- على رغم الصعوبات التي تواجه إيران في التواصل غير الرسمي مع الإدارة الأمريكية، فإنّ الحراك الدبلوماسي على هامش قمة الأمم المتحدة الأخيرة في نيويورك، يشير إلى رغبة طهران في تفعيل القنوات التي تمتلك علاقات مع واشنطن.
- تُحاول حكومة مسعود بزشكيان استغلال الشُّهور الثلاثة المقبلة، لإبرام “خطة عمل”، أو على الأقل تأسيس “منصّة عمل”، بحيث يجري البناء عليها إذا كانت الإدارة الجديدة ديمقراطية، أو الاستناد إليها في عرقلة مسار التصعيد الأمريكي المحتمل في حال صعود ترمب.
- عملية الحوار المفترضة بين طهران وواشنطن، لن تكون محدودة بالملف النووي كما يرغب الجانب الإيراني، بل تتجاوزه لتتضمن ملفات أخرى، أهمها: التوسع الإقليمي، وحدود التعاون مع روسيا، وبرنامج الصواريخ والمسيرات.
اعتبرت الصحافة الإيرانية زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى نيويورك لحضور قمة الأمم المتحدة محطّة أولى نحو تصحيح المسار في العلاقات الإيرانية مع المجتمع الدولي، وعلّقت عليها آمالاً كبيرة. ورافق الرئيس الإيراني عددٌ من الشّخصيات، على رأسهم مساعده للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف.
وكان وزير الخارجية، عباس عراقجي، قد وصل إلى نيويورك قبل أيام من زيارة بزشكيان، وأعلن من هناك أنه يسعى إلى إعادة فتح باب المفاوضات مع المجموعة الدولية، وإنعاش الاتفاق النووي، مؤكداً أنّ إيران تُرحّب بالدبلوماسيّة.
حكومة بزشكيان، ومحاولة “إدارة العُقْدة الأمريكية”
على الرغم من أنّ زيارة بزشكيان جاءت في سياق قمة الأمم المتحدة، ولم تتخللها لقاءات رسمية مع الأمريكيين، فإنَّها حظيت بأهمية كبيرة؛ فالرئيس الإيراني – ووفده المرافق– التقوا عدّة وسائل إعلام أمريكية، لتقديم ما يوصف بالصورة الصحيحة عن إيران للمجتمع الدولي والأمريكي.
ويُعتبر ملف العلاقات الإيرانية الأمريكية من أهم الملفات الدولية المطروحة على طاولة الحكومة الجديدة. وأكّدت الإدارة الإيرانية الجديدة أنها تسعى إلى “إدارة الخلافات بين البلدين”، ومنع تحولها إلى مصدر أزمات متتالية لإيران، على غرار ما حدث في خلال الأعوام الفائتة من دون أن أن يعني ذلك بالضرورة، عودة العلاقات المقطوعة بين البلدين منذ 1979.
وربّما تحاول الحكومة الإيرانية الجديدة فتح باب حوار خلفي مع الأمريكيين، ويؤكد محللون أنها بصدد إعادة تفعيل “الباب العُماني”، وتعمل على تنشيط قنوات اتصال غير رسمية، عبر لوبيّات تمتلكها في الولايات المتحدة. وعلى رغم الصعوبات التي تواجهها إيران في التواصل غير الرسمي مع الإدارة الأمريكية بعد غياب روب مالي، فإنّ الحراك الدبلوماسي على هامش قمة نيويورك، يشير إلى رغبة في تفعيل القنوات التي تمتلك علاقات مع الإدارة الأمريكية.
ويحظى ملف العلاقات مع الولايات المتحدة بأهمية مضاعفة بحكم العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وتأثيرها الاقتصادي. وهناك تقييم في طهران بأن تحسين العلاقات مع الأطراف الأوروبية أيضاً متعثّر بسبب تلك العقوبات التي فرضتها الإدارة الجمهورية في مايو 2018، والتزمت بها الإدارة الديمقراطية؛ لذلك فإن أي محاولة للتسوية ينبغي أن تمر عبر البوابة الأمريكية. ويمكن القول: إن السياسة الخارجية الإيرانية، خصوصاً في الحكومات التي يشكلها غير المحافظين تتمحور حول “العُقدة الأمريكية”، ولا يمكن تخيل أية حلول لملفاتها من دون معالجة هذه العقدة.
وتكتسي زيارة الرئيس الإيراني والوفد المرافق له إلى نيويورك أهمية، لأنها تأتي في الدقائق الأخيرة من عُمر إدارة بايدن، المنخرطة في سباق رئاسي تنافِسُ فيه المرشح الجمهوري ترمب. وترى الإدارة الإيرانية الحالية أن الشهرين المقبلين فرصة لتحريك الساحة قبل الانتخابات الرئاسية. ورغم وعيها بأن حكومة بايدن في المرحلة الراهنة تشبه حكومة تصريف أعمال، فإن الوجوه الدبلوماسية في حكومة بزشكيان تعتقد أن فرصة تحريك المياه، وتهدئة التوتر بين البلدين، تبدو مواتية لبلورة واقع جديد، يُستكمل في إدارة ديمقراطية جديدة تقودها المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس، أو على الأقلّ، يعيق جهود الضغط على طهران في إدارة جمهورية محتملة أيضاً، إن لم يكن سبباً في إقناع ترمب بتغيير المسار.
أهمّ الملفات على الطاولة الإيرانية – الأمريكية
في ظل العزلة التي تعيشها إيران، والأزمة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، اعتبرت الحكومة الإيرانية الجديدة، زيارة بزشكيان فرصة ذهبية لتحريك المياه الراكدة، وبدء مسار رأب الصدع مع المجموعة الغربية. وتحدث بزشكيان في أول مؤتمر صحافي له عن الإخاء بين إيران والولايات المتحدة، شريطة أن تظهر واشنطن بوادر لحسن النية. وقال عراقجي: إن طهران مستعدة لفتح باب المفاوضات بشأن الملف النووي، وفض الخلافات مع المجموعة الغربية الآن.
لقد شكَّل الملف النووي الإيراني على مدى العقدين الماضيين، العمود الفقري للحوار الأمريكي – الغربي مع إيران، وتظهر التلميحات الإيرانية والأمريكية على حد سواء أن البرنامج النووي الإيراني سيكون نقطة الانطلاق لأية مفاوضات محتملة. كما أن الواقع النووي الذي تعيشه إيران اليوم، والذي يختلف في الأرقام والحصيلة عن نقطة بداية المفاوضات النووية في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين سيحوله على الأرجح إلى موضوع جديدٍ مُختلفٍ كليّاً، ويجب بحثه من نقطة الصفر.
ومن الواضح أن عملية الحوار المفترضة بين طهران وواشنطن، لن تكون محدودة بالملف النووي كما يرغب الجانب الإيراني، بل تتجاوزه هذه المرة لتتضمن ملفات أخرى:
- ملف التوسع الإقليمي، ويقع على رأس أجندة أي مفاوضات مفترضة بين طهران وواشنطن؛ إذْ تستخدمه طهران منذ أكثر من عقدين، ليتحول إلى أهمّ الملفات الإقليميّة غداة انخراط شبكة الميليشيات الموالية لإيران في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل. ولا يمكن التوصل إلى توافق اليوم مع إيران من دون معالجة التمدُّد الإيراني في المنطقة، وحرب الوكالة التي تمارسها طهران مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة عبر الميليشيات العقائدية.
- ملف الدعم الروسي. تتسارع المخاوف الغربية في ظل التعاون الإيراني-الروسي، ودعم إيران لروسيا في حربها ضد أوكرانيا. إذ ترى الولايات المتحدة وبروكسل في هذا الصراع تهديداً وجودياً، وتشكك في عدم تورط إيران المباشر عبر تقديم الدعم لموسكو، بما في ذلك توفير الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية. وعلى الرغم من نفي إيران الرسمي، فإن هذا التعاون جعل الغرب يصنف إيران ضمن الدول التي تشكل تهديداً وجودياً؛ ما دفع إلى فرض حزم متكررة من العقوبات على طهران. ويُعتبر هذا التعاون الإيراني-الروسي جزءاً من مسار أوسع من التنسيق بين طهران وموسكو، ممّا يثير قلق الغرب، لاسيما الولايات المتحدة، من إمكانية أن يؤدي ذلك إلى تغيير موازين القوى الإقليمية والدولية بشكل قد يخل بالاستقرار الحالي. ومن هنا، يجب فهم هذه التطورات ضمن إطار توجس الإدارة الأمريكية من تداعيات التقارب الإيراني مع كل من الصين وروسيا في سياق استراتيجيتها للتحول نحو الشرق، وما يمكن أن ينجم عنه من تأثيرات على النفوذ الأمريكي في المنطقة والعالم.
- البرنامج الإيراني للصواريخ والمسيرات. يظل الموضوع الملح على أي طاولة حوار مفترضة بين طهران وواشنطن، حيث يُثير قلق الأطراف الإقليمية التي ترى في المسيرات والصواريخ الباليستية الإيرانية خطراً مُلِحّاً، وخصوصاً في ضوء التجربة الإيرانية في تقديم المسيرات والصواريخ إلى الميليشيات الموالية لها، وإلى أطراف مختلفة في حروب أهلية في أكثر من منطقة.
معوقات تقدُّم المفاوضات الإيرانية – الأمريكية
هناك العديد من العقبات التي تعترض سبيل أي حوار بين البلدين:
1. الخلاف حول نطاق الحوار؛ حيثُ تفضل إيران أن يكون الحوار مُقتصراً على الملف النووي أو على الأقلّ أنْ يبدأ من هذا الملف، بينما تُظهر الولايات المتحدة، حتى في ظل الإدارة الديمقراطية، رغبتها في جعل الحوار أكثر شمولاً.
2. “من يبدأ بالخطوة الأولى؟” يُمثِّل هذا السؤال عقبة عملياتيّة مهمة؛ فحتى إذا كان الجانبين مقتنعان بضرورة بدء الحوار، فإن كل طرف ينتظر أن يرى حسن النية من الطرف الآخر. وكان ذلك واضحاً في خلال حديث بزشكيان الذي طالب بإبداء بوادر حسن نوايا، تتمثل في خفض العقوبات لبدء الحوار، بينما رد عليه الجانب الأمريكي بأن طهران هي من عليها أن تُظهر حسن النية، وتتخذ خطوات ميدانية.
3. نطاق صلاحيّات الحكومة الإيرانية الحالية، ولعلّها العقبة الأهم؛ إذ لا تمتلك حكومة بزشكيان الصلاحيّات اللازمة لإنجاح أو إثمار أي حوار مفترض بين طهران وواشنطن. وعلى الرغم من أنّ المعطيات تُشير إلى أنّ حكومة بزشكيان ربما حصلت على مباركة من القائد الإيراني الأعلى لخوض المفاوضات، فإن ذلك لا يعني أن “الحرس الثوري” الذي تضعه واشنطن على قائمة الإرهاب، سوف ينصاع لرغبة المفاوضات، أو يقبل بالتنازلات الناتجة عنها.
4. الموقف الروسي؛ فروسيا تبدو غير راضية تماماً من احتمال ابتعاد إيران عن محورها التقليدي، في ظل حكومة تتزايد فيها الوجوه التي تميل إلى تفضيل الغرب على الشرق. وتُظهر التجارب التاريخية كيف أن روسيا عرقلت في عدة مناسبات عملية التقارب الإيراني الغربي، إذ تمتلك العديد من أوراق الضغط على القرار الإيراني إذا اعتبرته غير متوافق مع مصالحها.
5. العاملان الإسرائيلي والأوروبي؛ من المرجّح أن تشن إسرائيل حملة للحؤول دون انخراط كل من طهران وواشنطن في مسار تقارب ورأب صدع. كما لا يبدو غريباً أن تقوم الترويكا الأوروبية بوضع عقبات على مسار التفاوض الإيراني-الأمريكي.
ملامح المرحلة المقبلة
على الرغم من كلّ العقبات المذكورة آنفاً، لن تتوقّف المحاولات الإيرانية والأمريكية لفتح ثغرة في جدار الملفّات الخلافيّة، وليس من المستبعد أنْ تنجح تلك المحاولات في تحقيق بعض الأهداف. ومن منطلق القلق الإيراني من تداعيات الصعود المحتمل لإدارة جمهورية بزعامة ترمب، فإن الفريق الدبلوماسي الإيراني يحاول استغلال الفرصة المتبقية من ولاية بايدن لإيجاد منفذٍ إلى الحوار مع الأخذ بالحسبان المعطيات الواقعية الآتية:
- لا تنوي طهران -على الأرجح- فضّ الخلافات مع واشنطن، بمقدار ما ترغبُ بـ “إدارة التوتر” معها. وهذا هو المبدأ الذي أكّده وزير الخارجية الإيراني الجديد في أكثر من حديث له. وهو ناجم عن رؤية واقعية تأخذ محدوديات الحكومة الإيرانية على الصعيد الداخلي، كما تأخذ بالحسبان العقبات الميدانية التي تحول دون “التطبيع الإيراني – الأمريكي”.
- تُحاول حكومة بزشكيان استغلال الشُّهور الثلاثة المقبلة، من أجل إبرام “خطة عمل”، أو على الأقل تأسيس “منصّة عمل” (عنوان لطاولة حوار)، يمكن استثمارها في الإدارة الأمريكية المقبلة، بحيث يجري البناء عليها إذا كانت الإدارة الجديدة ديمقراطية، أو الاستناد إليها في عرقلة مسار التصعيد الأمريكي المحتمل في حال صعود ترمب.
- يبدو وارداً جداً أن تقوم طهران وواشنطن بتفعيل قنوات تواصلها الحصريّة في خلال الشهور الثلاثة المقبلة؛ سواء من طريق القناة العُمانية، أو عبر تفعيل اللوبيّات، وقنوات التأثير التي يمتلكها فريق ظريف في واشنطن.
- تعتزم الحكومة الإيرانية الجديدة استغلال محاولات إطلاق الحوار مع الولايات المتحدة، في سبيل تحسين المؤشرات الاقتصادية؛ إذ تسعى طهران للحصول على إجراءات حسن نية من الجانب الأمريكي، تتمثل على الأغلب في إلغاء بعض العقوبات، أو التهاون في تطبيقها، أو التعاون في الحصول على بعض الأرصدة المجمَّدة. ويُعدُّ مثل هذا النجاح ضروريّاً في المرحلة الراهنة لحكومة بزشكيان التي تحتاج إلى تقديم مؤشرات إيجابية لضبط الشارع وخفض امتعاضه.
السيناريوهات
وعَدَ مسعود بزشكيان الإيرانيين في خلال حملته الانتخابيّة بالانفتاح على العالم، والعمل على إنهاء العُقوبات، وإحياء الاتفاق النووي، وتحسين العلاقات مع المجموعة الدوليّة؛ وكلُّ ذلك من أجل تحسين الوضع الاقتصادي الإيراني. لكنّ المعطيات، تُشيرُ إلى وجودِ عقباتٍ عديدةٍ تَحولُ دون تطبيق هذه الوُعود، ما يدفعُ إلى الاعتقادِ بأنّنا سنكون بإزاء احتمالاتٍ أقلّ تفاؤلاً. ويمكن في هذا الإطار رسم ثلاثة سيناريوهات مُمكِنَة:
السيناريو الأول: التمهيد لمفاوضات أشمل. ويفترض أنْ تشهد الشهور المقبلة انطلاق مسارٍ لإعادة الأمور إلى نصابها، والتمهيد لمفاوضات أشمل تؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى فض الخلافات أو جزء لافت منها بين إيران والولايات المتحدة. وتشير المعطيات إلى أن القائد الإيراني الأعلى منح الحكومة الجديدة بعض الصلاحيات اللازمة لخوض مفاوضات حول ملفات بعينها، وضرورة توصل إيران إلى توافق مع إدارة ديمقراطية منفتحة لدرء مفاسد مواجهة إدارة جمهورية محافظة، وتحسين المؤشرات الاقتصادية لخفض السخط الاجتماعي المتنامي. غير أن هذا السيناريو يواجه عقبات عدة أُشير إليها سابقاً، سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الإقليمي والدولي، مما يجعله احتمالاً صعباً ومستبعداً في خلال الفترة القصيرة المقبلة دون أن يكون مستبعداً تماماً.
السيناريو الثاني: الانفتاح المحدود. يفترض هذا السيناريو أن تلجأ طهران إلى انفتاح محدود حيال واشنطن، مقابل انفتاح أمريكي مقابل، ومحدود أيضاً. وذلك في سياق إدارة التوتر بين البلدين من جهة، والحصول على امتيازات من شأنها أن تساعد الحكومة في أدائها الاقتصادي. وهو السيناريو الذي تفضله الشخصيات المؤثرة في حكومة بزشكيان، وعلى رأسهم وزير الخارجية الجديد من منطلقات واقعية. لكن هذا السيناريو سيواجه عقبات منها عدم التزام “الحرس الثوري” أو روسيا ببرنامج إدارة التوتر الذي تنوي الحكومة الجديدة تطبيقه.
السيناريو الثالث: منصّة حوار جديدة. يفترض هذا السيناريو أن تقوم الحكومة الإيرانية الجديدة بالتنسيق مع القائد الإيراني الأعلى بفتح منصّة حوار جديدة مع الولايات المتحدة على وجه التحديد، ومع الغرب بشكل عام، وأن توضع ملفات عدة على هذه الطاولة من دون أن يعني ذلك وصول الطرفين إلى نتيجة بشأن الملفات. ويخدم هذا السيناريو الجانب الإيراني من طريق العمل على خفض الضغط الأمريكي، وتخفيف وتيرة العقوبات، والحصول على امتيازات في سياق التنازل الجزئي وإعادة ترتيب الأوراق. وتفضّل الدولة العميقة في إيران إطلاق منصّة الحوار الجديدة لكسب مساحة مناورة، والحصول على بعض الامتيازات الاقتصادية، والوقت لمتابعة مشاريعها. إلا أن هذا السيناريو قد يرتطم بالرفض الأمريكي والضغوط الإقليمية والدولية.