“اتفاق أوسلو” بعد 31 سنة… كيف بدأ وأين انتهى؟

في الرابع من شهر ديسمبر/كانون الأول 1992 رُتّب لقاء سري في فندق كافانديش بمنطقة “بيكاديللي سركس” في لندن، جمع بين البروفيسور الإسرائيلي يائير هيرشفيلد، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، والمفاوض الفلسطيني أحمد قريع (أبو علاء). لم تكن الأجواء توحي بأنهما قادران على التوصل إلى أي اختراق، بعد سلسلة من الهجمات نفّذتها حركة “حماس” في الشهر نفسه، منها اختطاف جندي إسرائيلي ومقتله في 13 ديسمبر، مما أدى إلى اعتقال 415 مواطنا فلسطينيا وترحيلهم إلى جنوب لبنان.

عرّاب المفاوضات السرية كان السياسي النرويجي تاريه رود لارسن، الذي كان يشغل في حينها عمادة معهد العلوم التطبيقية في أوسلو. كان هيرشفيلد صديقا مقربا ليوسي بيلين، نائب وزير الخارجية شيمعون بيريز في حكومة إسحاق رابين، وقد فاتحه بالوساطة النرويجية، وكان جواب بيريز هو الصمت، ما عده هيرشفيلد علامة قبول.

لم يعلموا إسحاق رابين بالمفاوضات بداية، ولا حتى إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون التي دخلت البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 1993. شيمعون بيريز وياسر عرفات فقط كانا على علم باللقاء، وبعدهما محمود عباس (أبو مازن) الذي قال لأحمد قريع: “في إسرائيل لا يوجد شيء اسمه: أكاديمي إسرائيلي مستقل.

اشترط بيريز على الفلسطينيين العودة إلى واشنطن إن أرادوا الاستمرار بمسار أوسلو، وبالفعل عقدت جلسة تاسعة من المباحثات في العاصمة الأميركية يوم 27 أبريل، ولكنها لم تحقق أي تقدم

جميعهم يعملون إما مع الموساد أو مع وزارة الخارجية”. اقترح “أبو مازن” استمرار المفاوضات ونقلها إلى أوسلو لتكون برعاية كاملة من تاريه رود لارسن، مع توسيع الوفد الفلسطيني المفاوض بعد أخذ موافقة من عرفات، ليضم حسن عصفور المقرب من “أبو مازن”، والاقتصادي الفلسطيني ماهر الكرد. ثم اتفق الطرفان على إعلام رابين أولا، والولايات المتحدة من قبل إسرائيل، والجانب المصري بواسطة الفلسطينيين.

المقدمة كانت في قطاع عزة

في 13 يناير 1993 عقد الاجتماع الأول في مدينة ساربسبورغ القريبة من العاصمة النرويجية، وبعدها بيومين حضّر الإسرائيليون مسودة إعلان مبادئ، فيها تعهد بالانسحاب من قطاع غزة الفقير والمزدحم سكانيا، الذي كان يقطنه مليون مواطن فلسطيني يشكلون تهديدا داخليا لإسرائيل. كان هيرشفيلد يعلم مدى صعوبة إدارة القطاع من الناحية الأمنية والسياسية، وأن رئيس الوزراء الأسبق ديفيد بن غوريون وصف غزة بالسرطان، وقال رابين إنه ينتظر يوما “تغرق فيه غزة بالبحر”. وقد أجرت صحيفة “معاريف” استطلاع رأي ذلك الصيف، جاء فيه أن 77 في المئة من الإسرائيليين يؤيدون الانسحاب من غزة.

 

اشترط بيريز على الفلسطينيين العودة إلى واشنطن إن أرادوا الاستمرار بمسار أوسلو، وبالفعل عقدت جلسة تاسعة من المباحثات في العاصمة الأميركية يوم 27 أبريل، ولكنها لم تحقق أي تقدم

 

 

مسار واشنطن المتعثر

جاء اللقاء الثاني في أوسلو يوم 11 فبراير/شباط 1993، وكان شيمعون بيريز قد ادعى أنه لم يسمع باسم أحمد قريع من قبل، وطلب إلى هيرشفيلد أن يطلب من المفاوضين الفلسطينيين رفع مستوى التمثيل، للتأكد من أن المباحثات تجري بعلم “الختيار” ومباركته. كانت مفاوضات واشنطن قد تعثرت يومها، والتي انطلقت من رحم مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، وأراد بيريز لمسار أوسلو أن ينعشها، لا أن يكون بديلا عنها، وذلك للضغط على الجانب السوري الذي كان يفاوض الإسرائيليين أيضا. وقد اشترط بيريز على الفلسطينيين العودة إلى واشنطن إن أرادوا الاستمرار بمسار أوسلو، وبالفعل عقدت جلسة تاسعة من المباحثات في العاصمة الأميركية يوم 27 أبريل/نيسان، ولكنها لم تحقق أي تقدم.

