د. أحمد عدنان الميالي
تعد تجربة اللامركزية والحكومات المحلية ركيزة أساسية للممارسة السياسية للمجتمعات المحلية نتيجة للمهام الإدارية والخدمية والتمثيلية التي تنجز من خلالها في الأنظمة الديمقراطية، فكلما كانت هذه الهيئات المحلية فاعلة وقادرة على أداء دورها تعتبر مؤشرا على طبيعة ونوعية النظام السياسي، إذ تعد الإدارات المحلية من أصول الدولة الديمقراطية الحديثة المعبرة عن مبدأ السيادة الشعبية.
فنظام الحكم المحلي يعد مستوعبا ومستودعا لإشراك عدد أكبر من شرائح المواطنين في إدارة وتنظيم وحل مشاكلهم المحلية ولاسيما أن المشاركة السياسية الكاملة مسألة غير ممكنة في ظل توسع حجم المجتمعات البشرية، لذلك يتم التعبير عن المواطنين بطريقتين: النيابية والمحلية، من خلال هيئات اتحادية ومحلية تمثلهم وتنظم شؤونهم.
ومن الضروري بداية أن نميز بين ممارستين مختلفتين وهما: الإدارة المحلية والحكم المحلي، إذ لكل منهما مفهوما يختلف عن الآخر، إذ يمثل مفهوم الإدارة المحلية بعدا إداريا يعطي للمكونات حقوق ثقافية وسياسية وتعليمية قد يرتبط بالإقليم أو المحافظة غير المنتظمة بإقليم أو بالحكومة الاتحادية مباشرة، في حين يمثل الحكم المحلي بعدا سياسيا بحتا، كما أن الحكم المحلي يمثل خطوة متقدمة من الإدارة المحلية وأكبر وأوسع وهو يتعلق بهيكلية إدارية ونظام للإدارة يسمى (محافظة)، والمحافظة تقسم إلى أقضية ونواحي ومحلات وأزقة ودور ووحدات سكنية، كما أن الحكم المحلي الذي يسمى نظام الإدارة اللامركزية يتضمن نقلا لبعض السلطات والصلاحيات السياسية المتعلقة بأعمال الأقاليم والولايات والمحافظات، في حين الثاني لا يتضمن ذلك، وكذلك الحال الاستقلالية والصلاحيات الإدارية ترتبط أكثر بالأول على الثاني كما أن آلية تشكيل هيئات الحكم المحلي تكون وفقا للانتخاب التام وهذا الشرط لا ينسحب بالنسبة للإدارة المحلية.
تجربة الحكومات المحلية في العراق لم تأخذ بعدها السليم في الأداء والبناء ولم تحظى بتجاوب محلي شعبي ايجابي في وجودها وعملها، بل عمت النظرة السلبية والرافضة لوجودها وأداءها.
ترتبط مجالس المحافظات في العراق بنظام اللامركزية، فمجالس المحافظات إنما وردت في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وأمر سلطة الائتلاف رقم ٧١ لسنة ٢٠٠٤ والدستور العراقي وقانون مجالس المحافظات رقم ٢١ لسنه ٢٠٠٨ المعدل بقانون رقم ١٩ لسنة ٢٠١٣ كما صدر قانون انتخابات مجالس المحافظات رقم ٣٦ لسنة ٢٠٠٨ الذي خضع لأربع تعديلات هي تعديل رقم ٤٤ لسنة ٢٠٠٨ الخاص بتوسيع وضمان تمثيل المكونات والأقليات والتعديل الثاني رقم ٥٤ لسنة ٢٠١٢ والتعديل الثالث رقم ٥٥ لسنة ٢٠١٢ والتعديل الرابع رقم ١١٤ لسنة ٢٠١٢. ثم صدر القانون رقم ١٢ لسنة ٢٠١٨ الذي عدل مرتين في تموز وتشرين الثاني من العام ٢٠١٩. وأهم ما جاء في التعديل الثاني في هذا القانون هو:
1- إنهاء عمل مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم ومجالس الأقضية والنواحي التابعة لها.
2- يقوم أعضاء مجلس النواب وكلاً قدر تعلق الأمر بالمحافظة التي يمثلها بممارسة الإشراف والرقابة على أعمال المحافظ ونائبيه في كل محافظة.
هذا الإنهاء لعمل مجالس المحافظات كان مبنياً على مرتكزين: الأول هو المطالبات الشعبية المستمرة بالغاءها لعدم جدوى هذه المجالس وعدم تقديمها أي شيء يذكر في أداءها الإنجازي، الثاني: إنها تجاوزت السقف الدستوري في ولايتها المحددة بأربع سنوات وفقا للقوانين التي أشرنا إليها أعلاه.
اقترفت الحكومات السابقة والقوى السياسية خطأً في تأجيل الانتخابات المحلية لتجاوزها حدود ولايتها، وما كان الأجدر بالمشرع العراقي إتاحة هذه الإمكانية (التأجيل والتمديد) إلا في الظروف الاستثنائية ويجب أن تجرى الانتخابات بعد زوال العوارض المانعة.
فقد صدر قانون رقم ١٦ لسنة ٢٠٠٥ الذي جرت بموجبه انتخابات مجلس النواب وانتخابات مجالس المحافظات بوقت واحد وعالج هذا القانون في المادة (٤ ثانيا) منه مسألة أصبحت أشبه بالسابقة القانونية التي بدأ المشرعون الاتكاء عليها وتضمينها في القوانين الانتخابية اللاحقة إذ تضمنت هذه المادة جواز تأجيل الانتخابات في دائرة انتخابية واحدة أو أكثر إذا اقتضت ذلك الظروف الامنية.
ثم تناول قانون مجالس المحافظات رقم ٢١ لسنة ٢٠٠٨ المعدل بقانون رقم ١٩ لسنة ٢٠١٣ مسألة استمرار عمل مجالس المحافظات ورؤسائها والوحدات الإدارية ورؤسائها
بعملها لحين انتخاب مجالس جديدة في المادة (٥٥ ثالثا) في الأحكام الختامية كما نصت المادة (٣٠) من القانون أعلاه (يستمر المحافظ ونائبيه ورؤساء الوحدات الإدارية في تصريف الأمور اليومية بعد انتهاء مدة الدورة الانتخابية للمجالس وإلى حين انتخاب من يخلفهم من قبل المجالس الجديدة).
أي يبقى الحال كما هو عليه بالنسبة للمحافظة ومجلس المحافظة لحين قيام الانتخابات، وهنا جواز صريح بإمكانية تأجيل الانتخابات لكن دون ذكر المسببات.
أما قانون انتخابات مجالس المحافظات رقم ٣٦ لسنه ٢٠٠٨ المعدل فقد نصت الأحكام الختامية في المادة (٤٦ ثالثا) التي تضمنت في حال تأجيل الانتخابات تستمر مجالس المحافظات والأقضية والنواحي بممارسة عملها لحين انتخاب مجالس جديدة. وهنا واضح نص القانون الذي يعد نافذا رغم أربع تعديلات طالت عليه لم تمس جوهر هذه المادة، بأن هنالك توجه واتفاق سياسي لتأجيل الانتخابات بالطريقة المعهودة من خلال قرار لمجلس الوزراء يكون مسببا أو بناءً على اقتراح من المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لاعتبارات فنية لمجلس الوزراء النظر في تأجيل الانتخابات لحين إتمام هذه الأمور وإعطاء صلاحيات للمجالس القائمة بعملها دون ذكر أنها بمرحلة تصريف الأعمال ولم يعالج وقف الامتيازات المالية من عدمها.
القاعدة الأساسية لا تأجيل لأي انتخابات ولا تمديد لعمل المجالس، لكن الاستثناء يورد بشكل مؤقت نتيجة الظروف القاهرة التي تتيح إمكانية تأجيل الانتخابات وضُمنت في القوانين المتعلقة بمجالس المحافظات وانتخاباتها، من قبل دورات مجلس النواب السابقة، على أن عملية التأجيل يجب أن لا تكون متكررة أو طقسا سياسيا سائدا، إنما تخضع فقط للظروف القاهرة فلا يمكن أن تأجل الانتخابات نتيجة الخلافات السياسية، إنما فقط في الحالات الطارئة وفي حال تدهور الأوضاع الأمنية، وفعلا حصل ذلك في انتخابات مجالس المحافظات لعام ٢٠١٣ إذ تم تأجيل انتخابات مجلسي محافظتي نينوى والانبار نتيجة الظروف الأمنية فيهما، لكنها أجريت لاحقا.
وفي حالة العراق كان بالإمكان إجراء الانتخابات في المحافظات بمعية انتخابات مجلس النواب عام ٢٠١٨ وفق القوانين النافذة. لكن هذا لم يحدث وبدون مبرر أو مسوغ منطقي وقانوني.
تعارضت التوجهات السياسية والقانونية حول التكييف الدستوري والقانوني لمجالس المحافظات في منتصف العام ٢٠١٧ حيث انتهت أربع سنوات تقويمية من عمل هذه المجالس بعد آخر انتخابات حصلت في ٣٠ نيسان ٢٠١٣ فهنالك اتجاه يتبنى: عدم إمكانية التمديد لمجالس المحافظات وممارسة صلاحياتها وامتيازاتها ولابد من إنهاء عملها، ويستمر المحافظون ونوابهم بإدارة شؤون المحافظات خاصة أنها لا تمارس أي دور خدمي أو سياسي نتيجة توقف المشاريع والأزمة المالية، وهنالك من يذهب إلى إمكانية تمديد عملها بموافقة مجلس النواب وهذا ما حصل عام ٢٠١٧، ويبدو أن هذا الأمر أصبح طقسا سياسيا مرغوبا فيه من بعض القوى السياسية والتي بدأت منذ تأجيل انتخابات مجلس محافظة كركوك الذي ضُمن أيضا في قوانين مجالس المحافظات السابقة، ولم يعالج انتهاء صلاحيات أعضاءه وامتيازاتهم ومستقبل المحافظة.
وأيضا عدم إجراء الانتخابات للأقضية والنواحي فيها ولجميع المحافظات منذ ٢٠٠٤ لغاية تشرين الثاني من العام ٢٠١٩، إذ أنهى مجلس النواب الحالي عمل تلك المجالس كافة، وهذا هو الأسلم وتصحيح للمسار الخاطئ الذي ارتكبه مجلس النواب السابق والحكومة المنبثقة منه، فطالما أن التفويض بالتمديد جاء من مجلس النواب وفقا لقوانين مجالس المحافظات المشار إليها، فأن إتجاه البرلمان الحالي إلى تعديل هذه القوانين فيما يخص إنهاء هذا التفويض بالتمديد وإنهاء عمل مجالس المحافظات يقع في دائرة صلاحياته واختصاصاته وفقا للمادة ١٢٢ رابعا من الدستور.
وينسجم مع مطالب المحتجين والمجال العام الرافض لوجود وعمل تلك المجالس، ويتطابق مع البعد القانوني والدستوري في إنهاء ولايتها التي تجاوزت شرعيتها الانتخابية. ويقع أيضا ضمن صلاحياته الرقابية لأداء مؤسسات ومفاصل الدولة كافة.
لا يمكن إلغاء تجربة الحكم المحلي في العراق فوجودها دستوري وتحتاج إلى تعديل الدستور في هذا الشأن، ولا يمكن بذات الوقت تمديد ولاية عمل المجالس السابقة فهذا ينافي طبيعة النظام الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، والشرعية الانتخابية، ولهذا يعد إجراء إنهاء عملها من قبل مجلس النواب الحالي سياق مقبول وواقعي، في ظل المعطيات الحالية، ويبقى الخيار للقوى السياسية والشعبية لتحديد مصير هذه المجالس فإما يتم الاتفاق على تعديل الدستور لإلغائها، أو توفير المناخ الإيجابي والمناسب لإجراء الانتخابات المحلية وفقا لاستحقاقات المرحلة الحالية لتكون مخرجاتها تنسجم مع طموحات الشعب العراقي في الأداء والفاعلية.
رابط المصدر: