نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية مقالاً بعنوان: “الطموح اللامحدود لدول الخليج لتغيير العالم”، حيث ترى المجلة البريطانية أن الدول الخليجية الآن تريد تصدير نموذجها الخاص برغم المخاطر الجسيمة التي تواجهها المنطقة. وتقول الإيكونوميست إن دول الخليج تنفق “حوالي 5 تريليون دولار من ثروة الوقود الأحفوري على كل شيء، بدءاً من نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية والمدن الجديدة التي تتلألأ في الصحراء، إلى ملء خزائن صناديق الثروة السيادية العملاقة التي تجوب أسواق رأس المال العالمية بحثاً عن الصفقات”.
وجاء المقال على النحو التالي:
إذا كنت تعتقد أن الشرق الأوسط يعاني من الركود، فإن عليك أن تُعيد التفكير مرة أخرى. حيث تُعد اقتصادات الخليج من بين أغنى الاقتصادات وأكثرها حيوية على وجه هذا الكوكب، مدعومة بأسعار نفط متصاعدة ، حيث ارتفع سعر النفط الخام برنت من جديد إلى أكثر من 90 دولاراً للبرميل هذا الأسبوع. ويتم إنفاق 3.5 تريليون دولار من ثروة الوقود الأحفوري على كل شيء، بدءاً من نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية والمدن الجديدة المتلألئة في الصحراء، إلى ملء خزائن صناديق الثروة السيادية العملاقة التي تجوب أسواق رأس المال العالمية بحثاً عن الصفقات.
ومع تدفق الأموال النقدية، تنحسر مؤشرات الفوضى، وذلك بفضل أكبر موجة من الأنشطة الدبلوماسية منذ عقود في المنطقة. فقد تفاوضت المملكة العربية السعودية وإيران على تحقيق انفراجة في العلاقات بينهما ووضع حد للعداء الذي استمر منذ الثورة الإيرانية في عام 1979. وفي نفس الوقت، تقل أعداد القتلى في الحروب الأهلية الدائرة في سوريا واليمن، حيث يسعى رعاة تلك الحروب إلى وقف التصعيد. وفي أعقاب اتفاقات أبراهام بين إسرائيل وبعض الحكومات العربية، تدرس السعودية حالياً الاعتراف بالدولة اليهودية، بعد 75 عاماً من إنشائها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن النفوذ العالمي للمنطقة آخذ في الارتفاع، حيث توشك أربع دول من دول المنطقة على الانضمام إلى تكتل “بريكس” الذي يضم قوى من دول عدم الانحياز التي تريد عالماً أقل هيمنة من الغرب.
وكما يوضح تقرير إيكونوميست الموجز، بعنوان: ” دول الخليج تريد إعادة تشكيل الشرق الأوسط على طريقتها”، فإن هذه التحولات تبدأ فصلاً جديداً في الشرق الأوسط يتميز بوجود فرص ومخاطر جديدة. ويفحص زعماء المنطقة أفكاراً انتشرت مؤخراً في كثير من أنحاء العالم، بما في ذلك تبني البراجماتية الاستبدادية كبديل للديمقراطية، والدبلوماسية المتعددة الأقطاب بدلاً من النظام الذي قادته الولايات المتحدة بعد عام 1945. وتُعد منطقة الشرق الأوسط أيضاً مكاناً قد تظهر فيه التهديدات والتحديات التي ستتهدد العالم في في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن الحالي، بما في ذلك الانتشار النووي، والطقس شديد التطرف، وحتى المزيد من عدم المساواة، مع تخلف الدول الضعيفة بشكل أكبر، بعيداًعن الركب.
لقد ترك العديد من شاغلي البيت الأبيض (رؤساء الولايات المتحدة) مناصبهم متمنين أن ينسوا كل شيء عن الشرق الأوسط. ولكن سواء كنت تقود قوة عظمى أو تدير شركة صغيرة، فإن هذا الأمر أصبح مهماً أكثر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من أن عدد سكان منطقة الشرق الأوسط لا يتجاوز 6% من سكان العالم، إلا أنها تسيطر على الاقتصاد العالمي. وباعتبار دول الخليج هي مُنتجة النفط الأقل تكلفة، فإن حصتها من صادرات النفط الخام تبلغ 46% وهي في ارتفاع مستمر. وتبلغ حصتها من صادرات الغاز الطبيعي المسال، والتي تشهد طلباً كبيراً منذ إغلاق خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا، 30% وهي في ارتفاع مستمر كذلك. وبفضل موقعها (الاستراتيجي)، يمر عبر المنطقة 30% من إجمالي تجارة الحاويات و16% من إجمالي الشحن الجوي. ومع استحواذها على أصول تبلغ قيمتها ثلاثة تريليونات دولار، تعد صناديق ثروتها السيادية من بين أكبر الصناديق في العالم. وكثيراً ما تمتد الحروب والفوضى التي تندلع فيها عبر الحدود؛ ويؤثر لاجئوها على السياسة في أماكن بعيدة مثل أوروبا.
لقد بدا أن البؤس يعم منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين ولا يزال. حيث انتهت المشاريع الديمقراطية بالفشل وسفك الدماء، سواء في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، أو في العديد من دول المنطقة بعد ثورات الربيع العربي التي اندلعت في عام 2011. أو عمليات القتل التي صاحبت مساعي تنظيم الدولة (داعش) إلى إقامة ما أسماه بـ “الخلافة”، بينما خنق بشار الأسد شعبه باستخدام غاز الكلور والأعصاب.
أمّا الآن، ومع انحسار القتال، فقد ظهرت ثلاثة تغييرات كبيرة في المنطقة:
أولاً، أصبح يتعين على المنطقة أن تتحمل المزيد من المسؤولية عن الحفاظ على أمنها، بعد أن تلاشت رغبة الولايات المتحدة للتدخل عسكرياً هناك. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أصبحت أنماط التجارة متعددة الأقطاب: إذ يعتقد صندوق النقد الدولي أن 26% من صادرات السلع في الشرق الأوسط تذهب إلى الصين والهند، وهو ما يقارب ضعف مستوى تلك الصادرات في عام 2000، وحوالي ضعف الحصّة التي تتجه إلى الولايات المتحدة وأوروبا. وفي الآونة الأخيرة، أدت عملية إعادة التموضع الجيوسياسي هذه إلى شيوع الرغبة في تهدئة الصراعات.
ثانياً، يؤدي تحول الطاقة إلى خلق حاجة ملحة للهروب من النمط المألوف المتمثل في فترات ازدهار النفط وكساده. وبدلاً من ذلك، فهناك حافز قوي لدى دول الخليج لرفع إنتاج الوقود الأحفوري في العقد المقبل قبل أن يتضاءل الطلب عليه بشكل دائم، وإنفاق العائدات من ذلك على تنويع الاقتصادات المحلية.
ثالثاً، التحول الأخير هو شيوع حالة سأم في الرأي العام بالمنطقة. فالتجارب السياسية، سواء كانت ديمقراطية أو إسلامية، قد تم تشويهها. وبدلاً من ذلك، أصبح الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط يتطلعون إلى الفرص الاقتصادية. وتُظهر استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها في المنطقة، وليس في كندا أو السويد، أن الدولة التي يعرب الشباب العرب عن إعجابهم بها أكثر من أي دولة أخرى هي دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تتمتع بالاستقرار وازدهار الاقتصاد في ظل حكم أسرة حاكمة تقود البلاد بقبضة حديدية. وفي الوقت ذاته، فإن تراجع التدخل الغربي في مسائل الأمن والتجارة يعني أيضاً ممارسة ضغوط أقل حول قضايا حقوق الإنسان أو الديمقراطية.
وتثير بعض التغييرات في المنطقة السخرية – فكر في أحد مشروعات الزهو والخيلاء مثل مشروع “نيوم”، وهي مشروع مدينة جديدة مبهرجة يتم بناؤها بتكلفة تقدر بنحو 500 مليار دولار من قبل (ولي العهد السعودي) محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية. لكن هناك تغييرات أخرى دائمة ومعمّقة. حيث ارتفعت نسبة العمالة بين النساء في الخليج. وأصبخ السياح الإسرائيليون يتدفقون على دبي. وفي جميع أنحاء المنطقة، أصبح الاقتصاد غير النفطي ينمو بمعدل سنوي صحي يبلغ 4%، كما أن الاستثمارات متعددة الجنسيات العابرة للحدود آخذة في الارتفاع. ومن الممكن أن نتصور كيف قد تؤدي دورة فعّالة من الاستقرار والسلام إلى المزيد من الاستثمار والتجارة التي تعمل على رفع مستويات المعيشة وتوسيع نطاق الرخاء، وعكس اتجاه دوامة طويلة الأمد من الفشل في جزء من العالم يسكنه نحو 500 مليون نسمة.
ولكن لتحقيق ذلك، سيتعين على منطقة الشرق الأوسط التغلب على بعض المشكلات الكبيرة. والعديد من هذه المشكلات مألوفة. ويزعم الحكام المستبدون الأكثر استنارة في المنطقة أنهم يواجهون بالفعل نوعاً من “المساءلة عن الأداء” لتحسين أحوال شعوبهم؛ بينما أنظمة الحكم المطلق تتجه نحو الاضمحلال. وهناك مخاطر أخرى جديدة، أو بالأحرى، تلوح في الأفق مخاطر أخرى بشكل أكثر خطورة من أي وقت مضى. فالآن، وبعد أن أصبحت إيران على وشك التحول إلى دولة مسلحة نووياً، فقد أصبح انتشار الأسلحة النووية مصدراً للقلق الشديد. ويعني تغير المناخ أن أحد أكثر الأماكن في درجات الحرارة والجفاف على مستوى العالم أصبحت تواجه طقساً أكثر تطرفاً. ولا تستطيع سوى بعض البلدان تحمل تكاليف الاستثمارات، مثل المدن المعاد تصميمها ومشاريع تحلية المياه، التي تحتاجها لتظل صالحة للسكن.
إن الأمر الأكثر وضوحاً الآن هو أن الشرق الأوسط الجديد أصبح أكثر اختلالاً عما كان عليه في الذاكرة الحديثة. إذ تمثل قصص النجاح، في الخليج وإسرائيل، 14% فقط من السكان ولكنها المنطقة تحوز 60% من الناتج المحلي الإجمالي، و73% من صادرات السلع و75% من الاستثمارات الداخلية متعددة الجنسيات. ومن إسرائيل والضفة الغربية إلى المملكة العربية السعودية واليمن، تتجاور اقتصادات حديثة مع أماكن يحاصرها اليأس والإحباط. فلبنان غارق في أزمة مالية؛ ومن الممكن أن تتجه مصر إلى نفس الاتجاه. إن الرابحين الجدد في منطقة الشرق الأوسط يجسدون العقلية التجارية أو عقلية الصفقات، التي قد تجعلهم أكثر ثراءً. أما الخاسرون فيها فهم بمثابة تذكير بأنه في عالم يتسم بقدر أقل من القواعد والمبادئ، لن يأتي أحد لإنقاذك. فعندما تملأ سيارتك بالوقود أو تنتظر طردك المشحون جواً، فتذكر أن الأمر كله يعتمد على منطقة تمثل مختبراً اقتصادياً وسياسياً – وبوسعك فقط أن تأمل ألا تنفجر التجربة برمّتها.
.
رابط المصدر: