مهند مصطفى
ازداد التصعيدُ الأمني في الضفة الغربية بعد العملية العسكرية الإسرائيلية في مخيم جنين، في 26 يناير 2023، وما تبعتها من عمليات فلسطينية انتقامية، والتي ردت عليها الحكومة الإسرائيلية بمزيد من القمع الأمني وفرض عقوبات شديدة على الفلسطينيين. وحدث هذا التصعيد في ظل زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأخيرة للمنطقة، والتي التقى خلالها برئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وطالب الطرفين بالتهدئة وعدم اتخاذ خطوات أحادية الجانب تُصعِّد الوضع الأمني والسياسي على الأرض.
تُعالج هذه الورقة التصعيد الأمني الراهن في الضفة الغربية، وضمنها القدس، ومستقبل هذا التصعيد في المرحلة المقبلة.
تدحرج التوتر الأمني في الضفة الغربية
مضت الحكومة الإسرائيلية الحالية في عملية “كاسر الأمواج” في الضفة الغربية، التي بدأتها الحكومة السابقة، وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أنه منذ بداية السنة الجارية قتل نحو 50 فلسطينياً في العمليات العسكرية الإسرائيلية. وكانت العمليتان العسكريتان اللتان نفّذتهما القوات الإسرائيلية في مخيم جنين في 26 يناير، وفي مخيم عقبة جبر بأريحا في 6 فبراير، الأكثر دموية منذ سنوات، حيث قُتل في عملية جنين تسعة فلسطينيين وفي أريحا خمسة آخرين. واستهدفت العملية العسكرية في جنين خلية فلسطينية يبدو أنها تابعة لحركة الجهاد الإسلامي، بينما كانت العملية في أريحا تستهدف خلية تابعة لحركة حماس.
ترمي إسرائيل من عملياتها العسكرية في الضفة الغربية، إلى ردع أي عمليات ضد الجيش والمستوطنين، وإلى ضرب المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، وخاصة التي بدأت تتشكل خارج رعاية الفصائل التقليدية، كما تستهدف منع أي إمكانية لاندلاع انتفاضة ثالثة من خلال ضرب الجيوب التي تخرج منها العمليات، علاوة على ذلك فإن إسرائيل تطبق خطوات استباقية مُستفيدة من تجربة الانتفاضة الثانية، لمنع تكدُّس السلاح والبنية التحية المسلحة داخل المدن، مما لا يضطرها للقيام بعملية عسكرية شاملة مرة واحدة كما حدث عام 2002.
وبعد يوم واحد من عملية جنين، نفّذ فلسطينيٌ من القدس عمليةً بالقرب من كنيس يهودي على أطراف القدس أسفرت عن مقتل سبعة إسرائيليين، وتوالت العمليات الفلسطينية الفردية، مثل العملية التي قام بها فتى فلسطيني في 28 يناير ضد مستوطنين في حي سلوان بالقدس، وأيضاً عملية الدهس بالسيارة التي قام بها فلسطيني في القدس الشرقية في 10 فبراير، والتي أسفرت عن مقتل إسرائيليَّين وإصابة آخرين.
يتميز معظم العمليات الفلسطينية بطابعها الفردي، والتي لا يكون وراء مُنفِّذها تنظيم سياسيٌ ولا يتم التخطيط لها، مما يؤكد أن دافعها هو حالة الإحباط، أو الغضب والانتقام من الممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية عموماً، وفي القدس خصوصاً التي أصبحت معقل العمليات الفردية على خلاف العمليات التي تقوم بها التنظيمات المسلحة في جنين ونابلس. مع التأكيد أن العمليات الفردية تحظى بتأييد من التنظيمات الفلسطينية وتشجيعاً على تنفيذها.
الخطوات الإسرائيلية تجاه العمليات الفلسطينية
اتخذت الحكومةُ الإسرائيلية نمطين من الردود على العمليات المسلحة الفلسطينية، وبخاصة بعد عملية القدس. النمط الأول وهو ما تحوّل إلى نمط دارج، والذي يتمثل في تكثيف مداهمة المدن والمخيمات الفلسطينية، كما حدث في عمليتي جنين وأريحا مؤخراً، والتي تستهدف بالأساس تنظيمات مسلحة تابعة لفصائل فلسطينية، أو تنظيمات مسلحة محلية مثل كتيبة جنين في مخيم جنين وعرين الأسود في نابلس.
في المقابل، وفيما يتعلق بما تسميه الأدبيات الإسرائيلية “العمليات الفردية”، فقد اتخذت الحكومة الإسرائيلية خطوات لردع مثل هذه العمليات الفلسطينية، فقد أقرت الحكومة سلسلة من الإجراءات ذات الطابع العقابي الجماعي، والتي تهدف إلى ردع الأفراد من القيام بعمليات مسلحة، وشملت هذه الإجراءات ما يأتي:
- الإسراع إلى إغلاق بيوت منفّذي العمليات المسلحة إثر العملية، ثم هدم هذه البيوت في أيام قليلة.
- توسيع تسليح المستوطنين، من خلال تسهيل الحصول على رخص حمل السلاح لمواجهة سريعة لأي عملية فردية في المدن الإسرائيلية.
- سحب تصاريح الإقامة ونزع هويات منفّذي العمليات من القدس ومن ساعدهم على تنفيذها.
- بدء بحث قانوني لفكرة طرد عائلات مُنفذي العمليات، حتى لو كانوا من سكان القدس الشرقية.
- تشديد القيود على الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
- تعزيز الوجود الأمني والشُّرطي في القدس، وزيادة القوات العسكرية في الضفة الغربية، استعداداً لكل تصعيد من طرف الفلسطينيين.
وفي السياق نفسه، ومن أجل تهدئة غضب جمهور اليمين، قررت الحكومة المصادقة على بناء بلدة يهودية في منطقة الغلاف المتاخم لقطاع غزة، أطلقت عليها اسم “حانون”، والتي تبعد سبعة كيلومترات عن الشريط الحدودي للقطاع. ومن جملة المسوغات التي طرحتها للحكومة للمصادقة على بناء هذه البلدة، أنها رد على العمليات المسلحة الفلسطينية عموماً، ومن قطاع غزة خصوصاً. كما أصدر وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير قراراً بتنفيذ جميع أوامر الهدم في القدس الشرقية، وهو القرار الذي قد يصعّد بشكل متطرف التوتر في المدينة.
وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن الكثير من القرارات الحكومية لمعاقبة السلطة الفلسطينية، أو لردع الفلسطينيين ومعاقبتهم لن تردع العمليات المسلحة الفلسطينية، بل ربما سوف تزيدها كرد فعل انتقامي عليها.
وقد أشار أودي ديكل، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي، إلى أن الدعوة إلى إضعاف السلطة الفلسطينية من أجل انهيارها، لن تؤدي إلى وقف العمليات الفلسطينية المسلحة بل ستزيدها، وتسرّع واقع الدولة الواحدة. ويوضح ديكل أن العمليتين الأخيرتين في القدس هما عملان فرديان جاءا انتقاماً لعملية مخيم جنين، وأن العمليات الفلسطينية تتركز في المناطق التي ليس للسلطة الفلسطينية سيطرة عليها كلياً، مثل القدس، أو في المناطق التي تراجعت فيها سيطرة السلطة بسبب ضعفها مثل جنين ونابلس. ويبين ديكل أنه يوجد في الحكومة الإسرائيلية “أصحاب أجندات” يعتقدون أن الفوضى وعدم الاستقرار تشكل فرصة لتنفيذ سياسات تشمل: تشريع عقاب الإعدام للفلسطينيين، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وطرد السلطة الفلسطينية من مناطق (ج) التي تمثل 60% من مساحة الضفة الغربية، وهدم المباني الفلسطينية وإخلاء الأحياء الفلسطينية مثل قرية خان الأحمر بالقدس. وتُعدّ هذه الخطوات، بحسب ديكل، تغييراً في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه الجبهة الفلسطينية، ويشمل هذا التغيير إضعاف السلطة الفلسطينية، والسيطرة الكاملة على مناطق (ج)، وتضييق الحيز الفلسطيني، وفرض أمر واقع يُمهِّد للضم.
رد فعل السلطة الفلسطينية
في المقابل، أعلنت السلطة الفلسطينية عن وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل. وفي هذا الصدد، تشير تقديرات إسرائيلية وفلسطينية إلى أن التنسيق الأمني تراجعت أهميته في العامين الماضيين بسبب ضعف السلطة الفلسطينية، وتراجع سيطرتها على مناطق تحت سيطرتها، وبخاصة في منطقة جنين، فضلاً عن أن المداهمات الليلة الإسرائيلية في معظمها لا يتم تنسيقها مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بسبب غياب الدافعية لدى هذه الأجهزة للعمل مع إسرائيل كما كان في السابق، وبسبب غياب أي أفق لتغيير الواقع السياسي. كما أن الحكومة الحالية لا تهتم -انطلاقاً من مواقف سياسية- بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، بل تَعتبرها جزءاً من المؤسسات “الداعمة للإرهاب”، ويبقى موقف المؤسسة الأمنية والعسكرية هو الحاجز الوحيد لقطع أي تواصل مع السلطة أو تجاوزها كلياً.
تشير التجارب السابقة إلى أن وقف التنسيق الأمني كان مؤقتاً، بالرغم من أن تقارير إسرائيلية تؤكد استمراره على مستوى أساسي. وتتمثل المعضلة الفلسطينية فيما يخص مسألة وقف التنسيق الأمني، في أن غيابه الكامل قد يسهم بالذات في زيادة المداهمات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية، وبالتالي يُضعِف السلطة أكثر، فضلاً عن الضغط الأمريكي عليها بالاستمرار في التنسيق الأمني، فقد أوقفت السلطة التنسيق الأمني 63 مرة وكان تعود عن قرارها في آخر الأمر. وبالمقابل فإن استمرار التنسيق الأمني يعمّق أزمة السلطة على المستوى الداخلي، وفي الوقت نفسه لا يُفيدها سياسياً أمام حكومة تَعتبرها سلطةً معادية لها؛ لذلك من المتوقع أن تنفذ السلطة قرارها بوقف التنسيق الأمني ولكن مؤقتاً، مع إبقائه حالياً بمستواها الأساسي والأدنى.
أدت الأحداث الأخيرة إلى رد فعل من فصائل فلسطينية في قطاع غزة، التي أطلقت صواريخ معدودة على جنوب إسرائيل في خضم الأحداث، لكنها لم تتطور إلى مواجهة عسكرية كما حدث في العام الماضي. كما أن رد الفعل الإسرائيلي على إطلاق الصواريخ لم يكن مختلفاً عما هو متبع، وهو قصف منشآت عسكرية للفصائل الفلسطينية في غزة عموماً، ولحركة حماس خصوصاً، وهو يدل على أن الطرفين لا يرغبان في فتح مواجهة عسكرية بينهما، وأن هدف إطلاق الصواريخ كان نوعاً من التضامن الرمزي مع الضفة الغربية والقدس، فحتى بعد أن قتلت القوات الإسرائيلية خليةً عسكرية تابعة لحماس في أريحا لم ترد حماس على ذلك، إذ يبدو أن سياسة الحركة تتركز في تصعيد الأوضاع في الضفة والقدس وبقاء غزة هادئة، فضلاً عن أن مصر دخلت على الخط لمنع تصعيد عسكري في قطاع غزة، فقد عقدت مصر مباحثات مع حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في القاهرة في الأسابيع والأيام الأخيرة، ليس بهدف منع التوتر الأمني في غزة فحسب، بل في الضفة الغربية أيضاً، لاسيّما مع اقتراب الأعياد اليهودية وشهر رمضان، وقد تشمل المباحثات المصرية قيادة السلطة الفلسطينية أيضاً. وتحاول مصر احتواء التوتر في الضفة الغربية وغزة من خلال حثّ الفصائل على منع التصعيد، وإعطاء مصر دوراً لمنع التوتر في الضفة الغربية من خلال التواصل مع الحكومة الإسرائيلية، حيث ترى مصر أن الأوضاع قد تؤدي إلى الانفجار في المرحلة المقبلة.
المواقف الدولية من التصعيد
تُحاول الولايات المتحدة منع التصعيد في الضفة الغربية، وكانت زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأخيرة للمنطقة، والتي شملت مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية واستغرقت ثلاثة أيام من 30 يناير إلى 1 فبراير، جزءاً من هذه الجهود. فقد أكد بلينكن أن الإدارة الأمريكية ملتزمة بخيار حل الدولتين، وتُعارض كل الممارسات والسياسات التي تعيق هذا الحل، ومنها توسيع المستوطنات، وهدم البيوت وإخلاء سكان من مناطق في الضفة الغربية، كما صرّح أن “أفق الأمل لدى الفلسطينيين آخذ بالتقلص، ولابد من التغيير”. وفي خطوة للمساهمة في تهدئة الأوضاع بقي في المنطقة طاقمٌ يتبع الوزير، من بينهم باربرا ليف مساعدة الوزير لشؤون الشرق الأوسط، وهادي عمر المبعوث الخاص للرئيس بايدن للشؤون الفلسطينية.
وقد تُسهِم زيارة بلينكن وبقاء طاقم أمريكي في إسرائيل، في تخفيف حدة الإجراءات التي سوف تتخذها الحكومة الإسرائيلية تجاه العمليات الفلسطينية، مثل طرد عائلات أو إلغاء بطاقات الإقامة للمقدسيين وغيرها، لكن من غير المتوقع أن ينجح التحرك الأمريكي في لجم الحكومة الإسرائيلية تماماً، وبخاصة في ظل تركيبتها اليمينية المتطرفة، فضلاً عن أن الموضوع الفلسطيني لا يمثل أولوية للإدارة الأمريكية، بدليل أن الموضوع الفلسطيني لم يكن الموضوع المركزي في مباحثات بلينكن مع القيادة الإسرائيلية، فقد ركز بلينكن على الأزمة الدستورية في إسرائيل، وعلى كيفية مساعدة إسرائيل أوكرانيا عسكرياً في أعقاب تزويد إيران روسيا بالمسيرات والصواريخ.
وأشارت وسائل إعلامية إلى أن بلينكن طلب من السلطة الفلسطينية الاستمرار بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، والاضطلاع بدورها في لجم التنظيمات المسلحة في جنين ونابلس ومنع انتقالها ومحاكاتها في مناطق أخرى، والعمل وفق خطة أمنية أمريكية تضمن للسلطة السيطرة من جديد على جنين ونابلس، في المقابل ستبقى الولايات المتحدة ملتزمة بحل الدولتين ومعارضة توسيع الاستيطان.
وكانت زيارة بلينكن قد سبقتها زيارة لويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، الذي عبّر عن تخوفه من اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة إذا استمر الوضع الحالي في الضفة الغربية، موضحاً أن المباحثات التي أجراها مع نتنياهو ومحمود عباس غير مُبشِّرة، مؤكداً أن الوكالة سوف تعمل مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية لمنع تفاقم التصعيد.
وخلال زيارة نتنياهو لفرنسا في 2 فبراير الجاري، ولقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أكد الأخير وقوفه إلى جانب إسرائيل في اعقاب العملية في القدس، وطالب الطرفين بالامتناع عن اتخاذ خطوات تؤدي إلى مزيد من التصعيد، ولكن يبدو -كما تشير وسائل الاعلام الإسرائيلية- أن موضوع الأزمة الدستورية والأزمة الأوكرانية كان في مركز المباحثات بين الطرفين. وفي المجمل تحاول الدول الأوروبية منع التصعيد في الضفة الغربية، وذلك من خلال الضغط على الحكومة الإسرائيلية لمنعها من تنفيذ خطوات ستفضي إلى حدوث مثل هذا التصعيد.
سيناريوهات التصعيد الأمني في الضفة الغربية
بناءً على ما جاء في الورقة، يمكن الإشارة إلى سيناريوهَين اثنين للمرحلة المقبلة.
السيناريو الأول: تنامي التوتر الأمني والعسكري في الضفة الغربية
ينطلق هذا السيناريو من أن السياسات التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية الحالية في الضفة الغربية سوف تؤدي إلى مزيد من التصعيد، فالعمليات العسكرية أصبحت أكثر دموية (كما حصل في جنين وأريحا) مما في السابق، فضلاً عن استمرار سياسة الاستيطان وفرض العقوبات الجماعية، والتي سينتج عنها ردود فعل فلسطينية انتقامية. يعتمد هذا السيناريو على المحددات الآتية:
- التصعيد في الضفة الغربية يخدم الأجندات السياسية والأيديولوجية لليمين الاستيطاني في الحكومة، وضغط القواعد اليمينية على الحكومة لاتخاذ خطوات عسكرية مختلفة عن تلك التي مارستها الحكومة السابقة.
- تنطلق الحكومة الإسرائيلية من أن العمل العسكري هو السبيل الوحيد لخلق الاستقرار والهدوء بالضفة الغربية، لعدم رغبتها في تسوية سياسية مع الفلسطينيين.
- الحفاظ على تماسُك الحكومة، حيث صرح بعض أعضاء الكنيست من الائتلاف الحكومي أنه في حالة عدم انتهاج الحكومة سياسة مختلفة وقاسية تجاه الفلسطينيين، فإن لا مكان لهم فيها.
- عمليات الرد الفلسطينية على الممارسات الإسرائيلية لن تدفع إسرائيل نحو تخفيف التصعيد، بل باستعمال مزيد من القوة والعمليات العسكرية، والدخول في دائرة الفعل ورد الفعل.
السيناريو الثاني: ضبط التصعيد مع استقرار نسبي
ينطلق هذا السيناريو من أن الأوضاع في الضفة الغربية سوف تتجه نحو الاستقرار والهدوء الأمني، وعودة السلطة الفلسطينية إلى التنسيق الأمني مع إسرائيل. ويعتمد هذا السيناريو على النقاط الآتية:
- حرص الحكومة الحالية على عدم إبقاء الموضوع الفلسطيني قضية شاغلة للإعلام والسياسة الدوليين.
- الهدوء على الساحة الفلسطينية يُسهِّل توجه الحكومة نحو توقيع اتفاقيات تطبيع مع دول عربية جديدة، والتي قد ترى في تصعيد الأوضاع في الضفة الغربية مانعاً لتوقيع مثل هذه الاتفاقيات مع إسرائيل.
- الخوف من أن تدهور الأوضاع في الضفة الغربية قد يؤدي إلى انهيار كامل للسلطة الفلسطينية، وإسرائيل غير مستعدة لهذا السيناريو.
- استمرار التصعيد قد يوسع رقعة العمليات الفلسطينية نحو مناطق ومدن فلسطينية كانت هادئة نسبياً خلال العامين الماضيين.
- استمرار التصعيد قد يؤدي إلى فتح جبهة عسكرية مع قطاع غزة، وربما إلى مواجهات مع المواطنين العرب في إسرائيل كما حدث في مايو 2021.
- الضغط الدولي على الطرفين من أجل وقف التصعيد في الضفة الغربية، وتدخل الولايات المتحدة بشكل مثابر في هذا الشأن.
يحمل هذا السيناريو تداعيات عديدة، أقربها هو عودة التنسيق الأمني بشكل كامل بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وعودة سيطرة السلطة بمساعدة أمريكية-إسرائيلية على المناطق “الساخنة” مثل جنين ونابلس، وتحسين قدراتها الاقتصادية، مما ينتج عنه مُعضلة للسلطة تتمثل في المفارقة بين غياب التسوية السياسية وبقاء التنسيق الأمني.
السيناريو المرجح وما يترتب عنه
يُعد السيناريو الأول هو المرجح، إذ من المتوقع أن يزداد التصعيد في الضفة الغربية، ذلك أن أسباب التصعيد لا تزال قائمة. أما الأسباب التي ستؤدي إلى مزيد من التصعيد فهي كالآتي:
- استمرار العمليات العسكرية والمداهمات الإسرائيلية للضفة الغربية التي تحولت إلى نمط يومي تقريباً، وتتحول إلى أكثر عنفاً في كل مرة.
- العمليات الانتقامية الفلسطينية التي تتسم بالعمل الفردي، مما يدفع الحكومة إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات العقابية الجماعية، والتي تَعتبرها الطريقة الوحيدة لردع الأفراد على عكس العمليات التابعة لمنظمات عسكرية فلسطينية.
- اقتراب الأعياد اليهودية وما أصبحت تحمله من توتر بسبب دخول اليهود المتزايد لساحات الحرم القدسي مع مصادفتها هذا العام أيضاً لشهر رمضان، مما سيزيد حالة التوتر والتصعيد في الضفة الغربية عموماً، والقدس خصوصاً، وقد تؤدي إلى مواجهة عسكرية مع قطاع غزة.
- استمرار سياسة الحكومة الحالية في تعزيز الاستيطان، وتقييد البناء الفلسطيني، وشرعنة البؤر الاستيطانية، حتى تلك التي بُنيت على أراض فلسطينية خاصة، كما ظهر في قرار مجلس الوزراء السياسي والأمني المتخذ في 12 فبراير بإضفاء الشرعية على تسع مستوطنات “عشوائية” في الضفة الغربية.
- إضعاف السلطة الفلسطينية، من خلال الضغط عليها اقتصادياً، وغياب أفق لتسوية سياسية، مما سيؤدي إلى مزيد من تأكل سيطرة السلطة في الضفة الغربية.
- استمرار السياسة الفلسطينية في محاولة محاكمة إسرائيل في المؤسسات الدولية، والذي سترد عليه إسرائيل بمزيد من التصعيد.
- غياب ضغط دولي، وأمريكي خصوصاً، من أجل الانطلاق بتسوية بين الطرفين بسبب هامشية الموضوع الفلسطيني في الأجندة الدولية.
وسيكون لهذا السيناريو تداعيات متعددة، يمكن إجمالها كالآتي:
- تعزيز وتسريع تآكل السلطة الفلسطينية، وقد يؤدي على المدى البعيد إلى تفككها، بمفهوم انعدام سيطرتها الكاملة على المناطق التي تحكمها أمنياً، وعدم قدرتها على تقديم الخدمات للفلسطينيين.
- احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مع قطاع غزة؛ فالفصائل الفلسطينية في القطاع ستقع تحت ضغط شعبي وسياسي كبير للتدخل وأخذ موقف من التصعيد في الضفة، وبخاصة إذا ازداد عدد الضحايا من الفلسطينيين وتنفيذ العقوبات الجماعية.
- احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة في الضفة الغربية، تجمع ما بين العمليات المسلحة الفردية والتنظيمية والاحتجاجات الشعبية.
استنتاجات
تتجه الأوضاع في الضفة الغربية نحو التصعيد، وقد تشمل تصعيداً مع قطاع غزة، وبخاصة إذا توترت الأوضاع بشكل كبير في القدس خلال فترة الأعياد اليهودية وشهر رمضان.
ويمكن الإشارة إلى توجهين في الحكومة الإسرائيلية إزاء التصعيد الأمني: توجه نتنياهو الذي يريد ضبط التصعيد والتركيز على الملف الإيراني والتطبيع مع الدول العربية، وقد يستعمل هذه العوامل من أجل كبح جماح شركائه في الائتلاف الحكومي لتخفيف حدة الإجراءات في الضفة الغربية، وبخاصة العقوبات الجماعية وعمليات الهدم، والحفاظ على علاقة مع الإدارة الأمريكية التي لا تستطيع إسرائيل من دونها مواجهة ملف البرنامج النووي الإيراني، وبخاصة بعد التمرين العسكري المشترك بين الجيش الأمريكي والإسرائيلي الذي حاكى هجوماً على إيران، مثلما تشير المصادر الإسرائيلية. كما أن الولايات المتحدة تؤدي دوراً مهماً في دفع مسار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية وتوسيعه.
أما التوجه الثاني، فهو توجه اليمين المتطرف، الذي يعمل ضد عقارب الساعة من أجل تنفيذ وعوده السياسية وتصوراته الأيديولوجية في الضفة الغربية والقدس، وهو غير مقتنع بذرائع نتنياهو المتعلقة بالسياسة الدولية، وسيحاول تنفيذ ما وعد به لجمهور ناخبيه منطلقاً من أن الحكومة لن تصمد من دونه.
سيحاول نتنياهو تخفيف الإجراءات التي أقرها شركاؤه، مثل تجميد هدم جميع المنازل غير المرخصة في القدس وهدم خان الأحمر، وغيرها من الإجراءات بذريعة الحفاظ على العلاقات مع الإدارة الأمريكية، ولكن نجاحه لن يكون كبيراً لتعلّق بقاء حكومته بقوائم اليمين المتطرف الاستيطاني، وإدراك أعضاء الائتلاف ضعف نتنياهو السياسي وتعلُّقه بهم، لذلك ستكون قدرة نتنياهو على كبح جماح مطالباتهم متواضعة.
.
رابط المصدر: