مع قيام إيران بنشر المزيد من القوات العسكرية على طول الحدود مع أفغانستان، لا شك أن طهران تدرس خيارات مختلفة لتأمين مصالحها في البلد المجاور، سواء من خلال شن حرب بالوكالة، أو التدخل المباشر، أو العمل مع حركة “طالبان”، أو محاولة الحفاظ على الوضع الراهن.
يبدو أن الوضع الأمني المتدهور للحكومة الأفغانية والخسارة المتتالية للأراضي لصالح حركة “طالبان” يثير القلق في إيران. ومع ذلك، قد ترى الجمهورية الإسلامية في التطورات الأخيرة أيضاً فرصة لزيادة نفوذها المحلي وتسجيل نقاط ضد الولايات المتحدة. ففي الفترة 7-8 تموز/يوليو، استضافت وزارة الخارجية الإيرانية وفدَين من الحكومة الأفغانية وحركة “طالبان” في محاولة سريعة لسد الفجوة الدبلوماسية التي أحدثها رحيل القوات الأمريكية مع التعبير أيضاً عن مخاوفها الأمنية.
وبالإضافة إلى الدبلوماسية، تقوم طهران بتعزيز انتشارها العسكري على الحدود الأفغانية. وتُظهر مقاطع فيديو مصوَّرة بهواتف محمولة التي نُشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي صفوفاً من المعدات من «الحرس الثوري الإيراني» والقوات المسلحة الوطنية (“أرتيش”) يتم نقلها إلى الحدود، وتشمل هذه دبابات القتال الرئيسية وناقلات الجنود المدرعة وأنظمة المراقبة وأصول الدعم. بالإضافة إلى ذلك، أفادت بعض التقارير أن القوات الجوية وضعت بعض طائراتها المقاتلة المتواجدة في الجهة الشرقية من البلاد في حالة تأهب قصوى.
ورغم أن قوات “أرتيش” تولت المسؤولية الدفاعية عن الحدود مع أفغانستان التي يبلغ طولها 945 كيلومتراً منذ عام 2018، إلّا أن طهران قد تنظر أيضاً في خياراتها الهجومية هناك. وستقود وحدات مجهزة بشكل أفضل من «الحرس الثوري الإيراني» أي حملة كبيرة داخل أفغانستان، بدعم من عناصر «فيلق القدس» التي يُعتقد أنها تعمل هناك أصلاً.
تاريخ إيران المعقد في أفغانستان
تميل الأنشطة الإيرانية في أفغانستان إلى أن تكون مكتنفة بالغموض، وتراوحت أهدافها على ما يبدو من اعتراض وجود التحالف إلى احتواء حركة “طالبان”. وقد اتهمت الحكومتان الأمريكية والأفغانية، من بين جهات فاعلة أخرى، «فيلق القدس» بتشجيع “طالبان” على إسقاط المزيد من الضحايا على قوات التحالف والتسبب بخسائر مادية لها وتسريع الانسحاب الأمريكي، بما يتماشى مع استراتيجية إيران الأوسع نطاقاً لإخراج أمريكا من المنطقة بالكامل.
وقد تطلّب تحقيق هذا الهدف قيام طهران بلعب اللعبة الدقيقة المتمثلة في العمل مع حركة “طالبان” وردعها في الوقت نفسه، لا سيما في محافظات هرات وفرح ونيمروز. من المرجح أن يكون «فيلق القدس» قد بحث إمكانية التعاون مع “طالبان” في قضايا مثل تبديل الحكم المحلي والإضرار بالمصالح الأمريكية. ومن جهة أخرى، يبدو أنه قد طُلب من عناصر «فيلق القدس» إدارة تفادي التضارب مع وحدات “طالبان” من أجل تجنب ما يشبه حادثة مزار الشريف عام 1998 (انظر أدناه).
في 27 كانون الثاني/يناير، التقى رئيس “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني، علي شمخاني، مع الملا عبد الغني برادر، الرئيس الدبلوماسي لحركة “طالبان” الذي سافر إلى طهران من مكتبه في قطر. وعلى الرغم من أن شمخاني أشاد بالجماعة على صمودها في المعارك ضد الولايات المتحدة، إلا أنه أشار أيضاً إلى أن طهران لن تعترف بأي فصيل أفغاني يستولي على السلطة بالقوة. ولتهدئة هذه المخاوف، عرض برادر مساعدة إيران على تأمين حدودها مع أفغانستان. وأعرب مشارك آخر في اجتماعات كانون الثاني/يناير، وهو وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، عن دعمه لـ “حكومة إسلامية” واسعة في كابول تشمل جميع الأعراق والفروع الدينية.
وبالفعل، يحرص القادة الإيرانيون على حماية المجتمعات المسلمة الشيعية (وبالتالي السيطرة عليها) في أفغانستان، خاصة الآن بعد أن استولت حركة “طالبان” السنية على أول مدينتين شيعيتين لها في محافظة باميان في وقت سابق من هذا الشهر. وعلى الرغم من صعوبة تحديد المعطيات الخاصة بالطائفية في أفغانستان، إلّا أن ما يقدر بنحو 15% إلى 29% من السكان هم من الشيعة (معظمهم من الطائفة الإثنا عشرية التي تهيمن على الجمهورية الإسلامية، ولكن أيضاً بعض الشيعة الإسماعيلية). وتشير الخرئط الإثنوغرافية إلى أن هؤلاء الشيعة يتركزون إلى حد ما في وسط البلاد، وتتواجد جيوب أصغر في الشمال والغرب (خاصة في هرات) والجنوب الغربي.
ولا يمكن استبعاد احتمال حدوث احتكاك نظراً إلى مدى اقتراب إيران و”طالبان” من شن حرب مفتوحة في الماضي. ففي عام 1998، قتلت الحركة ثمانية من عناصر «فيلق القدس» ومراسلاً في القنصلية الإيرانية في مزار الشريف، مما أوشك على أن يقود طهران إلى شن اقتحام عسكري انتقامي. ووفقاً لخطة وضعها قائد «فيلق القدس» الراحل قاسم سليماني بالتعاون مع “التحالف الشمالي” الأفغاني، كان على القوات الإيرانية الاستيلاء على هرات وجرّ موارد “طالبان” إلى هناك، مما يمكّن “التحالف” من الاستيلاء على كابول ثم الارتباط بالإيرانيين في هرات. ووفقاً لما ورد في بعض التقارير، منح المرشد الأعلى علي خامنئي مهلة لسليماني أمدها ثمان وأربعون ساعة لتحقيق هذا الهدف والانسحاب بسرعة، لكن العملية توقفت في النهاية لأسباب مختلفة، شملت مخاوف لوجستية وسياسية.
النوايا والسيناريوهات الإيرانية الحالية
في الوقت الحالي، يبدو أن طهران تدرس ثلاثة خيارات رئيسية لتجنب زعزعة الاستقرار الخطيرة في أفغانستان وتعزيز مصالحها هناك، وهذه الخيارات هي: (1) دعم سيطرة طالبان سراً أو علناً مع التوصل إلى اتفاقيات تكتيكية واستراتيجية مع الحركة من أجل احتواء أنشطتها، أو (2) شن حرب بالوكالة ضد الجماعة أو (3) التدخل مباشرةً.
دعم سيطرة “طالبان”. يرى الكثيرون في إيران أن سيطرة “طالبان” هي الخيار السياسي العملي الوحيد في أفغانستان – أو على الأقل الخيار الوحيد لكسب ود هذه الدولة الإسلامية. وقد يفسر هذا الموقف سبب ظهور الأسلحة الإيرانية منذ زمن طويل عبر الحدود بصورة اعتيادية. وتمت مصادرة العديد من هذه الأسلحة من “طالبان” على مر السنين، ورغم أن طهران قد تكون أو لا تكون مسؤولة عن تزويدها بشكل مباشر، إلا أن بعضها على الأقل يُنسَب إلى حد كبير لتلك الأسلحة التي وَجدت طريقها إلى أيدي الجماعات الشيعية في العراق خلال تمردها بين عامَي 2005 و2011 (على سبيل المثال، المتفجرات الخارقة للدروع التي يطلق عليها طالبان اسم “التنين”).
وتحترم طهران صمود “طالبان”؛ وعلى الرغم من اختلافاتهما الإيديولوجية، إلّا أن لديهما الكثير من القواسم المشتركة، التي تشمل وجهات نظرهما المتطرفة وعدائهما تجاه الولايات المتحدة. ويمكن أن يمهد هذا التقارب الطريق نحو تعاون استراتيجي مستقبلي، شرط أن تكون “طالبان” مستعدة لتقديم ضمانات موثوقة لحماية مصالح الشيعة الأفغان.
ومن دون هذه التفاهمات، تخشى طهران على الأرجح من أن سيطرة “طالبان” الكاملة قد تمنح حرية أكبر للمزيد من العناصر السنية المتطرفة في أفغانستان – وعلى الأخص، يمكن للفصائل السلفية مهاجمة المجتمعات الشيعية علناً، مما يؤدي إلى تدفق كبير للاجئين إلى إيران. ومع ذلك، قد يقرر المسؤولون الإيرانيون ومسؤولي “طالبان” الحد من هذه المخاوف من خلال الحفاظ على عدم التضارب بحكم الأمر الواقع والتعاون على المستوى التكتيكي.
شن حرب بالوكالة. عبر الاستفادة من تجربتها في العراق وسوريا، قد تستخدم طهران بدلاً من ذلك الميليشيات لمنع السيطرة الكاملة لحركة “طالبان”. فإيران تملك أصلاً سلاحاً واحداً فعالاً لهذا السيناريو هو: لواء “الفاطميون” المخضرم، وهي ميليشيا تتكون من مقاتلين أفغان تم تجنيدهم وتدريبهم وتجهيزهم من قبل «فيلق القدس» للقتال في سوريا ابتداءً من عام 2012. ويمكن تصور تشكيل ميليشيات أخرى داخل أفغانستان من خلال تنظيم آلاف السكان المحليين الذين يبحثون بشدة عن عمل من أي نوع كان وتدريبهم. ويُفترَض أن يتم وضع مثل هذه الجماعات تحت قيادة المحاربين القدامى للواء “الفاطميون” وضباط «فيلق القدس» وأسياد الحرب السابقين في “التحالف الشمالي”.
التدخل المباشر. إذا كان هدف إيران هو دعم الحكومة المركزية في أفغانستان، و/أو وضع مظلة واقية للسكان الشيعة، و/أو الحفاظ على الوضع الراهن من خلال منع الانتصار الكامل لحركة “طالبان”، فقد تختار المزيد من العمل العسكري المباشر. على سبيل المثال، يمكن أن تطلق عملية تُركز على الاستيلاء بسرعة على عاصمة المحافظة هرات، وهي معقل تقليدي لإيران. ومع ذلك، فإن أي إجراء مشابه قد يكون مكلفاً للغاية في النهاية، لأنه سيتطلب من إيران إقامة وجود عسكري كبير والاعتماد على خطوط إمداد طويلة وهشة. وعلى الأرجح، سيحاول النظام الإيراني إنشاء منطقة عازلة على الجانب الأفغاني من الحدود وبناء جسور برية إلى المناطق الشيعية، ويُفترض أن يتم ذلك باستخدام وحدات لواء “الفاطميون” المدعومة بمدفعية ثقيلة تابعة لـ «الحرس الثوري الإيراني»، وطائرات مسلحة بدون طيار، وذخائر حائمة، ونيران صواريخ دقيقة.
الخاتمة
قد تكون التحركات العسكرية الإيرانية الأخيرة على الحدود الأفغانية مجرد إجراء دفاعي احترازي؛ وبدلاً من ذلك، يمكن أن تشكل تحضيرات لتنفيذ اقتحام عبر الحدود. يجب أيضاً النظر بجدية في إمكانية أن تتصور طهران تطبيق النموذج السوري أو العراقي في أفغانستان، ربما باستخدام الميليشيات الوكيلة لإنشاء ملاذ آمن للشيعة في محافظة هرات وأماكن أخرى. وبمرور الوقت، يمكن أن تنتج مثل هذه الاستراتيجية قوة عسكرية قوية تدعمها إيران بالتوازي مع قوات الأمن الأفغانية، ويشبه ذلك إلى حد كبير ما حدث مع “الحشد الشعبي” العراقي. لذلك، يجب مراقبة أي عملية نقل لقوات لواء “الفاطميون” من سوريا إلى أفغانستان عن كثب.
من المؤكد أن محاولة توسيع النفوذ الإيراني في أفغانستان قد تسحب الأموال والموارد من العمليات الإقليمية الأخرى للنظام. ومع ذلك، فمن شأنها أيضاً أن تخدم هدف طهران الاستراتيجي المتمثل في أن تصبح قوة مهيمنة إقليمية.
وفيما يتعلق باحتمال شن هجمات على أهداف أمريكية، يمكن للعناصر الإيرانية الاستفادة من الفوضى في أفغانستان من خلال شن عمليات أو رعايتها ضد منشآت السفارة الأمريكية أو الدبلوماسيين الأمريكيين في كابول أو في أي مكان آخر. وسلّطت مجزرة “طالبان” في 13 تموز/يوليو، التي راح ضحيتها 22 من القوات الخاصة الأفغانية التي دربتها الولايات المتحدة في محافظة فارياب، الضوء أيضاً على الحاجة المستمرة إلى الدعم العسكري المباشر. وعلى وجه الخصوص، إن تنفيذ حملة جوية وحملة طائرات بدون طيار بصورة مستمرة، تنطلق من قواعد “القيادة المركزية الأمريكية”، يمكن أن تساعد الجيش الأفغاني على صد قوات “طالبان” في جميع أنحاء البلاد وإضعافها.
.
رابط المصدر:
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/ayran-trkz-ahtmamha-ly-afghanstan