د. محمد عباس ناجي
ربما تكمن أهمية التطورات التي شهدتها إيران خلال عام 2021 فيما ستفرضه من تداعيات على المستويين الداخلي والخارجي في عام 2022. وبمعنى آخر، فإن ما سوف يطرأ على الساحتين الداخلية والخارجية الإيرانية من تحولات في العام الجديد سوف يكون، في القسم الأكبر منه، امتدادًا أو نتيجة مباشرة لما حدث في العام المنقضي.
قد يكون ذلك دارجًا في حالات كثيرة، فالزمن لا يفصل بين الأحداث، لكن في حالة إيران فإنه يكتسب أهمية وزخمًا خاصًا في ضوء متغيرين رئيسيين؛ أولهما: انتخاب رئيس جديد للجمهورية بدأ تولي مقاليد منصبه في 5 أغسطس 2021، وهو “إبراهيم رئيسي” الذي ينتمي إلى تيار المحافظين الأصوليين، ويتبنى توجهات أكثر تشددًا في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية، على نحو بدا جليًا في تشكيل حكومته التي سيطر عليها الأصوليون والقيادات السابقة في الحرس الثوري.
وثانيهما: انخراط إيران في مفاوضات جديدة في فيينا حول الاتفاق النووي مع مجموعة “4+1” (الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وهي المفاوضات التي بدأت بعد ثلاثة أشهر من وصول الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021؛ حيث سعى إلى العودة من جديد إلى الاتفاق النووي، إلا أن هذه المهمة لا تبدو سهلة في ظل تراكم الخلافات وغياب الثقة بين إيران والدول الغربية على نحو أدى في النهاية إلى عدم وصول المفاوضات إلى نتيجة محددة حتى الآن.
اللافت هنا هو أن التحولات المحتملة التي قد تشهدها إيران في العام الجديد، بفعل هذين المتغيرين، بدأت معالمها تظهر تدريجيًا في الأشهر الأخيرة من 2021. فعلى المستوى الداخلي، أدى فوز “رئيسي” بمنصب الرئيس إلى تكريس التغير الذي حدث في توازنات القوى السياسية بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في فبراير 2020، وكانت بداية مرحلة تراجع دور تيار المعتدلين -من الإصلاحيين والمحافظين التقليديين- داخل مراكز صنع القرار في الدولة، في مقابل تصاعد دور تيار المحافظين الأصوليين، ونفوذ الحرس الثوري، في ظل تعيين عدد من قياداته سواء في الحكومة الجديدة، أو في مناصب سياسية واقتصادية بارزة.
وعلى المستوى الإقليمي، تراوحت اتجاهات السياسة الإيرانية بين التهدئة والتصعيد. إذ شهدت العلاقات بين إيران وبعض دول مجلس التعاون الخليجي نوعًا من التحسن، نتيجة تطورات عديدة كان أبرزها انعقاد 4 جولات من الحوار السعودي- الإيراني في بغداد، وتبادل الزيارات عالية المستوى بين المسئولين في إيران والإمارات.
في مقابل ذلك، تصاعدت حدة التوتر في العلاقات مع أذربيجان نتيجة تجدد الاتهامات الإيرانية لباكو بالسماح لإسرائيل بالاقتراب من حدودها، وإن كانت إيران تحاول احتواءه حاليًا، بالتوازي مع استمرار قلقها من تعاظم الحضور التركي في منطقة وسط آسيا والقوقاز، لا سيما بعد تغير موازين القوى في إقليم ناجورني قره باغ لصالح المحور التركي-الأذري.
كما سيطر الترقب على السياسة الإيرانية تجاه التطورات التي تجري على الساحة الأفغانية في مرحلة ما بعد سيطرة حركة “طالبان” على السلطة في منتصف أغسطس الماضي، في ظل حرص الحركة على الاستمرار في الاستفراد بالسلطة واستبعاد المكونات المجتمعية المختلفة منها. وتزايدت الضغوط التي تتعرض لها إيران على الساحة العراقية، نتيجة تحميلها قسمًا من مسئولية ما آلت إليه الأوضاع المعيشية، فضلًا عن تراجع نفوذ حلفائها من القوى السياسية على نحو بدا جليًا في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في 10 أكتوبر 2021.
وعلى المستوى الدولي، تراوحت العلاقات أيضًا بين التوتر والتعاون. إذ أسفرت السياسة الإيرانية عن توتر في العلاقات مع الدول الأوروبية، وتقارب ملحوظ في المواقف الأوروبية والأمريكية تجاهها، على نحو انعكس في المفاوضات التي تجري حاليًا في فيينا. في حين تطورت العلاقات بين إيران وكل من روسيا والصين، خاصة على المستوى الاقتصادي.
ومن دون شك، فإن المسارات المحتملة للمفاوضات التي تجري في فيينا سوف تكون لها تداعيات مباشرة على مجمل تلك التفاعلات خلال العام الجديد. لكن الأهم من ذلك، هو أنه أيًا كان المسار الذي سوف تنتهي إليه هذه المفاوضات، فإن المواجهة غير العلنية بين إيران وإسرائيل سوف تتواصل، باعتبار أن الأخيرة تسعى، في كل الأحوال، إلى “تقييد” قدرات إيران النووية، إن لم يكن تفكيكها، وهو ما لا ترى أنه سوف يتحقق سواء نجحت المفاوضات أو فشلت.
اتجاهات رئيسية في عام 2022
في ضوء ذلك، يمكن تحديد أهم الاتجاهات الرئيسية في السياسة الإيرانية على المستويين الداخلي والخارجي خلال عام 2022، على النحو التالي:
1- تراجع تأثير الاستقطاب الثنائي الداخلي: فرض فوز “إبراهيم رئيسي” بالانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 18 يونيو 2021، تداعيات مباشرة على خريطة القوى السياسية. إذ ساهم في تكريس تراجع نفوذ المعتدلين بشكل كبير، مقابل سيطرة تيار المحافظين الأصوليين والحرس الثوري على معظم مراكز صنع القرار في الدولة، بداية من مجلس الشورى الإسلامي الذي يرأسه القيادي السابق في الحرس الثوري “محمد باقر قاليباف”، مرورًا بالسلطة القضائية التي يتولاها “غلام حسين محسني آجئي”، ومجلسي الخبراء وصيانة الدستور اللذين يرأسهما “أحمد جنتي”، ومجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يقوده “صادق لاريجاني”، وانتهاءً برئاسة الجمهورية التي يتولاها “إبراهيم رئيسي”.
وقد كان لافتًا أن وصول رئيسي إلى منصب الرئيس كاد أن يتسبب في أزمة داخلية، بعد أن اتهمت قوى عديدة مجلس صيانة الدستور بممارسة دور بارز في هذا السياق، عبر استخدام “مقصلة” رفض المرشحين للانتخابات، ومن بينهم مسئولون كبار في النظام على غرار رئيس مجلس الشورى السابق “علي لاريجاني”، والرئيس الأسبق “محمود أحمدي نجاد”، ونائب الرئيس السابق “إسحق جهانجيري”. وبدت مؤشرات هذه الأزمة جلية في تقدم رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام “صادق لاريجاني” (شقيق علي لاريجاني) باستقالته من منصبه كعضو في مجلس صيانة الدستور، في 2 سبتمبر 2021، احتجاجًا على قرار استبعاد الأخير من الانتخابات.
2- انقسام الأصوليين إلى أجنحة متنافسة: ربما يتشابه المشهد السياسي الحالي، إلى حد كبير، مع المشهد الذي تلا فوز الرئيس الأسبق “محمود أحمدي نجاد” بالانتخابات الرئاسية عام 2005، حيث تراجع نفوذ تيار الإصلاحيين لصالح تيار المحافظين الأصوليين الذي سيطر على معظم مراكز صنع القرار قبل أن ينقسم بدوره إلى أكثر من جناح سياسي، وهو ما قد يتكرر في عام 2022. ويعود ذلك إلى أن الخلافات بين القوى التي تنضوي تحت لواء تيار المحافظين الأصوليين قد لا تبدو ثانوية أو يمكن تسويتها بسهولة. وهنا، فإن المتغير الأهم الذي سوف يضبط اتجاهات العلاقات بين تلك القوى هو السياسة التي سوف تتبناها حكومة “رئيسي” على المستويين الداخلي والخارجي خلال المرحلة القادمة.
3- تفاقم حدة الأزمات المعيشية: كان لافتًا أن الأزمات المعيشية في إيران تفاقمت إلى حد كبير خلال عام 2021، حيث اندلعت احتجاجات عديدة في محافظات إيرانية مختلفة، في الفترة من يوليو وحتى ديسمبر من هذا العام، نتيجة انقطاع الكهرباء في شهور الصيف، فضلًا عن نقص المياه العذبة على خلفية تصاعد تأثير ظواهر الجفاف والتصحر وارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب تدني الرواتب مقابل ارتفاع مستوى التضخم. وربما يمكن القول إن هذه الظاهرة رغم طابعها الداخلي المعيشي، كان لها من البداية بعد خارجي.
فمن ناحية، تعمد بعض قيادات النظام الترويج لوجود “أيادٍ خارجية” تسعى إلى تأجيج هذه الاحتجاجات لتقويض دعائمه. ومن ناحية ثانية، فإن استمرار هذه الاحتجاجات يفرض متغيرًا ضاغطًا على القيادة الإيرانية يدفع في اتجاه الوصول إلى صفقة جديدة حول الاتفاق النووي تقضي برفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وتمكن الأخيرة من تصدير النفط والحصول على عوائده نقدًا، فضلًا عن رفع الحظر عن أموالها المجمدة في الخارج. وقد انعكس ذلك بشكل واضح في تصريحات وزير الخارجية “أمير حسين عبد اللهيان”، في 27 ديسمبر 2021، بالتوازي مع انعقاد الجولة الثامنة من مفاوضات فيينا، والتي قال فيها إن “الأهم بالنسبة إلينا هو الوصول إلى نقطة يمكننا من خلالها التحقق من أن النفط الإيراني سيباع بسهولة ومن دون أي حدود، وأن الأموال لقاء هذا النفط ستحول بالعملات الأجنبية إلى حسابات مصرفية تابعة لإيران، وأنه سيمكننا الاستفادة من كل العوائد الاقتصادية في قطاعات مختلفة”.
4- تحسن “مشروط” في العلاقات مع دول الجوار: سعت حكومة “رئيسي” إلى ترجمة تطلعاتها الخاصة بتطوير العلاقات مع دول الجوار إلى خطوات إجرائية على الأرض، وقد بدا ذلك جليًا في انعقاد أربع جولات من المفاوضات مع السعودية في العراق، وإن كان الجدل حول وفاة السفير الإيراني لدى حركة الحوثيين “حسن إيرلو” في 20 ديسمبر 2021 قد فرض غموضًا على مستقبل هذه المحادثات بعد أن وجهت إيران انتقادات للسلطات السعودية بالمماطلة في نقله إلى إيران، بالتوازي مع الانتقادات التي بدأ التحالف العربي يوجهها إلى إيران وحزب الله، في 26 من الشهر نفسه، بمواصلة تقديم الدعم إلى الحوثيين. كما انعكس ذلك في فتح قنوات تواصل مع الإمارات، حيث قام مساعد وزير الخارجية الإيراني “علي باقري كني” بزيارة دبى في 24 نوفمبر 2021، فيما قام مستشار الأمن الوطني الإماراتي “طحنون بن زايد” بزيارة طهران في 6 ديسمبر من العام نفسه.
كما حاولت إيران احتواء التوتر الذي تصاعد مع أذربيجان مع الاتهامات التي وجهتها الأولى للثانية بالسماح لإسرائيل بالاقتراب من حدودها، وسعت إلى تطوير علاقاتها مع تركيا -التي تأثرت بدورها بالخلافات مع أذربيجان- حيث تستعد طهران لاستقبال الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في الفترة المقبلة.
لكن الاتجاهات المحتملة لهذه العلاقات سوف تتأثر في مجملها بنتائج مفاوضات فيينا، بما يعني أن استمرار هذا التحسن في العلاقات سوف يكون مشروطًا بالوصول إلى صفقة، خاصة أن فشل المفاوضات سوف ينتج في النهاية مفاعيل عكسية سوف تؤثر بدورها على “حدود” هذا التحسن في العام الجديد.
ولا ينفصل ذلك أيضًا عن اتجاهات العلاقات بين إيران والعراق، والتي تكتسب خصوصية لا يمكن تجاهلها، في ظل نفوذ طهران داخل العراق، والذي يتعرض بدوره لتحديات عديدة بدت جلية فيما كشفت عنه نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 10 أكتوبر 2021، من معطيات جديدة، بعد أن تراجعت حصص القوى الموالية لها -باستثناء ائتلاف دولة القانون- في البرلمان الجديد، ولم ينجح تحركها للطعن في نتائج الانتخابات أمام المحكمة الاتحادية التي أعلنت، في 27 ديسمبر 2021، “رفض طلب المدعين إصدار أمر ولائي لإيقاف إجراءات المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات” وأن “الحكم بات ملزمًا للسلطات كافة”. وتسعى إيران إلى ضمان استمرار حلفائها في السلطة، خاصةً في ظل الترتيبات الأمنية الجديدة التي سوف يشهدها العراق في العام الجديد، لا سيما مع انتهاء العمليات القتالية للتحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، في 9 ديسمبر 2021، وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن الإبقاء على 2500 جندي أمريكي لتقديم الاستشارات والدعم اللوجيستي للقوات العراقية في الحرب ضد الإرهاب.
5- غياب الثقة في العلاقات مع الدول الغربية: لا يبدو أن التوتر سوف يتراجع كسمة رئيسية في العلاقات بين إيران والدول الغربية خلال عام 2022، أيًا كانت نتائج المفاوضات التي تتم في فيينا. ويعود ذلك إلى اعتبارات رئيسية ثلاثة: أولها، أن إيران لا تبدي ثقة كبيرة في إمكانية التزام الولايات المتحدة الأمريكية بأى صفقة جديدة قد تنتهي إليها المفاوضات. وبمعنى أدق، فإنها لا تستبعد أن تتخذ أي إدارة أمريكية أخرى قرارًا مشابهًا بالانسحاب مجددًا من الاتفاق.
وثانيها، أن إيران لم تعد تُعوِّل على علاقاتها مع الدول الأوروبية بعد أن اتهمت الأخيرة بالتراجع عن تنفيذ تعهداتها في الاتفاق ولم تساعدها في احتواء تأثير العقوبات الأمريكية. وثالثها، أن هناك خلافات أخرى لا تقل أهمية عن الخلاف الحالي حول الاتفاق النووي، ولا سيما ما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية واتهامات دعم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان ومزدوجي الجنسية. وقد تصاعدت هذه الخلافات بعد أن تعمدت إيران إطلاق 16 صاروخًا باليستيًا خلال مناورات “الرسول الأعظم 17” التي أجريت في الفترة من 20 إلى 24 ديسمبر 2021، حيث نددت بريطانيا بهذه الخطوة، معتبرة أنها تخالف قرار مجلس الأمن رقم 2231 الخاص بالاتفاق النووي.
تعويل على العلاقات مع روسيا والصين: سوف يدفع غياب الثقة في العلاقات بين إيران والدول الغربية الأولى إلى التعويل على علاقاتها مع كل من روسيا والصين. فقد أبرمت مع الصين اتفاقية التعاون الاستراتيجي التي تصل مدتها إلى 25 عامًا، في 27 مارس 2021، تساهم في توسيع نطاق العلاقات الثنائية لتشمل مجالات النفط والنقل والبنية التحتية وغيرها. في حين تستعد إيران لإجراء مفاوضات مع روسيا لتوقيع اتفاقية تعاون استراتيجي لمدة 20 عامًا، بحسب ما أكده المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية “سعيد خطيب زاده” في 12 ديسمبر 2021.
مجمل القول، إن 2022 قد يكون عامًا فارقًا بالنسبة لإيران. فعلى المستوى الداخلي، لا يبدو أن الحكومة الحالية “الثالثة عشرة” استطاعت الوصول إلى إجراءات فعَّالة للتعامل مع الأزمات المعيشية الحادة التي تتجدد باستمرار. وربما تستمر الاحتجاجات عنوانًا رئيسيًا في التفاعلات الداخلية الإيرانية في حالة ما إذا لم ترفع العقوبات وتواصل إيران عمليات تصدير النفط وتحصل على عوائده نقدًا.
ورغم أنها تُعوِّل في الموازنة الجديدة (للعام المالي الذي سيبدأ في 21 مارس 2022) التي قدمها الرئيس “رئيسي” إلى مجلس الشورى لإقرارها، في 13 ديسمبر 2021، على تصدير نحو 1.2 مليون برميل نفط يوميًا بسعر متوقع يبلغ 60 دولارًا للبرميل؛ فإن ذلك يبقى طموحًا غير مضمون، في حالة ما إذا فشلت المفاوضات رغم أن إيران أثبتت قدرتها على الالتفاف على العقوبات في الفترة الماضية. ويبقى السؤال الأصعب في إيران بلا إجابة حتى الآن عمَّن سيخلف المرشد “علي خامنئي” في منصبه في حالة غيابه عن المشهد السياسي.
أما على المستوى الخارجي، فإن نتائج مفاوضات فيينا سوف تفرض في النهاية تأثيرات مباشرة على اتجاهات علاقات إيران الخارجية، سواء في اتجاه تصعيد حدة التوتر، أو في اتجاه تعزيز أواصر التعاون، حسب رؤية كل دولة لتأثير ذلك على مصالحها وموقعها من التوازنات الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة.
.
رابط المصدر: