اعداد : سليمان بشارات – باحث في دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأمريكية، فلسطين.
مقدمة:
تنطلق الرؤية الإسرائيلية في بعدها الاستراتيجي تجاه منطقة الشرق الأوسط من مبدأ الحفاظ على الدعم الدولي وشرعية وجودها اللذين تحتاجهما بهدف التوسع الجغرافي السياسي بالمنطقة، وهو ما يفسر سعيها المستمر في تطبيع العلاقات مع دول المنطقة في شتى المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية. إذ تثير مساعي إسرائيل لإقامة العلاقات وتوقيع اتفاقيات السلام مع العديد من دول المنقطة تساؤلات فعلية إن كانت هي حاجة إسرائيلية أم حاجة من الدول العربية المطبعة، أم حاجة لكلا الطرفين؟
ففي كتاب بعنوان: “مخطط استراتيجي للساحة الإسرائيلية الفلسطينية” الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، يطرح المؤلفون، المرتكزات التي يقوم عليها مشروع الدولة اليهودية الذي تحاول إسرائيل تثبيته حتى في ظل غياب شريك فلسطيني أو تفاهم فلسطيني إسرائيلي على قضايا الحل النهائي[1]. المخطط الإسرائيلي، يقوم في بعده الاستراتيجي، على خلق حالة من الهدوء العام لفترة طويلة تصل فيما بعد لشكل من التفاهمات على مستوى دولي وإقليمي وعربي، خصوصا تلك الدول العربية التي يطلق عليها بـ”البراغماتية”. وهو ما قد يفسر شكل وطبيعة التحركات التي عملت عليها إسرائيل في السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط[2].
تقوم الرؤية الإسرائيلية في ترتيب علاقتها بمنطقة الشرق الأوسط، بالعموم، والخليج العربي على وجه الخصوص، انطلاقا من مؤشرات عدة لإمكانية القبول بها على أرضية تحقيق سلام شامل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد شكلت مبادرة السلام العربية التي طرحها ولي عهد المملكة العربية السعودية، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، في القمة العربية في بيروت آذار/مارس2002، وأقرتها القمة في حينه، مرتكزًا أساسيًا نحو تطلعات الدول العربية في عمومها ودول الخليج العربي بشكل خاص لإمكانية انفتاح العلاقات مع إسرائيل، إذ جاء إعلان المبادرة في حينه ضمن الرؤية العربية القائمة على تحقيق السلام العادل والشامل كخيار استراتيجي للدول العربية[3].
إلا أن هذه الرؤية، وقبلها لآءات مؤتمر الخرطوم الذي عقد بعد هزيمة 1967 والتي اشتهرت بـ(لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل)، لم تعد قائمة، بل إن هناك رؤية جديدة تشكلت باتجاه هذه العلاقة تقوم على أساس الاستجابة للموقف الأمريكي الداعم والمحفز لانخراط إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط عبر بوابة الخليج العربي، خصوصا الإمارات العربية المتحدة، التي تحولت عقب اتفاقية “أبراهام” بمثابة عراب التطبيع العربي الإسرائيلي وأحد بواباته للعالم العربي[4].
لقد انطلقت إسرائيل في اتفاقياتها السابقة مع الدول العربية ذات الارتباط المباشر مع حدودها، كما حدث في اتفاقية كامب ديفيد مع مصر سنة 1979، واتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية سنة1993، واتفاقية وادي عربة مع الأردن سنة 1994، من مبدأين؛ تمثل الأول في التماس المباشر للحدود وبالتالي توفير حالة من الاستقرار الأمني مع هذه الدول، وثانيًا: الانخراط فيما بينهما بحروب ومواجهات عسكرية سابقة وبالتالي طي صفحة حالة النزاع والبحث عن قاعدة الاستقرار، إلا أنه في حالة اتفاقيات “ابرهام” أثير التساؤل المركزي حول طبيعة المنطلقات لتوقيع هذه الاتفاقيات ومحددات الذهاب إليها لعدم توفر المقومين الرئيسيين الذين انطلقت منهما مصر والأردن في الذهاب بهذا الاتجاه.
من هنا، فإن اشكالية المقالة البحثية تتمثل في محاولة الإجابة على السؤال المحوري: ما الدور الذي لعبته الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترمب في توقيع اتفاقيات ابراهام ما بين إسرائيل والدول الخليجية والعربية وفي مقدمتها الإمارات، وهل ستستمر الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن بنفس الدور تجاه التطبيع العربي الإسرائيلي؟
وبحثَا عن الإجابة لهذا السؤال، والتعرف إلى طبيعة الأهداف التي تسعى إسرائيل لتحقيقها من هذه الاتفاقيات، والعوامل التي ساهمت في تحقيقها ونجاح الوصول لها خصوصا في الموقف الأمريكي المباشر.
وتتمثل أهمية المقالة باعتبارها محاولة لتقديم قراءة لزوايا مختلفة تجاه السلوك الإسرائيلي تجاه اتفاقيات التطبيع مع دول الخليج العربي، ومدى تعزيز ذلك في التأثير الجيوبولتيكي لإسرائيل لاحقًا، وقدرتها في الاستفادة من هذا الواقع في التأثيرات السياسية المستقبلية.
وتنقسم المقالة إلى ثلاثة محاور، يتناول الأول ملامح العلاقة الإسرائيلية الخليجية وأبرز محطاتها، فيما يركز المحور الثاني على طبيعة وشكل الدعم الأمريكي للتمدد الإسرائيلي في منطقة الخليج العربي ومستقبل هذا الدعم، فيما يركز المحور الثالث على كيفية استحضار الخطر الإيراني كجزء من تعزيز حضورها لتوفير الحماية للخليج العربي.
أولًا: ملامح العلاقة الإسرائيلية العربية
يشكل التطبيع أحد المفاهيم التي تشير إلى عملية سياسية مخطط لها بهدف إعادة العلاقات وتعزيزها ما بين الدول، خصوصًا تلك التي يسجل بينها حروب أو مقاطعات سياسية نتاج ظروف مختلفة[5]، وفي حالة الصراع العربي الإسرائيلي يأخذ مفهوم التطبيع بعدًا أكثر عمقًا ولا يرتبط فقط بالمفهوم العدواني التقليدي للعلاقات ما بين الدول، بل يمتد للحالة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعقائدية، وهذا ما يجعل من القضية الفلسطينية ذات أبعاد ارتباطية أكثر عمقًا مع محيطها العربي والإقليمي كامتداد قومي وإسلامي[6]. ولاعتبار يتعلق بالجذور التاريخية للصراع العربي الإسرائيلي الممتد لجذوره في القرن التاسع عشر.
ويندرج الصراع العربي الإسرائيلي تحت ما يمكن أن يطلق عليه بـ”الصراع الاجتماعي” إذ يقوم على المفهوم الوجودي الإحلالي وليس فقط الصراع على الحدود، كما يلعب البعد العقائدي فيه دورًا محوريًا يعززه الفكر الصهيوني ومحاولات إعادة بناء الرواية الوجودية للاحتلال[7].
وقد انطلق قطار التطبيع العربي مع إسرائيل في محطاته الأول من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي وقعها الرئيس المصري محمد أنور السادات في 26 آذار/مارس 1979 في كامب ديفيد، حيث اتفق الطرفات على إقامة علاقة دبلوماسية واقتصادية وثقافية[8]. وفي 13 أيلول/سبتمبر 1993 وقعت منظمة التحرير الفلسطينية “إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي” مع إسرائيل في أعقاب مباحثات السلام التي تم فيها الاعتراف المتبادل ما بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال وعرفت باتفاقية أسلو التي مهدت لإقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في غزة وأريحا ثم تطور إلى بناء السلطة الفلسطينية[9]. كما لحقت الأردن في ركب قطار التطبيع ووقعت مع إسرائيل معاهدة “وادي عربة” في 26 تشرين أول/أكتوبر 1994، لتصبح ثاني دولة عربية توقع اتفاقية سلام مع الاحتلال بعد مصر[10].
وعلى الرغم من توقف اتفاقيات التطبيع العربية الإسرائيلية منذ اتفاقية وادي عربة حتى نهاية سنة2020، إلا أن ذلك لم يحل دون بعض العلاقات، فقد افتتحت سلطنة عمان كأول دولة خليجية مكتبًا تمثيليًا تجاريًا لها في تل ابيب سنة 1996، ثم اضطرت لاستدعاء ممثلها بعد 5 شهور فقط راهنة عودته بتحقيق تقدم في عملية السلام، ثم أعلنت عن اغلاق المكتب بشكل رسمي في أعقاب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام2000[11]. كما أقامت قطر علاقات تجارية مع إسرائيل، إذ زار رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو سنة 1996 الدوحة وافتتح بشكل رسمي مكتبًا تجاريًا إسرائيليًا استمر بالعمل حتى اندلاع الفلسطينية الثانية[12]. ورغم ذلك التقت العديد من الشخصيات الإسرائيلية والخليجية ضمن مؤتمرات دولية، فيما استضافت العديد من الدول العربية والخليجية الوفود الرياضية الإسرائيلية ضمن المباريات العالمية، وهو ما كان يطلق عليه بالتطبيع الرياضي[13].
شكل طرح المملكة العربية السعودية ما عرف بمبادرة السلام العربية في قمة بيروت 2002، نقلة أخرى لمنظور العلاقة العربية الإسرائيلية، خاصة وأن هذا الطرح جاء من الرياض وهو ما فهم إمكانية القبول بالكيان الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة سنة1967[14]، في المقابل جوبهت برفض إسرائيلي يعكس طبيعة الأطماع التوسعية التي يقوم عليها الكيان المحتل والرافض لفكرة التراجع، وهذا ربما ما يعزز الرؤية المستقبلية التي تسعى إسرائيل لتعزيزها من تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية من منطلق التوسع الوجودي في منطقة الشرق الأوسط.
في كانون الثاني/يناير سنة2020، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في مؤتمر مشترك مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عما أسماه بخطة السلام أو “صفقة القرن” التي بموجبها يتم إضفاء شرعية على وجود الكيان الإسرائيلي ومنحه قبولًا في المنطقة العربية، إضافة لتعزيز الهوية اليهودية من خلال الإعلان عن أن مدينة القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل. كانت هذه الصفقة بداية الإعلان عما تسعى له الإدارة الأمريكية والذي توج في أيلول/سبتمبر2020، من ذات العام في توقيع اتفاقيات التطبيع مع الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين تحت مسمى اتفاقيات “أبرهام”[15]. ثم لتلحق بعد ذلك السودان والمغرب في ركب الدول العربية المطبعة علاقاتها مع إسرائيل[16].
يتضح أن العلاقة الإسرائيلية العربية والخليجية، وأبرز المحطات التي بنيت عليها أو أسست لها، اعتماد إسرائيل على طول النفس في تطبيع العلاقات حقق لها أهدافًا على مستويات عدة، خصوصًا في قضية تعزيز وجودها دون أن تتراجع عن حلمها الاستيطاني الاستعماري، هذا الأمر قد يجعلها تتمسك أكثر في رؤيتها للتعامل مع المنطقة العربية. أضف إلى ذلك اختيار التوقيت المناسب لإبراز هذه العلاقات وإخراجها للعلن حتى وإن استمرت لسنوات طويله طي الكتمان أبو بعلاقات غير مباشرة كما هو الحال في العلاقات الإسرائيلية الإماراتية والبحرينية.
ثانيًا: رعاية أمريكية متواصلة
يناقش هذا المحور من المقالة البحثية قضيتين؛ الأولى تتمثل في الجهود الأمريكية المتتابعة في تعزيز الوجود الإسرائيلي في المنطقة من خلال العديد من المبادرات والمشاريع التي طرحتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة1948 حتى سنة 2020، والتي كانت بمثابة الأسس التي قام عليها التمهيد لقبول إسرائيل ضمن منظومة الشرق الأوسط. فيما تناقش القضية الثانية؛ الدور الأمريكي المباشر في اتفاقيات التطبيع التي وقعت ما بين إسرائيل ودول الخليج العربي خصوصا اتفاقيتي التطبيع مع الإمارات والبحرين.
ففي أيار/مايو1948، اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بإسرائيل كدولة مستقلة، حيث كانت أول دولة تقدم على هذه الخطوة[17]، وهو ما أسس لمفهوم الرعاية المطلقة لدولة الاحتلال والتي سيكون لها ما بعدها في الدعم اللامحدود، وهذا ربما يفسر واحدة من الأطروحات التي تقوم على أن إسرائيل تمثل مشروعًا لتحقيق أهداف واشنطن في المنطقة، وبالتالي تحاول توفير سبل القوة والعيش والاستمرارية والتوسع لهذا المشروع بما يحقق الأهداف التي وضعت له منذ بدايته.
فعلى امتداد السنوات من 1949 حتى 2000 طرحت الإدارات الأمريكية العديد من المشاريع التي كانت تمزج ما بين تصفية القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع المحيط الشرق أوسطي بهدف توفير مناخ لاستمراريتها[18]؛ من بين هذه المشاريع خطة “مكفي للتطوير الاقتصادي سنة 1949″، بإشراف مساعد وزير الخارجية الأمريكية جورج مكفي التي هدفت إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول التي هجروا إليها مقابل تقديم مساعدات اقتصادية لهذه الدول. ومشروع “جونستون 1953 – 1955″، الذي سمي بـ”مشروع الأنماء الموحد لموارد مياه نهر الأردن”، ومشروع “جون فوستر دالاس 1955-1956″؛ الهادفين لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن. فيما حاول مشروع ” سكرانتون 1968″، طرح فكرة ضمن القطاع والضفة للأردن ومنع وجود القوات الأردنية في الأراضي الفلسطينية، تبعه مشروع “مبادرة روجرز1970” لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242 وتحقيق الاعتراف المتبادل بين كل من مصر والأردن من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى في خطوة للقبول الشرعي بوجود إسرائيل بالمنطقة[19].
لم تتوقف المساعي الأمريكي في الدعم لإسرائيل عند هذا الحد، بل جاء مشروع بريجنسكي 1977 لمنح الأردن بعض الصلاحيات بالضفة مقابل أن تظل القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ومشروع ريجان 1982 الذي أطلق عليه “مبادرة سلام أمريكية لشعوب الشرق الأوسط”، ومبادرة جورج شولتز 1988 لإقامة سلام شامل لكل دول المنطقة، ثم طرحت مبادرة جمس بيكر 1989 لكل من إسرائيل ومصر لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية وتسوية شاملة استنادا للقرارين 242 و338، وبعدها طرح الرئيس جورج بوش الأب رؤيته للسلام وفق مبدأ “الأرض مقابل السلام”، حيث توجت هذه الجهود في الوصول إلى التفاوض السري في أوسلو، ونتج عنه اتفاق المباديء سنة 1993، وما تلاها من اتفاقيات وقعت برعاية وتحفيز وغطاء أمريكي، حتى جاءت خطة ترمب التي طرحها في سنة 2017 وسميت بصفقة القرن والتي توجت برعاية واشنطن للعديد من اتفاقيات التطبيع في أيلول/سبتمبر2020[20].
وفي نقاش القضية الثانية من هذا المحور، نعرج على الدور الأمريكي الواضح الذي واصلته إدارة ترمب في تطبيع العلاقات الإسرائيلية الخليجية، فقد رحبت إسرائيل بتولي ترمب رئاسة الولايات المتحدة وربطت وصوله لإدارة الحكم بقدرته على الدعم المباشر لإسرائيل في الاستمرار بمشروعها الاستيطاني، إضافة للتوليفة التي جاء بها من مساعدين ومستشارين بمن فيهم صهره جاريد كوشنر صاحب التأييد الواضح والقوي لحركة الاستيطان[21].
برزت مواقف ترمب وإدارته الداعمة لإسرائيل من خلال عدة محطات وخطوات، أعلنت إدارة ترمب في كانون أول/ديسمبر2017 اعترافها بالقدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، وفي أيار/ مايو 2018 أصدر ترمب قرارا بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كما أعلن في آب/أغسطس 2018 توقف واشنطن عن تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومن ثم اغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن الذي صدر في أيلول/سبتمبر2018.
التسلسل الزمني لخطوات إدارة ترمب تجاه الدعم الواضح لإسرائيل، مهد بشكل طبيعي للانتقال لمفهوم أخر بعدما همش القضية الفلسطينية ضمن أولياته السياسية، وبات الطرح الذي يركز عليه في الوجود السياسي لإسرائيل في المنطقة العربية من بوابة الخليج العربي، في هذا الإطار عملت إدارة ترمب إلى أمرين:
- إشراك دول الخليج العربي في التسويق لصفقة القرن أو ما أطلق عليه خطة السلام التي طرحها ترمب، وهذا كان واضحًا من خلال احتضان مؤتمر البحرين، ومن ثم محاولة الضغط على الفلسطينيين من خلال دول الخليج سيما الإمارات والسعودية، وتكفل دول الخليج بتوفير التمويل للمشاريع التي تتضمنها الخطة[22].
- مهد لإقامة علاقات تطبيق معلنة وواضحة ما بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية، والتي كانت مقدمة لإعلان اتفاق التطبيع مع الإمارات والبحرين[23].
يتضح من النقاش في هذا المحور أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تسير وفق سياسة ثابتة لدعم إسرائيل، إلا أن إدارة ترمب تميزت عن غيرها من الإدارات في تقديمها خطوات عملية ومباشرة وذهب إلى حد بعيد من خلال تحويل الأفكار المتعلقة بتعزيز العلاقات الإسرائيلية العربية إلى حالة واقعية من خلال رعايتها المباشرة لاتفاقيات التطبيع والتي تركزت في نهاية سنة 2020 على منطقة الخليج العربي ثم انطلقت منها بتجاه العديد من العواصم العربية، وهذا ربما يسهل الطريق أيضًا أمام إدارة جو بايدن الذي يسير على نهج من سبقه في تقديم الدعم المعلن لإسرائيل ويحاول تعزيز وجودها في منطقة الشرق الأوسط بشكل أكبر.
ثالثًا: استحضار الخطر الإيراني
أسست الولايات المتحدة الأمريكية لمفهوم الخوف من الخطر الإيراني القادم للشرق الأوسط، بهدف تعزيز حضورها الأمني والعسكري لحماية المصالح من هذا الخطر، واستطاعت أن تدير هذه الرواية بشكل من الذكاء من خلال أمرين؛ الأول: خلق حالة النزاع الداخلي في منطقة الشرق الأوسط وإدخال العديد من الأطراف سيما السعودية والإمارات ضمن لعبة الحرب لمواجهة إيران أو الأطراف التي تدعمها في المنطقة كما هو الحال في اليمين، وسوريا. والأمر الثاني: الإبقاء على استحضار الملف النووي الإيراني كملف ضاغط[24].
تزامنا مع هذه الظروف، كانت واشنطن تخطط لخطوة متقدمة فيما يتعلق بالشرق الأوسط وهي الانسحاب من أفغانستان والعراق وتقليص الوجود العسكري لها في المنطقة، وهذا ما خرج للعلن في ظل إدارة بأيدن وأعاد إلى المقدمة سؤال يطرح؛ هل يمكن أن تتخلى واشنطن عن حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط عموما والخليج العربي بشكل خاص؟، وهو ما يعني أن الفراغ الذي سوف تتركه واشنطن في المنطقة من الممكن أن يكون هناك بديل جرى التحضير له في السنوات الأخيرة[25].
التحول الاستراتيجي للوجود الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط بعد عقدين من الزمن يشير إلى تغير بمفاهيم الصراع والمصالح وهذا يمكن قياسه من جانين[26]:
الجانب الأول: سعي دول المنطقة إلى التحالف أو تشكيل محورية جديدة تحميها من الخطر الإيراني كما سوق له أمريكيا وإسرائيليا. وبالتالي فإن الانسحاب الأمريكي وإن كان غير مكتملا حتى اللحظة فإنه يدفع بهذه الدول للبحث عن بديل أمني، وهذا ربما يفسر توقيع البحرين لاتفاقية عسكرية مع إسرائيلية عقب زيارة وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس، وإقامة قاعدة عسكرية إسرائيلية في المغرب بعد توقيع اتفاقية التطبيع معها هي الأخرى.
أما الجانب الثاني: سعي إسرائيل لتشكيل قواعد عسكرية وأمنية قريبة من طهران لمنعها من استكمال مشروعها النووي، فإسرائيل لم تنفك من استهداف البرنامج النووي الإيراني بشتى الوسائل والطرق، وما كشف عنه من الاتفاق الأمني الذي وقع ما بين إسرائيل والبحرين تخصيص ميناء بحري في البحرين بهدف تحويله لقاعدة عسكرية بحرية إسرائيلية من شأنها أن تكون نقطة الانطلاق لتوجيه أي ضربه لإيران.
يتضح أن لكل طرف من أطراف معادلة التطبيع له مصالحه الخاصة، فالإمارات تحاول أن تلعب دورًا إقليميًا يعزز من مكانتها لدى واشنطن عبر بوابة إسرائيل، وهذا ربما ما حاولت إسرائيل تسويقه بشكل كبير، أضف إلى الهدف المتعلق بالحماية الأمنية عبر تقنيات التجسس الإسرائيلية التي باتت تمثل واحده من أكبر صادراتها للعالم. في المقابل فإن البحرين تسعى هي الأخرى لاكتساب دور سياسي، إلا أن البعد الأمني المتعلق بالخوف الإيراني بالنسبة لها في مقدمة هذا الاهتمام.
رابعًا: الجغرافيا السياسية لإسرائيل بمنطقة الخليج
سعت إسرائيل منذ قيامها إلى تعزيز مجموعة مفاهيم تنطلق منها لحماية وجودها في المنطقة، إذ أنها قامت على حشد كامل الطاقات لترسيخ حقيقة “الوطن القومي لليهود” والتي لا يمكن أن تتشكل في ظل وحدة جغرافية عربية، وهو ما تسعى له في إبقاء حالة التفتت العربي بشكل أساس، ومجابهة الخطر الإيراني من جانب آخر، إذ يتصدر هذا الأخير أوليات تل أبيض في ترسيم علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع دول المنطقة[27].
وفي هذا الإطار، أرسل بن غوريون في سنة 1958رسالة إلى الرئيس الأمريكي إيزنهاور، قال فيها: “عوامل الوحدة العربية تعمل بنشاط، وإذا نجح مسعاها فإن حصار إسرائيل يصبح كاملا، وتصبح جيوش الدول العربية قادرة على أن توجه إليها ضربات خطيرة من جبهات متعددة، وسيعني ذلك تدهورا خطيرا في مقتضيات أمن إسرائيل، لأنه كما تعلم بخبرتك العسكرية الفذة، ليس لإسرائيل أي عمق من الناحية الجغرافية”[28].
تشير رسالة بن غوريون إلى منطلقين سعت لهما إسرائيل منذ وجود كيانها على الأرض الفلسطينية سنة 1948؛ أولهما أنها لا تقبل بوجود حالة من الوحدة العربية، لأن مجرد وجود هذا الجسم يشكل خطرا على كيانها، وبالتالي تسعى بكل الأدوات بما فيها الدول الراعية لها إبقاء هذه الخريطة المفتتة. الثاني يتمثل في أطماع التمدد الجغرافي للوصول إلى عمق الشرق الأوسط، ولهذا يتم استكمالها من خلال عمليات التطبيع.
في دراستين حديثتين صدرتا عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أولهما بعنوان “عام على اتفاقات إبراهيم: ارتقوا بخطى التطبيع” للباحثين في المعهد يؤال غوزانسكي وأودي ديكيل، ودراسة “عام على اتفاقات إبراهيم: إنجازات وتحديات وتوصيات لإسرائيل”ليؤال غوزانسكي بمشاركة ساره فيونور. تستعرضان بعد عام على توقيع اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين المغرب والسودان الإنجازات التي تم التوصل إليها، وتشير الدراستين إلى عدد من النقاط أبرزها[29]:
- هناك قبول مسلم به لوجود إسرائيل في المنطقة العربية بعد أن كان هذا الوجود مرفوض بشكل قاطع.
- رغم وجود تباين في الأهداف والدوافع لتحقيق اتفاقيات التطبيع، إلا أن الإمارات عملت بشكل متسارع إلى تحقيق الاتفاق من مجرد اتفاقية إلى سياسات تطبيقية نتج عنها مجموعة من النشاطات السياسية والاقتصادية والأمنية.
- كان هناك خوف على مسار اتفاقيات التطبيع خصوصا بعد الأحداث التي شهدها الشيخ جراح وما تبعه من مواجهة عسكرية في قطاع غزة، إلا أن صمود الاتفاقية يرجح أن هذه الاتفاقيات سوف تصمد ولن تتعرض لأي هزات مستقبلية.
في قراءة للسلوك الإسرائيلي وتعاملها مع الدول العربية يتضح أنها تتعمد إلى إعادة الهيكلة التامة لجغرافيا المنطقة بما يضمن أولًا وجودها السياسي داخل منطقة الشرق الأوسط. وثانيًا تأثيرًا كعنصر يتحكم في قطاعاته المختلفة من خلال السيطرة بعناصر القوة التي تمتلكها والمتمثلة في التعليم والتقنية والاقتصاد[30].
الخاتمة:
ناقشت هذه المقالة في محاورها منطلقات الاهتمام الإسرائيلي في اتفاقيات التطبيع التي عقدتها مع الدول العربية بشكل عام، ودول الخليج العربي بشكل خاص، والتي تحاول من خلالها تحقيق جملة من الأهداف:
- ضمان التفوق العسكري والأمني لإسرائيل في المنطقة، وهذا ينتج من خلال إحداث حالة من التبعية لهذه الدول لإسرائيل وأنظمتها التقنية والاقتصادية، بل تحولها إلى صاحبة الإلهام في هذا الإطار.
- تحقيق الاختراق الجيوبلوتيكي لإسرائيل إلى منطقة الخليج العربي بهدف تحقيق الهدف الأمني المقابل للخطر الإيراني الذي تخشاه إسرائيل، وتحقيق مبدأ التحكم في سياسات المنطقة بما يعزز التوفق الإسرائيلي وسيطرتها على المقدرات الرئيسية.
- تحويل منطقة الخليج العربي إلى بوابة عبور لإسرائيل إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، خصوصا في علاقاتها مع دول شرق أسيا، أو استخدامها للوصول إلى إفريقيا.
ويتضح من المحاور التي ناقشتها المقالة، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية مثلت وما زالت الجهة الرعاية والداعمة لعقد اتفاقيات التطبيع ما بين إسرائيل ودول الخليج، وكذلك الحال بالنسبة لباقي دول الشرق الأوسط. كما أن استحضار الخطر الإيراني إلى المنطقة من بوابة خلق الذريعة الأمنية لمواجهتها نجحت إلى حد بعيد في تطبيقها بما يحقق الهدف من وجود إسرائيل بمنطقة الخليج.
[1] مركز الجزيرة للدراسات، مخطط استراتيجي للساحة الإسرائيلية الفلسطينية، 10 كانون الأول/ديسمبر2018، https://studies.aljazeera.net/ar/bookrevision/2018/12/181210101237990.html
[2] مكرم السعدي، المُعـلَنُ والمَخفِـيُّ في اتفاق “أبراهام”، مركز الجزيرة للدراسات، 8تشرين الأول/أكتوبر2020، https://studies.aljazeera.net/ar/article/4799
[3] صحيفة السفير، بيروت، 29/3/2002.
[4] شرحبيل الغريب، بينيت في الإمارات.. ماذا تريد إسرائيل؟، 14كانون الأول/ديسمبر2021، https://www.almayadeen.net/articles
[5] سعيد يقين داود، التطبيع بين المفهوم والممارسة، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة بيرزتت، رام الله، 2002، ص7.
[6] ساجدة نوفل، البعد الديني للصراع العربي – الصهيوني (الدولة اليهودية: دراسة حالة)، رسالة ماجستير غير منشور، جامعة الشرق الأوسط، عمان، الأردن،2018، ص21.
[7] أحمد ثابت، جوانب الصراع العربي الإسرائيلي ومجالاته، 3تشرين الأول/أكتوبر2004، https://www.aljazeera.net/2004/10/03
[8] مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وثيقة: نص معاهدة السلام بين جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل، بيروت، 1979، صص3-56.
[9] وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، وثيقة: اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ- حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية)، 13أيلول/سبتمبر1993، https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=4888
[10] مجلة الدراسات الفلسطينية، وثيقة: معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، ، مجلد5، العدد20، خريف1994، بيروت، ص97.
[11] الإمارات اليوم، عُمان تستبعد إعادة فتح المكتب التجاري الإسرائيلي، 15نيسان/أبريل2008، https://www.emaratalyoum.com/local-section/2008-04-15-1.188273
[12] موقع المحيط، هل يوجد سفارة إسرائيلية في قطر، 14آب/أغسطس2000، https://www.almuheet.net/post/137276.
[13] مرح أنور، المقاطعة الرياضية: الدفاع الأخير ضد التطبيع؟، 13أيلول/سبتمبر2019، https://alassas.net/4324/.
[14] الجزيرة نت، وثيقة: النص الكامل لمبادرة السلام العربية لعام 2002، 28آذار/مارس2007، https://www.aljazeera.net/news/arabic/2007/3/28
[15] تونجاي قارداش و سيرا جان، من يدعم صفقة القرن ولماذا؟، 22شباط/فبراير2020، https://www.aa.com.tr/ar
[16] عوض الرجوب، التطبيع العربي مع إسرائيل..بين الفتور والتحالف، 25حزيران/يونيو2021،https://www.aa.com.tr/ar -/2284773
[17] موقع السفارة الأمريكية في القدس، https://il.usembassy.gov/ar/our-relationship-ar/policy-history-ar/.
[18] وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، صفقة القرن وخطط ومشاريع الولايات المتحدة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، 2شباط/فبراير2022، https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=6orbMEa27727420149a6orbME
[19] نفس المصدر.
[20] نفس المصدر .
[21] جوناثان ماركوس، ما الذي تعنيه لاسرائيل رئاسة ترامب؟، 7شباط/فبراير2017، https://www.bbc.com/arabic/world-38892642
[22] أحمد علي حسن، شارة “صفقة القرن” تنطلق.. كل ما تريد معرفته عن “مؤتمر البحرين”، 24حزيران/يونيو2019، http://khaleej.online/gRBXRZ
[23] إيهاب الغربي، سياسية التطبيع انعكاس لصفقة القرن، الميادين، 19تشرين الثاني/نوفمبر2018، https://www.almayadeen.net/articles/blog/917102
[24] مصطفى عثمان الأمين، التحولات في العلاقات العربية الإسرائيلية 2002-2021 وانعكاساته على مستقبل القضية الفلسطينية، مجلة دراسات شرق أوسطية، العدد97، خريف2021، ص25.
[25] د. إف. جريجوري جوز، ماذا يعني “انسحاب” الولايات المتحدة من الشرق الأوسط؟، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، 10كانون أول/ديسمبر2021، https://agsiw.org/ar/what-does-u-s-withdrawal-from-the-middle-east-mean-arabic/
[26]الميادين نت، “إسرائيل” والبحرين توقعان على اتفاق تعاونٍ أمني، 3شباط/فبراير2022، https://www.almayadeen.net/news/politics
[27] المركز الفلسطيني للإعلام، على مشارف 2022.. هل تعاني إسرائيل أزمة وجودية؟، 10كانون أول/ديسمبر2021، https://palinfo.com/300631
[28] أحمد سعيد نوفل، دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي، مركز الزيتونة للدراسات والأستشارات، الطبعة الثانية، بيروت، 2010، ص117.
[29] Yoel Guzansky and Udi Dekel” A Year since the Abraham Accords: Pick up the Pace of Normalization”, No. 1508, August 19, 2021, https://www.inss.org.il/publication/abraham-accords-one-year/
[30] نواف الزرو، الأمن الإسرائيلي وتجريد العرب من عناصر القوة، 29أيار/مايو2013، https://www.aljazeera.net/opinions/2013/5/29
.
رابط المصدر: