تشهد العلاقات بين تركيا وأرمينيا عداءً تاريخيًا جعل من المستبعد أن تشهد العلاقات بين البلدين تقاربًا على مستويات رفيعة، ولكن هذا المعتقد قد تغير حينما بدأت أنقرة حقبة جديدة من الانفتاح على أرمينيا. ووظفت في ذلك محاولات يائسة للإرسال برسائل عبر قنوات سياستها الخارجية، وسط مشاكل داخلية متفاقمة، وانهيار في قيمة العملة التركية أسفر عن إغلاق التداول في البورصة.
وكخطوة أولى، أقدم البلدان على تعيين مبعوثين خاصين لاستعادة العلاقات المنقطعة منذ 28 عامًا، بينما يأتي على الطريق استئناف الرحلات الجوية بين أنقرة ويريفان- مع الوضع بالحسبان أن تركيا كانت من الدول التي اعترفت باستقلال أرمينيا عن الاتحاد السوفيتي في عام 1990 دون إطلاق علاقات دبلوماسية بين البلدين. إلا أن الأجواء الصافية لم تدم طويلًا وانتهت بعد احتلال الجيش الأرميني لمدينة ” كاليجار” الأذربيجانية، فقامت تركيا على إثر ذلك بإغلاق حدودها البرية والبحرية مع أرمينيا، وفي عام 1995 تم افتتاح الحدود البحرية إلا أن الحدود البرية بقيت مغلقة كما هي.
والسؤال الأهم الذي يمكن طرحه في هذا الإطار هو لماذا تسعى تركيا الآن إلى إصلاح علاقتها مع أرمينيا وهي التي لديها تاريخ عدائي طويل معها؟ والإجابة المباشرة التي يمكن لفت النظر إليها هي أن إصلاح العلاقات مع أرمينيا يدعم طموحات أنقرة في القوقاز، ويغسل سمعتها أمام أعضاء النادي الأوروبي، وهي المتهمة بالقيام بمذابح في حق الأرمن.
ولكن على الرغم من أن أرمينيا قد ذهبت إلى نفس الخيار، إلا أن دعم تركيا لأذربيجان في حرب “ناجورنو قره باغ” خلال العام الماضي، وإمدادها بالعتاد العسكري جعل حالة الرضا في يريفان ليست عامة.
تركيا وجمع المكاسب
عمومًا، فإن تركيا التي تسعى اليوم إلى توطيد علاقاتها مع أرمينيا لم تنتظر حتى أن تبرد الهزيمة الأرمينية قبل أن تحاول الاستفادة من اتفاق وقف إطلاق النيران الذي تم التوصل إليه، من خلال السعي إلى صيغة تحقق مكاسب أكثر لتركيا عن طريق التوسع السياسي والاقتصادي في منطقتي بحر قزوين وآسيا الوسطى.
ويهدف المسعى التركي بالأساس إلى التوصل إلى إنشاء ممر تجاري مباشر يربط بين تركيا وأذربيجان عبر ممر “ناخشيفان”؛ وهي المنطقة التي تتمتع بحكم ذاتي على طول الحدود مع تركيا. مع الوضع بالحسبان أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوقيع عليه في نوفمبر الماضي برعاية روسية أقر بأنه على أرمينيا أيضًا السماح بإطلاق ممر عبر مقاطعة “سيونيك”.
وكانت أولى الخطوات التركية في محاولة للتقرب من أرمينيا هي المنصة السداسية التي اقترحت أنقرة تشكيلها بحيث تضم أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وروسيا وإيران وتركيا، وكان الاجتماع الأول لأعضاء المنصة في العاشر من ديسمبر الجاري قبل أيام من إزاحة الستار عن خطة للتطبيع بين الغريمين.
ومسبقًا، كان قد تم تأجيل خطة تطبيع بين البلدين في 2009 وذلك في المدينة السويسرية “زيوريخ”، ووقتها تشكك الجانب الأرميني في النوايا التركية لأنها كانت معلقة على انسحاب أرمينيا من أراضي متنازع عليها مع أذربيجان.
دوافع أرمينية
أما الدوافع الأرمينية لقبول عملية التطبيع فهي فتح الحدود ودعم اقتصادها، وفي نفس الوقت تقليل الاعتماد على الروس حتى لا تكون محددة بشراكة واحدة مع الوضع بالاعتبار أن بريفان لا تمتلك رفاهية في الإبحار بعيدًا عن روسيا كثيرًا، خصوصًا أنها تعتمد عليها في تأمين الوضع على الأرض في ناجورنو قره باغ – على جانب آخر وكما تتوافق خطوة التطبيع مع الأهواء الأمريكية فهي تتماهى مع الطموحات الأوروبية أيضًا، لأن أوروبا وجدت نفسها بعيدة عن تحقيق أي تقدم مذكور في ردع موسكو في أوكرانيا، ولم يكن لها تأثير في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، وبالتالي فإن تطبيع أرمينيا مع الأتراك يضمن لها على الأقل ابتعاد بريفان عن موسكو.
وقد ذهب الأوروبيون بعيدًا في دعم تقارب كل من أرمينيا وأذربيجان، إلى حد تقديم الاتحاد الأوروبي تعهدًا بتقديم مساعدات فنية للبلدين لدعم المحادثات، في الوقت الذي التزم فيه البلدان بترسيم الحدود وفتح الطرق وإعادة عمل السكة الحديد، فقد أعادت أوروبا نفسها مرة أخرى على طريق أزمة ناجورنو قره باغ، بدلًا من ترك الساحة خالية للروس.
ومن هنا ينبغي أن نفهم ان ناجورنو قره باغ لم تعد المعضلة الحقيقية في تطبيع العلاقات التركية–الأرمينية، وإنما العقبة الكبرى هي العداء التقليدي والحاجز النفسي، وكذلك رفض الأتراك الاعتراف بالمذابح التي أقدموا عليها وبالتالي الاعتذار عنها.
وعلى الرغم من ذلك، ألقت أرمينيا بالكرة في ملعب الأتراك عندما أعلنت عن انفتاحها أمام كل الحلول، ولكن المعارضة الأرمنية كان لها رأي آخر خصوصًا بعد أن لاح في الأفق تصريحات من الجانب التركي تشير إلى وجود ” شروط مسبقة” تتضمن أن تسمح أرمينيا بفتح ممر تجاري في نخحوان.
وهو ما علقت عليه بريفان بأنه أمر ليس مطروحًا للنقاش من الأساس لأنه يجعل من العاصمة الآذرية نقطة التقاء للتجارة في وسط آسيا، بل مركزًا إقليميًا. بجانب أن سبب رفض بريفان هو قصر الممر الذي لا يتجاوز 40 كيلو مترًا، مما يعني أنها لن تحقق دخلًا من أموال الترانزيت.
إرهاصات
في الآونة الحالية يُطرح تساؤل حول ما إذا كانت المباحثات ستنتهي بتطبيع كامل للعلاقات بين البلدين. وبشأن هذا الطرح يظهر سيناريوهان: الأول متفائل بأن الأمور تتجه إلى الأفضل؛ والمبرر أن الصلح بين تركيا وأرمينيا لا يضر أحدًا إلى جانب أنه يفيد بعض الأطراف وينهي حالة من العداء التقليدي، ويدفع هذا الجانب بأن الآمال تنعقد على الصلح لأنه وللمرة الأولى كذلك ينتهي الاحتلال الأرميني للأراضي الآذرية وقد كان عائقًا مهمًا لقدرة تركيا على إتمام التطبيع في الوقت الذي تحتل فيه أراضي أذربيجان.
في حين يرجح الجانب الآخر أن الأمور يمكن أن تنهار في اللحظة الأخيرة مثلما حدث في عام 2009 حيث قيل في وقتها أن الرئيس الآذري هو من أحبط هذه المحاولات. ويلوح هنا تخوف يتضمن أن الصلح بين تركيا وأرمينيا قد يقوض أي جهود مستقبلية لإجبار تركيا على الاعتراف بمذابح الأرمن.
وفي هذا السياق، فإن التقارب الحاصل بين البلدين الآن ليس وليد اللحظة وإنما شهد إرهاصات خلف الكواليس على مدى أشهر، حتى انتهى بتعيين مبعوثين خاصين من قبل كل من البلدين- ولكن حسب فراس رضوان أوغلو، المحلل السياسي التركي فإن تركيا مضطرة إلى أن تشرك روسيا في موضوع التطبيع، وهو ما لا يمكن التنبؤ به وتحديد ما إذا كانت روسيا ستشجعه أم لا، وهي التي حيدت تركيا منذ البداية في وقت استصدار قرار وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان ومن مهمة حفظ السلام التي تلت الاتفاق.
الدور الروسي
تضع أنقرة في ذهنها أثناء السير على طريق التطبيع مع أرمينيا قضية توازن القوى في هذه المنطقة، خصوصًا وأن روسيا تحتفظ لنفسها بقاعدة عسكرية في أرمينيا. على جانب آخر، فإن الرئيسين التركي والروسي يشتركان في عدم ثقتهما في الغرب، وبالتالي الرغبة في تحييدهما وهو ما قد يدفع بهما إلى توثيق التعاون في القوقاز لتجنيب الولايات المتحدة والأوروبيين، بجانب أن الروس سيستفيدون من إعادة إحياء خطوط النقل من الحقبة العثمانية في المنطقة.
ولكن روسيا تقف متنبهة إلى دوافع البلدين في التقارب؛ ففي حين أن أرمينيا تعول على الانفتاح الاقتصادي، تعول تركيا على الصلح مع بريفان في دعم طموحاتها الاقتصادية في المنطقة التي تدرك موسكو أنها مشاريع ستؤثر عليها بالسلب، وتزيد من النفوذ التركي في القوقاز. ويستند الأتراك هنا إلى سيطرة الغالبية المسلمة على الدول في القوقاز، مما يجعلها أكثر ترحيبًا بالدور التركي عن الدور الروسي.
الجانب التركي يعي ذلك جيدًا، ويريد توظيفه في جعل أنقرة الممر الرئيس لمشاريع السكك الحديد بأنواعها، وهو الأمر الذي يمكن لها تحقيقه بفتح قنوات مع أرمينيا وجورجيا دفعة واحدة. يبقى الرهان إذًا على موقف موسكو من عملية التطبيع بين أرمينيا وتركيا، والذي يرجح أن يكون سلبيًا لأنه مهما كانت المكاسب التي ستحققها موسكو، فإن خطر تعاظم النفوذ التركي في القوقاز يبقى أكبر.
.
رابط المصدر: