د. محمد مسلم الحسيني
سيكون يوم الثالث من شهر تشرين الثاني” نوفمبر” 2020 يوما حاسما وتأريخيّا ليس في أمريكا فحسب وإنما في كافة أرجاء المعمورة، حيث سيعلن الشعب الأمريكي خياره الأدق والأخطر لرئيسه القادم!.
فعلى الصعيد الداخلي يعني إعادة إنتخاب الرئيس الحالي للولايات المتحدة “دونالد ترامب” لدورة ثانية، تهديد بخروج أمريكا عن سياقات الديمقراطية الكلاسيكية المتبعة وتوغلها في عمق سلوك دكتاتوري قد يجر الى تغيرات جوهرية في روح النظام والقانون والصيرورة السياسيّة هناك والى تفاعلات شارع أمريكي ملتهب لا يمكن التخمين بمداها.
أما إنتخاب المرشح الديمقراطي للرئاسة “جو بايدن” بديلا عن “ترامب” فقد يعني هذا عودة أمريكا الى سلوكها السياسي الكلاسيكي المتبع منذ تأسيسها ويعني أيضا إيقاف محاولات ترامب الإستثنائية في خرق المسار الديمقراطي وإعتبار فترة حكمه خللا تأريخيا عارضا في السياسىة الأمريكيّة تقتبس منه الدروس والعبر على المدى الطويل أو غير المنظور.
نتائج هذه الإنتخابات لا تهم الولايات المتحدة وحدها فحسب، إنما تهم معظم دول العالم حيث أن “ترامب” أثر سلبا خلال فترة رئاسته على مصالح الدول وتعاملاتها من خلال إلغائه للمعاهدات الدولية المبرمة بين الولايات المتحدة وكثير من دول العالم مما سبب ضررا محسوسا عندها. لقد أثرت سياسات ” ترامب” سلبا على الإقتصاد العالمي فخلقت حالة من عدم الإستقرار من خلال الحرب الإقتصادية التي شنت على الصين، والتهديدات الضريبية المستمرة لدول الإتحاد الأوربي والمكسيك وكندا، وإلغاء إتفاقيات التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ وأمريكا الشمالية وغيرها.
حب الأنا وسياساته الإنعزالية المبنيّة على شعار أمريكا أولا جمدت والغت ثوابت والتزامات دولية كانت أمريكا مساهما كبيرا فيها سواء أكان ذلك على صعيد البيئة والإحتباس الحراري حيث انسحب من “إتفاقية باريس للمناخ”، أو على الصعيد الصحي العالمي حيث ألغى التزاماته المالية أمام منظمة الصحة العالمية، أو على الصعيد الإنساني والأخلاقي حيث ألغى كثيرا من المساعدات الأمريكية للدول الفقيرة في العالم وأنسحب من عضوية منظمة اليونسكو.
أما خروقاته السياسية للعهود والمواثيق الدولية فكثيرة أيضا ويتصدرها تصرفه الأحادي في نقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس ودعمه اللامحدود لرغبات ومطامع إسرائيل الخارجة عن إرادات الحق والعدل والإنصاف.
إن إستمرت الإستطلاعات الإنتخابية التي تجريها مؤسسات محايدة وموثوقة في ترجيح دفة “جو بايدن” فقد يسعى” ترامب” الى إعاقة إجراء هذه الإنتخابات في وقتها المقرر أو الى عدم الموافقه على الإسلوب المناسب لإجرائها، وقد يستخدم كافة الوسائل والسبل المتاحة وغير المتاحة ويختلق المبررات والحجج من أجل ذلك. إن لم يفلح في هذا السعي وأجريت الإنتخابات بطريقة أو بأخرى في وقتها، فمن المحتمل جدا أن يرفض نتائج هذه الإنتخابات، إن لم تكن في صالحه، وسيتهم الطرف الآخر بالتزوير والمؤامرة خصوصا إن كانت النتائج الإنتخابية متقاربة في نسبها.
التقدم الثابت والمستمر في نتائج الإستطلاعات الإنتخابية لصالح المرشح الديمقراطي “بايدن” يشير الى ثوابت قد تختلف عما كانت عليه الحالة في الإستطلاعات الإنتخابية التي جرت عام 2016. ففي الإنتخابات السابقة بين المرشحين الديمقراطي “هيلاري كلنتون” والجمهوري “دونالد ترامب” قد أخبر 41 بالمئة من الناخبين وكالة “بيو” للدراسات والأبحاث في إستطلاع إنتخابي آنذاك بترددهم في إختيار الرئيس، بينما أشارت الإستطلاعات الحديثة أن المترددين في خياراتهم أقل بكثير عما كانت عليه الحالة في الإنتخابات السابقة، وأن 56 بالمئة من الذين سيصوتون لـ”بايدن” قد اختاروه كرها بدونالد ترامب وكان هذا سبب أولي لخيارهم!
يختلف “دونالد ترامب” عن غريمه الإنتخابي “جو بايدن” بكل الأمور عدا شأنا واحدا فقط يتشابه فيه معه وهو مساحة العمر حيث أن كليهما في السبعينيات من العمر والفارق العمري بينهما ليس كبيرا. رغم هذا فإن “ترامب” يبدي حيوية محسوسة ونشاط واضح يتفوق فيه على نظيره الذي يبدو خاملا متعبا في أكثر المناسبات حيث يفتقد لروح الحيوية والسرعة الحركية ولسلاسة الكلام التي يبتغيها منصب الرئاسة.
رغم هذا وذاك فإن “بايدن” يتميّز بهدوء الطبع ونضوج الرؤى وإعتدال المواقف، كما أن له باع طويل في حقل السياسة وفي دبلوماسياتها، كما أنه يتسم بالتعاطف والمحبة وبروح البساطة والإنبساط. أما “ترامب” فهو على النقيض من ذلك، فهو رجل حاد الطبع والمزاج، نرجسيّ التصرف، مجنون عظمة، لا يمتلك الدبلوماسية المطلوبة وليس له خبرة سياسية لهذا المنصب الخطير. كما أنه ليس صادقا في أقواله ووعوده ومثير للجدل في أفعاله وتصرفاته، حتى صار مدار سخرية وإستهجان مما قللّ كثيرا من هيبة منصب رئيس لأقوى دولة في العالم!
رغم أن “ترامب” إستطاع الإفلات من مواقف معقدة وصعبة حصلت له أثناء ولايته وأهمها تحقيقات “روبرت مولر” التي دارت حول التدخل الروسي في الإنتخابات الأمريكيّة عام 2016 وما صاحبها من ملابسات وإعاقة التحقيق والقانون، وإفلاته أيضا من العزل عن منصبه كرئيس للولايات المتحدة عام 2019 بعد إتهامه بإساءة إستخدام السلطة وعرقلة الكونغرس الأمريكي خلال فضيحة أوكرانيا، فإن وباء كوفيد 19 يعتبر التحدي الأكبر له في إنتخابات 2020.
يدرك غالبية الأمريكيين أن “ترامب” أخفق في التعاطي الصحيح للوقوف بوجه الوباء الجديد منذ البداية، حيث وصف هذا الوباء بأنه محض “خدعة” صنعها له أعداؤه من الديمقراطيين! ثم توهم بأن الوباء سرعان ما سيزول وينجلي بشكل سحري عن البلاد، ثم تهاون في تطبيق رؤى الأطباء وإرشادات أهل الإختصاص حينما نظّر في طرق الوقاية والعلاج فاعتبر لبس الكمامات أمرا ثانويا وغير ضروري من جهة، ونصح بإستخدام أدوية غير صالحة للمرض مثل “الكلوروكوين” و”الهايدروكسي كلوروكوين” من جهة أخرى. اقترح أيضا إستخدام المعقمات داخل الجسم وغيرها من الأمور غير العملية وغير العلمية التي تدلّ على تدخله في الشؤون الفنيّة والعلميّة التي ليس له إختصاص فيها، مما جعلت تصرفاته هذه، أمريكا الأول في العالم في عدد الإصابات وعدد المرضى والمتوفين بسبب هذا الوباء!
النقاط الأساسيّة والعوامل الحساسة التي تستهوي الناخب الأمريكي اليوم وتستقطب خيارات الناس وحسب أهميتها هي: الخلاص من وباء “كوفيد 19” حيث أن 35 في المئة من الناخبين يرون أن هذا الوباء هو المشكلة الأكبر في البلاد، بينما 22 بالمئة من الناخبين يرون أن القيادة في أمريكا اليوم هي المشكلة الأكبر، في حين يرى آخرون أن الإقتصاد هو الأولية، بينما النسبة الأقل ترى أن العنصرية تأتي في الصدارة في مشكلات البلاد وحيثياتها…
إنطلاقا من هذه الحقائق فإن “ترامب” يكافح بإصرار التحدي الأهم وهو “كوفيد 19” بعد أن فتت هذا الوباء ما بناه خلال فترة حكمه حيث تحوّل الإنتعاش الإقتصادي الى كساد وأنقلب تزايد الأيدي العاملة الى بطالة…. وهكذا فإن فشل “ترامب” في الأسابيع القادمة أي قبيل يوم الإنتخابات في خلق معجزة تمحو آثار عجزه في إحتواء الوباء والسيطرة عليه، كـ “إنتاج لقاح أو علاج” له أو حصول إنحسار كبير في عدد الإصابات، سيؤثر سلبا عليه وعلى إمكانية سيرالإنتخابات الى صالحه.
رغم ضيق الوقت الذي يحاصر” ترامب” كي تسقط أمامه المعضلات، تبقى الفرص بإنحسار الوباء وتضائله غير مستحيلة وإن كانت ضعيفة الإحتمال، وتبقى مقالب “ترامب” في لحظاته الأخيرة قائمة أيضا في التنكيل بغريمه وإضعاف شعبيته من خلال البحث عن العثرات ومن خلال ما سيحدث من أحداث وأمور وما سيكشفه من قضايا مختلقة أو صحيحة أثناء المناظرات المباشرة بين الطرفين قبيل الإنتخابات.
كما أن ما سيستجد من تغيرات في الشارع الأمريكي الملتهب في بعض الولايات قد يدعو الى الحزم والقوة من أجل حفظ النظام والسيطرة على زمام الأمور، وستبقى هذه الحقيقة الوتر الحساس الذي سينقر عليه “ترامب” وهو يرفع شعار الأمن والقانون أولا كي يخفي إخفاقاته في إحتواء وباء كورونا. التدخلات الخارجية الموالية والداعمة لـ “ترامب” ستبقى فعالة بكل أشكالها وستأخذ دورها في التأثير بسير الإنتخابات طوعا أو كرها.
فوق هذا وذاك فإن محاولات “ترامب” الحثيثة في تغيير مسار الإنتخابات التي ربما ستفك الحصار عنه إن حصلت، لينطلق من مواقع قوة جديدة الى حلبة المنافسة في صراع الإنتخابات…. إن تساقطت المعوقات وتحقق لترامب ما يصبو اليه وبقدرة قادر فلا غرابة من أن تتغيّر الدفة وتنقلب الأمور ويعلن إنتصاره ! دونها ستتفق نتائج الإستطلاعات الإنتخابية المعلنة التي يتقدم فيها “بايدن” على غريمه الإنتخابي بنحو ثمان نقاط وسيصبح “ترامب” ذكرى في دفاتر الذكريات…..
ومهما يكن من أمر، يبقى للناخب الأمريكي القول الفصل في إتخاذ القرار الناجع الذي يرجع بلده الى المسار الصحيح أو خيار المغامرة في جولة خطيرة لا تعرف أبعادها ومداها!
رابط المصدر: