ليست المرة الأولى التي يرسل فيها الرئيس السوري بشار الأسد إشارات عن استعداده للابتعاد عن خيارات “المرشد” الإيراني علي خامنئي و”حزب الله”، فهل تختلف هذه المحاولة عن سابقاتها؟ وهل تسكت إيران التي لم يسبق أن سكتت عن حلفاء أو وكلاء خرجوا من استراتيجتها؟
عودة تاريخية إلى محطات العلاقات وسياقها واختباراتها، يمكن أن تسهم في الإجابة. بعد انتصار “الثورة” في إيران في 1979، بادر الرئيس حافظ الأسد الذي رفض استقبال الخميني عندما كان معارضا، إلى فتح صفحة جديدة مع النظام الجديد في طهران. استفاد من تسلم معارضين إيرانيين للشاه محمد رضا بهلوي كانوا في لبنان، السلطة لدى نجاح “الثورة الخمينية”، وبعث وزير خارجيته وقتذاك عبدالحليم خدام للقاء أركان الحكم الجديد و”مرشدهم”.
بالفعل فتحت صفحة جديدة أصبحت سمة أساسية في الشرق الأوسط. الأسد الذي كان محاصرا بصدام حسين شرقا وبإسرائيل جنوبا وباتفاق كامب ديفيد بين محمد أنور السادات ومناحيم بيغن وغارقا في الحرب الأهلية اللبنانية وشروط الاتحاد السوفياتي، وقف إلى جانب إيران “الخمينية” ضد العراق “الصدامية” في حرب السنوات الثماني بدءا من 1980. وعندما اجتاحت إسرائيل لبنان في 1982 مهد الأسد الطريق لـ”حرس” الخميني كي يؤسس “حزب الله” بدءا من سهل البقاع، الضفة الثانية لحدود سوريا، قبل أن ينتقل “الحزب” إلى الحاضنة الشيعية الجنوبية ليقيم على حدود إسرائيل. وعندما دخلت أميركا إلى الملعب اللبناني، نسفت خلايا “الجهاد الاسلامي”، الشظايا المولدة لـ”حزب الله”، مشاة البحرية الأميركية “المارينز” في بيروت.
وفي الحرب العراقية–الإيرانية و”حرب الناقلات” والحرب الأهلية اللبنانية وملفات كثيرة، كان الأسد–الأب، يوازن بين المحور الإيراني والحضن العربي. وكان يعتقد أن نقطة القوة لديه أن يوازن ويكون لاعبا ووسيطا بين خصمين، بل انقلب وشارك في التحالف الدولي لإخراج قوات صدام من الكويت في 1991.
مع رحيل الأسد وتسلم الرئيس بشار الأسد وأحداث 11 سبتمبر 2001 وسقوط صدام في 2003، تغيرت التوازنات الإقليمية والحسابات السورية
مع رحيل الأسد وتسلم الرئيس بشار الأسد وأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وسقوط صدام في 2003، تغيرت التوازنات والحسابات. هجرت سوريا الحضن العربي وأقامت في المحور الإيراني. وزادت الفجوة مع اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان في 2005.
إبعاد سوريا عن إيران بقي الهم العربي والغربي. وجرت محاولتان في السنوات الأخيرة:
الأولى، في 2010 بعد طي صفحة الجفاء على خلفية اغتيال الحريري، وفوز قائمة إياد علاوي في انتخابات العراق وقائمة سعد الحريري في انتخابات لبنان. الخيار العربي المقدم إلى دمشق، كان دعم علاوي والحريري في تشكيل الحكومة. خيار إيران كان مختلفا ومضادا. بالنتيجة وعلى عكس الوعود، انحازت دمشق لخيار طهران في بغداد وبيروت.
الثانية، في 2011، وضعت أميركا ثقلها لإبرام اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، يتضمن استعادة كامل الجولان المحتلة مقابل تخلي دمشق عن تحالفها مع طهران و”حزب الله”. بالفعل، الوسطاء الأميركيون صاغوا مسودات الاتفاقات وقدموها إلى الأسد في فبراير/شباط 2011. أعطت دمشق اشارات الطلاق مع إيران. لكن بالتوازي مع الوعود وإرسال إشارات الابتعاد عن خامنئي، كان التعاون العسكري بين دمشق وطهران و”حزب الله” تصاعديا.
بعد 2011، حصل الانقلاب الكبير. سارت مياه كثيرة في سوريا والإقليم. تدخلت إيران و”حزب الله” عسكريا وماليا وسياسيا واقتصاديا لـ”انقاذ النظام”
بعد 2011، حصل الانقلاب الكبير وطويت صفحة هذا الخيار. سارت مياه كثيرة في سوريا والإقليم. تدخلت إيران و”حزب الله” عسكريا وماليا وسياسيا واقتصاديا لـ”إنقاذ النظام”. وتدخلت قوى أخرى مضادة. وبعد 13 سنة، بقي النظام في الحكم، وباتت في سوريا خمسة جيوش وميليشيات، بينها “حزب الله” وتنظيمات إيرانية.
أحد السيناريوهات المطروحة كان ربط انسحاب إيران و”حزب الله” بانسحاب أميركا وتركيا من سوريا، على اعتبار أن هناك قبولا بوجود روسيا التي تدخلت في 2015. لكن المفاجأة، جاءت بعد هجوم “حماس” في أكتوبر/تشرين الأول 2023. واضح أن دمشق رأت في ذلك فرصة لتمييز موقفها عن طهران وباقي أعضاء “محور الممانعة”. الخطوة الأخرى، أن دمشق وجدت في هجوم إسرائيل ضد “حزب الله” فرصة للخروج مع عباءة إيران وتمادي “حزب الله”.
في الأسابيع الأخيرة ومع بدء الهجوم الإسرائيلي على “حزب الله”، اتخذت دمشق خطوات كثيرة للتوجه الجديد، بينها: عدم تقديم أي دعم سياسي وعسكري وإعلامي لـ”حزب الله”. على عكس حرب 2006، لا دعاية لا مظاهرات ولا دعم عسكريا لـ”حزب الله”، بل إن الجيش السوري، إما يغض النظر وإما يسهل الحرب ضد “حزب الله” الذي نشر آلاف المقاتلين في سوريا في العقد الأخير. كما أنه (الجيش) منع الميليشيات و”الحزب” من شن أي عملية ضد إسرائيل وفرضت إجراءات صارمة ضد الميليشيات و”الحزب”. يضاف الى ذلك واقع عسكري دفع عناصر من “حزب الله” للعودة الطوعية لحماية أنفسهم أو للمشاركة في “المعركة الرئيسية” في لبنان.
وزير الخارجية الإيراني لم ينجح في إقناع الأسد للانضمام إلى المشاركة في عمليات “محور المقاومة” ضد إسرائيل، ولم ينجح في عقد مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره السوري
أما بالنسبة إلى طهران، فحصلت اشارات كثيرة تدل الى الجفاء مع دمشق. في آخر التجليات، تكفي الإشارة إلى أن وزير الخارجية عباس عرقجي لم ينجح في إقناع الأسد للانضمام إلى المشاركة في عمليات “محور المقاومة” ضد إسرائيل، ولم ينجح في عقد مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره السوري بسام الصباغ للتعبير عن موقف مشترك، فاكتفى بتصريحات في مقر سفارته. استطرادا، فإن الكتب الإيرانية التي كان يفيض بها معرض الكتاب في دمشق، غابت وغيبت عن رفوف المعرض لأول مرة منذ سنوات طويلة.
إشارات وخطوات سورية تدل على الاتجاه الجديد في دمشق. هو ليس اتجاها وحسب، بل هو رهان ومقامرة. يبقى سؤالان:
الأول، هل الخطوات السورية هي لشراء الوقت إلى حين الخروج من عين عاصفة الشرق الأوسط و “الجنو الإسرائيلي” ودخول الرئيس الأميركي الجديد مكتبه في البيت الابيض؟ في مراحل سابقة ألمح الأسد الى استعداده للابتعاد عن ايران لتخفيف ضغوط خارجية او فتح نوافذ، فهل الاجراءات الحالية ضد “حزب الله” والنأي بالنفس عن خيارات “المرشد”، مناورة ام نهائية؟
الثاني، هل تسكت إيران عن خسارة سوريا، الحديقة الخلفية لنفوذها في العراق وخط إمدادها إلى وكيلها في لبنان وجسرها إلى “الورقة الفلسطينية” خصوصا أنها لم تسكت عن حلفاء ووكلاء خانوها وخرجوا من استراتجيتها؟ أم إن طهران تقبل بالمناورة السورية لأنها ترمي فقط إلى تجنب تحذيرات بنيامين نتنياهو وضرباته التي تجاوزت “الخطوط الحمراء”، أيضا لأنها في حاجة لسوريا كما الأخيرة في حاجة لها؟