أبي ولد في القدس… ماذا عن أبيك؟

في 13 مايو/أيار 1993 عاد هيرشفيلد وأبو علاء إلى أوسلو، بعد تكليف مدير وزارة الخارجية الإسرائيلية يوري سافير بالمشاركة. توجه الأخير من تل أبيب إلى باريس وادعى أنه سيغادرها إلى مدينة كان الفرنسية للقاء زوجته، وبعد أن وضع شاخصة “عدم الإزعاج” على باب غرفته بالفندق، توجه سرا إلى النرويج. سأله أحمد قريع: “من أين أنت يا سيد سافير؟” أجابه سافير: “من القدس” فأكمل أبو علاء: “ووالدك، من أين؟”. رد سافير: “والدي ولد في أوروبا”. فابتسم أبو علاء وقال: “… ولكن والدي ولد في القدس، وكذلك جدي وكل أجدادي”. أجاب سافير بشيء من النفور والانزعاج: “هل تريد العودة بنا إلى عهد الملك داود؟”، رد قريع: “هناك الكثير من الأمور التاريخية لا يمكن لنا أن نتفق عليها، فدعنا نتفق إذن على المستقبل”.

 

رويترز رويترز

أرييل شارون أثناء مغادرته منطقة المسجد الأقصى في البلدة القديمة بالقدس في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 

خرج الرجلان بمفردهما إلى جولة في الطبيعة، وقررا عدم التطرق إلى موضوع القدس، بعد أن قال إسحاق رابين لأعوانه في إسرائيل: “لا أحد يمكنه المزايدة علي في القدس… أنا الذي حررتها ولن أتخلى عنها أبدا”.

قال أبو علاء لسافير إن أبو عمار يريد وجودا في الضفة الغربية، ويطرح على الإسرائيليين تسليمه مدينة أريحا لكي يتمكن من الترويج للاتفاق عربيا وداخليا، وبين الفصائل الفلسطينية التي ستعارضه، مثل حركة “حماس” والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. قال أبو عمار: “أريد غزة وأريحا ماذا أفعل بإعلان المبادئ؟ هل أضعه في إطار أعلقه على الحائط؟”. اتصل الإسرائيليون بمحاميهم جويل سينجر، وأرسلوا له نسخة من الاتفاق، وطلبوا إليه المجيء إلى تل أبيب لمناقشته وعرضه على إسحاق رابين الذي كان يثق برأيه القانوني. عرض على المحامي سينجر القبول بالانسحاب من غزة، ومعها أريحا، مقابل وقف الانتفاضة الأولى المشتعلة منذ سنة 1987، فقال له أعضاء الوفد الإسرائيلي المفاوض: “لن يوقفوا الانتفاضة قبل أن نعترف بهم ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني. هذا مطلب أساسي بالنسبة لياسر عرفات”. وقال قريع: “الانتفاضة لا يمكن وقفها بقرار. من الضروري أن نعمل سويا على الأرض لإقناع شعبنا، لا أن نتخذ قرارا يضعنا في مواجهة مع الشعب”. بناء عليه عدّلت مسودة المبادئ، وأرسلت نسخة منها إلى عرفات ورابين، ولكي يتأكد الأخير من حسن نوايا عدوه اللدود، طلب إلى وزير خارجية النرويج يوهان هولست الاجتماع به في تونس.

 

كان رابين متوترا للغاية وغير راض عن الاتفاق بشكله النهائي، وعلى الرغم من أن اتفاقية أوسلو ارتبطت باسمه، وكانت سببا رئيسا في مقتله، إلا أنه لم يكن عرابها، وكانت اليد العليا فيها لشيمعون بيريز

 

 

بن غوريون سيكون فخورا

تجددت اجتماعات النرويج، في 27 يونيو/حزيران في معهد العلوم التطبيقية، وفي 25 يوليو/تموز بمدينة هارفورسبول. توصل الطرفان إلى اتفاق نهائي فيه اعتراف متبادل، مع نبذ “منظمة التحرير” للعنف والإرهاب مقابل الاعتراف بها وبياسر عرفات شريكا رئيسا في عملية السلام. وفي مذكراته، يقول المفاوض الأميركي دينس روس إنه قال لشيمعون بيريز بعد قراءة مسودة الاتفاق: “بن غوريون سيكون فخورا بهذا الاتفاق”. وقع على الاتفاق بالأحرف الأولى يوم 18 أغسطس/آب، قبل يومين من عقد الجلسة الختامية في أوسلو. اتصل رابين بالرئيس كلينتون في 9 سبتمبر/أيلول لإعلامه بالنتائج، وفي اليوم نفسه تبادل عرفات ورابين رسائل علنية تدعو إلى طي صفحة الماضي والانتقال إلى مستقبل آمن. أما وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر، فيقول إنه لم يعلم بمسار أوسلو إلا قبل كلينتون بأيام معدودة، في 20 أغسطس 1993، معلقا في مذكراته: “استغربت من مضمون اللقاء وبأن لا شيء منه سُرب إلى الإعلام”. فرد عليه بيريز ضاحكا: “صحيح… لأن كتم الأسرار ليس من صفاتنا الوطنية”.

مجيء عرفات إلى أميركا

تقررت دعوة ياسر عرفات وإسحاق رابين إلى توقيع الاتفاق في حديقة البيت الأبيض يوم 13 سبتمبر 1993، تحت رعاية الرئيس كلينتون وبحضور الرئيسين السابقين جيمي كارتر وجورج بوش الأب، ومعهم ثمانية وزراء خارجية سابقون يتقدمهم هنري كسينجر الذي أشرف على اتفاق فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل سنة 1974، وجيمس بيكر، عراب مؤتمر مدريد سنة 1991. ومن شدة القلق، استيقظ كلينتون في الساعة الثالثة فجرا وجلس يقرأ في الإنجيل، بحثا عن تعبير يمكن وضعه في كلمته. وكان رابين متوترا للغاية وغير راض عن الاتفاق بشكله النهائي، وعلى الرغم من أن اتفاقية أوسلو ارتبطت باسمه، وكانت سببا رئيسا في مقتله، إلا أنه لم يكن عرابها، وكانت اليد العليا فيها لشيمعون بيريز. قال لبيل كلينتون: “سآتي إلى التوقيع… ليس لدي خيار”، ولكنه اشترط على الرئيس الأميركي عدم تقبيل عرفات.

 

كل التفاؤل الذي رافق التوقيع على “أوسلو”، بنسختها الأولى والثانية، ذهب أدراج الرياح مع مقتل إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995، واندلاع الانتفاضة الثانية إثر زيارة آرئيل شارون المسجد الأقصى سنة 2000

 

 

وفي مذكراته يقول كلينتون إنه أمضى وقتا في التدريب مع فريقه على كيفية منع عرفات من تقبيلهم، بمد اليد ومسك ذراعه لإبقاء مسافة أمان بينهما. ولكن لم تكن قبلة “أبو عمّار” هي المعضلة الوحيدة، فقد كان عرفات مصمما على ارتداء لباسه العسكري المعروف، والكوفية على رأسه المتدللة على كتفه على شكل خارطة فلسطين، وأن يحمل مسدسا على خاصرته، فقال له الأميركيون إن السلاح ممنوع في حرم البيت الأبيض. أجاب “أبو عمار” أنه سيفرغه من الطلقات، ولكن كلينتون كان مصرا على موقفه. وعندما وصل عرفات إلى قاعدة أندروز الأميركية العسكرية، كان في استقباله عدد من السفراء العرب، فعانقهم وكأنه لا يصدق أن أقدامه قد حطت في أميركا قائلا: “أندروز يا إخوتي… ياسر عرفات في أندروز!”.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

بن غوريون يتوسط مسؤولين إسرائيليين خلال إحياء ذكرى تيودور هرتزل عام 1948 

عودته إلى فلسطين

في مذكراته، يصف الرئيس محمود عباس تلك اللحظات المصيرية وهو على متن الطائرة من تونس إلى واشنطن للتوقيع على اتفاقية أوسلو: هل هي رحلة العودة إلى الوطن؟ أم هي رحلة التوقيع على التنازل عن جزء كبير من الوطن؟ إن العبء ثقيل والمسؤولية جسيمة، وقد تكون الأخطار أكبر من المكاسب. ماذا ستكون ردود فعل شعبنا في الداخل والخارج؟ وماذا سيكتب عنا التاريخ؟”. في الكنيست الإسرائيلي، صادق على الاتفاقية 61 نائبا وعارضها 50 نائبا، وامتنع ثمانية نواب عن التصويت. عارضتها “حماس” وحركة “الجهاد الإسلامي”، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، حتى داخل “فتح”، ظهرت بعض الأصوات المعارضة ومنها صوت فاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية. سمحت اتفاقية أوسلو للفلسطينيين بحكم ذاتي محدود، ولكنها لم تحدد شكله ولا حدوده النهائية، ولم تتطرق إلى مستقبل القدس. بعدها بأسبوعين، دعت الإدارة الأميركية إلى مؤتمر لتمويل إنشاء الحكم الفلسطيني “المؤقت”، حضرته 46 دولة بلغ مجموع دعمها 2.5 مليار دولار على مدى سنتين، تقدمتهم المملكة العربية السعودية بمئة مليون دولار. في سنة 1994 وقعت اتفاقية غزة-أريحا المتممة لاتفاق أوسلو، التي ولدت من رحمها السلطة الوطنية الفلسطينية، وأعادت ياسر عرفات إلى فلسطين، لينتخب رئيسا في يونيو 1994. ولكن بنيامين نتنياهو كان يفكر جديا بالتعدي على الأراضي الفلسطينية الممنوحة في “أوسلو”، وقد أعرب من سنة 2019 عن مخططه بضم نهر الأردن إلى إسرائيل.

أوسلو الثانية

بعدها بسنتين، وقع الرئيس ياسر عرفات مع رابين في مدينة طابا المصرية على رأس خليج العقبة اتفاقية “أوسلو الثانية” يوم 25 سبتمبر 1995، التي قسمت الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام، أ – ب – ج. كانت هذه المناطق غير متجاورة، يحكم الفلسطينيون وحدهم منها المنطقة (أ) التي تضم 18 في المئة من الضفة الغربية، وبالمشاركة الأمنية مع الإسرائيليين في المنطقة (ب)، وهي تشكل 22 في المئة من الضفة. أما إسرائيل، فترك لها في المنطقة (ج) 61 في المئة من أراضي الضفة، وهي التي تحتوي معظم الموارد الطبيعية. في المنطقة (أ) يعيش اليوم قرابة 2.8 مليون فلسطيني، في رام الله والخليل وبيت لحم ونابلس، وهي خاضعة لسلطة الرئيس محمود عباس. عرّفت “أوسلو الثانية” المنطقة (ج) بأنها: “مناطق الضفة الغربية الواقعة خارج المنطقتين (أ) و(ب)، والتي ستنقل تدريجيا إلى الولاية القضائية الفلسطينية،” بحلول نهاية عام 1999، ولكن ذلك لم يحصل وفيها اليوم أكثر من 200 مستوطنة إسرائيلية يقطن فيها 400 ألف مستوطن.

لكن كل التفاؤل الذي رافق التوقيع على الاتفاقية، بنسختها الأولى والثانية، ذهب أدراج الرياح مع مقتل إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995، واندلاع الانتفاضة الثانية إثر زيارة آرئيل شارون المسجد الأقصى سنة 2000، وصولا إلى وفاة عرفات في 11 نوفمبر 2005 ومؤخرا، مع الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتوغل الإسرائيلي في الضفة الغربية. أجهض بنيامين نتنياهو كل خرائط “أوسلو”، ومسح كل العلامات التي كانت تفصل المناطق (أ) و(ب) و(ج)، ليجعلها أرض معركة مفتوحة على كل المستويات، تشمل أرض فلسطين كاملة، بمن فيها وما فيها.

المصدر : https://www.majalla.com/node/322204/%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A3%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%88-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-31-%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D8%AF%D8%A3-%D9%88%D8%A3%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%87%D9%89%D8%9F

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M