حالة زيادات كبيرة في الإنتاج.
تأثير أرتفاع أسعار النفط على الدولة المصرية
جاء ارتفاع أسعار النفط في الآونة الأخيرة ليفوق توقعات موازنات الكثير من الدول العربية للعام الحالي، وهو ما يشكل مكاسب لخزائن بعضها، ويتسبب في ضغوط على البلدان التي تعتمد على الاستيراد لتوفير الوقود.
ومن المؤكد أن الأزمة الحالية ستلقي بظلالها على جميع دول العالم ومنها مصر والتي جاء ارتفاع أسعار النفط العالمية بما لا تشتهي سفينة موازنتها العامة التي ستتأثر بحالة عدم الاستقرار في أسعار النفط وتذبذبها الحاد من عدة جوانب، أهمها: أسعار المنتجات البترولية والبنزين والتي تتم مراجعتها كل ثلاثة أشهر بناء على معدلات أسعار النفط، وأيضًا تأثيرها الشديد على دعم المواد والمنتجات البترولية في الموازنة العامة للدولة مما سينعكس على عجز الموازنة؛ إذ تقدر مصر برميل خام برنت في موازنة العام الجاري عند ٦١ دولارًا، في حين تسجل أسعار النفط ارتفاعات متسارعة حتى تخطت حاجز ١۰۰ دولار للبرميل نتيجة للأزمة الروسية الأوكرانية، مما ينعكس على ارتفاع نسبة العجز في الناتج المحلي.
وبلغة الأرقام فإن كل زيادة بمقدار ١۰ دولارات في سعر النفط العالمي عن السعر المقدر له في الموازنة العامة سيترتب عليها ارتفاع نسبة العجز في الناتج المحلي بنحو ۰٬۲ إلى ۰٬۳٪، في الوقت الذي تستهدف فيه الحكومة المصرية خفض معدل الدين للناتج المحلي في الموازنة الجديدة لأقل من ۹۰٪ وأقل من ۸٥٪ خلال الثلاث سنوات المقبلة، إلا أن أرتفاع أسعار النفط قد تفرض قيودًا قوية على وزارة المالية في تحقيق أهدافها بالنسبة للعجز الكلي للموازنة.
وعلاوة على ذلك، فإن الصناعات التحويلية غير النفطية والتي تشكل نسبة ١١٪ من الناتج المحلي ستواجه قيودًا قوية بسبب عامل التكلفة المرتفعة لإعتماد المصانع على المنتجات والمواد البترولية، وبالتالي فمن المؤكد في ظل الزيادات المتذبذبة في أسعار النفط العالمية أن بند دعم الطاقة في الموازنة العامة سيشهد ارتفاعًا رغم الإصلاحات القوية التي نفذتها الحكومة المصرية بشأن ترشيد دعم الطاقة مؤخرًا.
ولعل ما يخفف من وقع وشدة الأزمة تراجع حجم استيراد مصر السنوي من المنتجات البترولية بنسبة تتعدي ٥۰٪ بعد النجاحات التي شهدها قطاع البترول، وعدد الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي، وتزايد الاعتماد على الغاز الطبيعي في السيارات، ومشروعات التكرير التي تم تنفيذها وتشغيلها مؤخرًا والتي أسهمت بشكل رئيس في تخفيض حجم استيراد المنتجات البترولية من الخارج.
ولكن من الممكن أن تمثل أسعار الطاقة المرتفعة حافزًا ودافعًا قويًا للعمل على توسيع أنشطة وإنتاج الصناعات الاستخراجية وقطاع تكرير النفط واللذين يمثلان معًا أكثر من ١٤٪ من إجمالي الناتج المحلي.
وختامًا، فإن التصاعد السعري الواضح في سوق النفط العالمي سببه الرئيس التخوف من نقص أو انقطاع إمدادات النفط، ومن المتوقع أن تستمر حالة عدم الاستقرار السعري مع مواصلة الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن الارتفاع سيكون مؤقتًا ثم لا تلبث أن تعود الأسعار إلى مستويات ما بين ۹۰ و١۰۰ دولار للبرميل خلال العام الحالي، فارتفاع أسعار النفط قد لا يكون مناسبًا للدول الكبرى المنتجة لأن معدلات الأسعار العالية قد تعمل على تشجيع وتحفيز الدول المستهلكة على إيجاد حلول وبدائل للوقود الأحفوري والاستهلاك النفطي.
.
رابط المصدر: