آية عبد العزيز
أثارت نتائج الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة التي شهدتها بعض العواصم الأوروبية حالة من القلق نتيجة تنامي صعود قوى اليمين المتطرف، الأمر الذي تجلى في استمرار سيطرة حزب “فيدس” اليميني بزعامة “فيكتور أوربان” على السلطة في المجر لما يقرب من أكثر من عقد بعد فوزه مجددًا في الانتخابات التشريعية التي عقدت في أبريل 2022. وكذا تمكنت زعيمة اليمين المتطرف “مارين لوبان” من الفوز بما يقرب من 80 مقعدًا في البرلمان الفرنسي، بعد أن خاضت الانتخابات التشريعية التي أجريت على جولتين خلال شهر يونيو 2022، وهو ما يعد تقدمًا ملحوظًا مقارنة بانتخابات عام 2017 التي حصلت فيها على 8 مقاعد فقط.
فيما استطاع الحزب “الديمقراطي السويدي” اليميني المتطرف أن يكون ثاني أكبر حزب سياسي في السويد بعد أن حصل على ما يقرب من 20% من إجمالي الأصوات في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في سبتمبر الماضي. وأخيرًا، أسفرت الانتخابات التشريعية الإيطالية عن صعود قوى اليمين المتطرف بشكل كبير في مقدمتهم حزب “إخوة إيطاليا” –الذي تعود جذوره إلى الفاشية الجديدة- برئاسة “جيورجيا ميلوني” بعد أن نال 26% من إجمالي الأصوات في انتخابات التي عقدت في الخامس والعشرين من سبتمبر، محققًا فوزًا كبيرًا مقارنة بانتخابات عام 2018 التي نال فيها 4% من الأصوات.
هذا بجانب فوز شركائه في التحالف اليميني الذي يتألف من كل من حزب “الرابطة” بزعامة “ماتيو سالفيني” الذي فاز بنحو 8.8% من إجمالي الأصوات، فيما حصل حزب “فورزا إيطاليا” برئاسة “سيلفيو برلسكوني” بما يقرب من 8.1%. وبالرغم من إن الحزبين تمكنا من الفوز في الانتخابات وشكلا بجانب حزب “ميلوني” حوالي 44% من إجمالي الأصوات، فإنهما يواجهان تحديًا متمثلًا في تراجع شعبيتهما إذا ما قورنت هذه النتائج بانتخابات عام 2018 -على سبيل المثال- التي فاز فيها حزب “الرابطة” بـ 17%، أما حزب “فورزا إيطاليا” فقد نال نحو 14% من إجمالي الأصوات.
وعليه سيشكل هذا التحالف الحكومة الجديدة التي ستكون أكثر يمينية، في حدث غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، لتقود ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. ويذكر في هذا السياق؛ أن الرئيس “سيرجيو ماتاريلا” هو الذي سيختار من التحالف الفائز من سيكون رئيس الوزراء، وبالرغم من أن “ميلوني” الأكثر حظًا فإن الأمر سيتوقف على قرار الرئيس الإيطالي.
ترقب حذر
ستقود حكومة التحالف اليميني الجديد البلاد لتحل محل حكومة رئيس الوزراء “ماريو دراجي” التي استمرت ما يقرب من 18 شهرًا، حاول خلالها استعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد التي عانت من العديد من التحديات الداخلية والخارجية التي تفاقمت نتيجة تفشي جائحة “كوفيد-19”. إلا أن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وما أسفرت عنه من تحديات اقتصادية جديدة عرقلت مسار النهج الإصلاحي الذي سعى “دراجي” إلى تبنيه، وجعله في مواجهة حادة أمام القوى السياسية الأخرى، الأمر الذي دفعه إلى تقديم استقالته إلى الرئيس الإيطالي “ماتاريلا”، والدعوة لعقد انتخابات تشريعية جديدة.
كان لنتائج هذا الاستحقاق الانتخابي أصداء في عدد من الدول الأوروبية وخاصة في فرنسا التي وثقت علاقاتها مع إيطاليا خلال وفترة ولاية “دراجي”، علاوة على محاولة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” تعزيز العلاقات مع روما على كافة الأصعدة لإنهاء الخلافات بينهم التي تزايدت خلال عامي 2018 و2019. لذا فمن الواضح أن باريس تترقب تداعيات تولي هذا التحالف قيادة البلاد، على مسار العلاقات بين الجانبين، وهو ما تجسد في تأكيد الرئيس “ماكرون” على احترام الخيار الديمقراطي للإيطاليين، وفي إعلان الإليزيه الذي نقلته وكالة الأنباء الفرنسية موضحًا: “اتخذ الشعب الإيطالي خيارًا ديمقراطيًا وسياديًا”. وأضاف “كجيران وأصدقاء، يجب أن نواصل العمل معًا”. هذا وقد سبق أن قال الرئيس “ماكرون” في الثاني عشر من سبتمبر: “أريد أن أصدق أن الخط الذي رسمه ماريو دراجي لا رجوع عنه على المدى القصير فيما يتعلق بالتعاون في أوروبا”.
وكذلك صرحت رئيسة الوزراء الفرنسية “إليزابيث بورن” في السادس والعشرين من سبتمبر على قناة (BFM-TV) الفرنسية قائلةً: “لن أعلق على الخيار الديمقراطي للشعب الإيطالي”. “الآن الأمر متروك للرئيس لتعيين رئيس الوزراء.” ودافعت عن توجهات وقيم الاتحاد الأوروبي، تخوفًا من احتمالية عدم امتثال الحكومة الجديدة عن بعضها. وعلى صعيد آخر؛ أشادت “لوبان” بنتائج الانتخابات، قائلةً: “الشعب الإيطالي قرر أن يأخذ مصيره بيده”.
وفي المقابل، من الواضح أن “ميلوني” أدركت حالة التخوف الفرنسي من الحكومة الجديدة؛ حيث انتقدت تعليقات وزيرة الشؤون الأوروبية الفرنسية “لورانس بون” التي أدلت بها صحيفة “لا ريبوبليكا” وتم نشرها في السابع من أكتوبر، قالت خلالها: إن باريس “ستولي اهتمامًا خاصًا لاحترام القيم وسيادة القانون” بمجرد تولي الحكومة الجديدة السلطة”. وأضافت “لقد أظهر الاتحاد الأوروبي بالفعل يقظة تجاه دول أخرى مثل المجر وبولندا”. الأمر الذي ردت عليه “ميلوني” قائلةً: إن التعليقات تبدو “تهديدًا غير مقبول بالتدخل ضد دولة عضو ذات سيادة في الاتحاد الأوروبي”. موضحةً: “آمل أن تنكر الحكومة الفرنسية هذه الكلمات على الفور”، مضيفة أنها تأمل أن تكون “الصحيفة اليومية ذات الميول اليسارية” قد أساءت في الواقع تفسير معنى السيدة “بون”.
مخاوف مشروعة
قد يكون لدى باريس عدد من المخاوف المتعلقة بالسياسات المحتملة التي من المرجح أن تتبناها الحكومة اليمينية الجديدة في إيطاليا بشأن عدد من الملفات ذات الاهتمام المشترك تأتي في مقدمتها ما يلي:
● علاقات الشراكة بين باريس وروما:
عملت القيادة السياسية في كلا البلدين على التخلي عن خلافاتهم، والحد من تنامي التوترات بينهم عبر تعزيز علاقات التعاون والشراكة التي تكللت بإبرام “معاهدة التعاون الفرنسي الإيطالي المعزز” -وأطلق عليها اسم معاهدة (كويرينال) نسبة إلى القصر الرئاسي الإيطالي الذي يحمل نفس الاسم- بين الرئيس “ماكرون” ورئيس الوزراء “دراجي”.
وقد تزامنت هذه المعاهدة مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وانقضاء فترة حكم المستشارة الألمانية “إنجيلا ميركل” التي دامت 16 عامًا، وجاءت كذلك مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وفي سياق إجراءات التعافي من تداعيات جائحة “كوفيد -19” التي تبنتها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتهدف المعاهدة إلى التقارب بين المواقف الفرنسية والإيطالية، علاوة على التنسيق بين الجانبين فيما يتعلق بالشئون الأوروبية والعلاقات الخارجية، والأمن والدفاع، والهجرة، والتعاون عبر الحدود، والاقتصاد، والتعليم، والبحث، والثقافة.
لذا من المتوقع أن ترغب فرنسا في الاستمرار على هذا النهج؛ تجنبًا لعودة الصدام بين البلدين مرة أخرى. وبالرغم من ذلك ليس من المرجح أن تسير العلاقات وفقًا للتصور الفرنسي؛ نتيجة عدد من الأسباب التي يمكن استنتاجها وفقًا لمواقف سابقة بين الجانبين متعلقة ببعض الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك تتمثل أبرزها فيما يلي:
لم يكن التحالف المنتخب في الآونة الأخيرة بجديد على قيادة البلاد، فقد شارك رؤساء الأحزاب الثلاثة في إدارة البلاد من قبل؛ إذ شارك “سالفيني” في الحكومة الشعوبية بقيادة حركة “الخمس نجوم” في عام 2018 كوزير للداخلية. وقد زادت التوترات بينهم في هذا التوقيت؛ نتيجة اعتراض فرنسا على سياسة الهجرة المتشددة التي طبقتها روما، تجلى الصدام بينهما في هذا الملف عندما رفضت الحكومة الإيطالية آنذاك استقبال سفينة المهاجرين “أكواريوس”.
وقد تزايدت حدة الخلاف على خلفية لقاء نائب رئيس المجلس الإيطالي “لويجي دي مايو” مع زعيم حركة “السترات الصفراء” في فرنسا في أوائل عام 2019، وهو ما اعترضت عليه باريس وتسبب في أزمة دبلوماسية بين البلدين في حينها.
أما “ميلوني” التي كانت وزيرة الشباب في عام 2008، في حكومة رئيس الوزراء الأسبق “برلسكوني”، فمن أبرز المنتقدين لسياسة فرنسا تجاه تعاطيها من أفريقيا، علاوة على تعاملها مع ملف الهجرة، والأزمة الليبية، هذا بجانب اعتراضها على تصريحات فرنسا بشأن موقف إيطاليا من ملف الهجرة غير الشرعية، ووصف الرئيس “ماكرون” لها بأنها “غير مسؤولة”.
وهو ما تجسد خلال كلمتها التي ألقتها في مؤتمر “ATREJU18” السنوي الذي يعقده اليمين الإيطالي في سبتمبر 2018؛ قائلةً: “إن غير المسؤولين هم أولئك الذين قصفوا ليبيا، لأنهم كانوا قلقين من أن تحصل إيطاليا على امتيازات مهمة في مجال طاقة مع القذافي، وتركونا نواجه فوضى الهجرة غير الشرعية حتى الآن”. وتابعت “مثير للاشمئزاز فرنسا التي تواصل استغلال إفريقيا من خلال طباعة النقود لـ 14 دولة أفريقية، وتفرض عليهم رسوم سك العملة، وعبر تشغيل الأطفال في المناجم، واستخراج المواد الخام، كما يحدث في النيجر؛ حيث تستخرج فرنسا 30% من مادة اليورانيوم الذي تحتاجه لتشغيل مفاعلاتها النووية، بينما يعيش 90% من سكان النيجر يعيشون بدون كهرباء”. واستكملت أن “الأفارقة يهجرون قارتهم بسببكم”، “الحل ليس نقل الأفارقة إلى أوروبا، ولكن تحرير أفريقيا من بعض الأوروبيين”.
وعليه يمكن القول إن هذه بعض المؤشرات التي قد تنذر باحتمالية عودة التوتر بين البلدين نتيجة عدم توافقهم على إدارة الملفات ذات الأولوية بين الجانبين، مثل الهجرة، والطاقة، وأزمات الشرق الأوسط وفي مقدمتها الأزمة الليبية، لأن هذه الملفات ما زالت قائمة بالفعل دون معالجة توافقية من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يمكن تنفيذها بشكل واضح؛ إذ يخضع التعاطي معها وفقًا لما تقضيه المصلحة الوطنية، وليس من خلال استراتيجية كبرى لتسوية الأزمات الخارجية، ومواجهة التحديات المتنامية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي. الأمر الذي قد ينعكس بشكل سلبي على تماسك الاتحاد الأوربي، ويسهم في زيادة التصدعات الداخلية بين الدول الأعضاء.
● الحرب الروسية الأوكرانية:
بالرغم من أن الدول الأوروبية سعت إلى بلورة استجابة موحدة ومنسقة لمواجهة روسيا ودعم أوكرانيا؛ فإن صعود قوى اليمين المتطرف أثار عددًا من المخاوف بشأن علاقات بعض هذه القوى السياسية بروسيا، واعتراضهم على فرض العقوبات الغربية عليها بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.
بالنسبة للتحالف المقبل لإدارة البلاد فلديه توجهات منقسمة بشأن الحرب تتمثل في أن “ميلوني” لديها مواقف داعمة لأوكرانيا منذ بداية الحرب وموافقة على فرض العقوبات على روسيا، في المقابل يتبني “سالفيني” موقفًا معارضًا فيما يتعلق بالعقوبات التي يراها أنها تضر الإيطاليين أكثر من الروس، لذا فإنه يريد رفعها لإنها بدون جدوى. والجدير بالذكر؛ أن موقف “سالفيني” من العقوبات الغربية متوافق مع موقف “لوبان” إبان حملتها الانتخابية التي اعتبرت أن استمرار فرض العقوبات على روسيا يضر بالفرنسين، مبررة بذلك موقفها من رفع العقوبات.
وبالرغم من أن التحالف القادم يدعم أوكرانيا، فمن المرجح إنه سيكون غير متوافق فيما يتعلق بالموقف من روسيا، وآلية ردعها، وخاصة في ظل استمرار التحديات الداخلية التي تواجهها البلاد المتعلقة بارتفاع أسعار الطاقة، وزيادة معدلات التضخم، وارتفاع تكاليف المعيشة. وعلى الجانب الآخر، قد يكون هناك قلق من قبل فرنسا أن تتراجع إيطاليا عن جزء من العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا، وهو ما سيسهم في عودة تباين المواقف تجاه روسيا الذي توظفه موسكو لصالحها.
وأخيرًا؛ يمثّل صعود قوى اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية بصفة عامة وإيطاليا خاصة تحديًا كبيرًا لسياسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه وخاصة فرنسا التي تشهد أيضًا تناميًا واضحًا لهذه القوى بالتزامن مع عدم تمكن الائتلاف الحاكم من الفوز بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات الأخيرة، الأمر الذي سيكون له تبعات على قدرته على تنفيذ برنامجه الانتخابي، وتعزيز الدور الفرنسي خارجيًا. وفيما يتعلق بمسار العلاقات الفرنسية-الإيطالية، فمن المتوقع أن تشهد تحولًا جديدًا من المبكر الحكم عليه الآن، إلا إنه بناءً على الخلافات السابقة بين الجانبين ومازالت قائمة حتى الآن، والعوامل المحفزة لعودتها مستمرة، بالرغم من محاولة فرنسا التغلب عليها لتجنب التوتر بين البلدين، من المحتمل أن تتجدد مرة ثانية.
.
رابط المصدر: