د. محمد عباس ناجي
بعد أن أعلنت الوفود المشاركة في مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي، في 28 يناير الفائت، توقف الجولة الثامنة مؤقتًا والعودة إلى العواصم للحصول على “قرارات سياسية”، بدا أن ذلك يمثل مؤشرًا على وصول المفاوضات إلى مرحلة الحسم التي تتطلب اتخاذ قرارات تتجاوز صلاحيات وفود التفاوض التي تركز على الجوانب الفنية في الاتفاق النووي. بل إن بعض الاتجاهات ذهبت إلى أبعد ذلك، مرجحةً أن تلك الوفود نجحت في تسوية الخلافات العالقة و”إغلاق الأقواس المفتوحة” التي كانت تشير إلى عمق التباين في المواقف حول القضايا الرئيسية في المفاوضات.
ربما لا يمكن استبعاد حدوث ذلك، لا سيما أن كل الأطراف المشاركة، بما فيها إيران، تشير إلى حدوث “تقدم” في المفاوضات. لكن كان لافتًا أن إيران بدت حريصة -في الوقت نفسه- على توجيه رسائل بأن المفاوضات لم تنتهِ بعد، وأن ما تم التوصل إليه من توافقات ليس كافيًا، ولم يستوعب شروطها. وجاءت الإشارة الأهم من جانب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، الذي قال في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” في 6 فبراير الجاري: “رغم التقدم المحدود في المحادثات، ما زلنا بعيدين عن تشكيل التوازن الضروري في التزامات الأطراف”.
هذا التصريح تحديدًا يعكس، إلى حد كبير، المقاربة التي تتبناها إيران تجاه المفاوضات التي تجري في فيينا. فإيران تريد الوصول إلى اتفاق لكن ليس بأي ثمن، فهى تسعى إلى اتفاق يستوعب أولًا تحفظاتها على الاتفاق الحالي، ويتضمن ثانيًا عوائد اقتصادية تكون لدى إيران القدرة على اختبارها قبل أن تبدأ في تنفيذ التزاماتها من جديد.
أزمة الثقة
هنا، يمكن القول إن المشكلة الأساسية التي تواجهها إيران وتثير مخاوفها من أي اتفاق نووي محتمل قد يتم التوصل إليه في فيينا تكمن في عدم الثقة في بعض الأطراف المشاركة. إذ إن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وفرضها عقوبات جديدة على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه؛ ما زال ماثلًا أمام إيران، التي لا تستبعد احتمال تكراره من جديد في حالة الوصول إلى هذا الاتفاق المحتمل.
وانطلاقًا من ذلك، فإنها ما زالت تريد الحصول على ضمانات بعدم انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية مجددًا من الاتفاق، وهو ما لا تملك الإدارة الأمريكية الحالية سلطة تقديمه. وربما لا تكتفي طهران بذلك، فهى تسعى في الوقت ذاته إلى الحصول على ضمانات بعدم استجابة الدول الأوروبية للعقوبات الأمريكية في حالة اتجاه واشنطن إلى اتخاذ الخطوة ذاتها مرة أخرى (مع صعوبة التزام الإدارة الأمريكية بتعهد بعدم الانسحاب مجددًا). وبمعنى أدق، فإن عدم الثقة الإيرانية لا ينحصر في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل يمتد إلى الدول الأوروبية أيضًا التي اتهمتها إيران بـ”التقاعس” عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي، وعدم تفعيل آلية “إنستكس” التي كانت مخصصة لرفع مستوى العلاقات الثنائية، نتيجة الضغوط التي تعرضت لها تلك الدول من جانب الإدارة الأمريكية السابقة.
تركيز إيران على مسألة الضمانات انعكس بشكل واضح في تصريح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي قال، في 5 فبراير الجاري: “ما يسعى إليه الوفد الإيراني بشأن الضمانات يأتي على جميع الصعد السياسية والقانونية والاقتصادية، وقد تم التوصل إلى تفاهمات في بعض الأجزاء، لكن الوفد الإيراني المفاوض ما زال يسعى بجدية للحصول على ضمانات ملموسة من الجانب الغربي وضمان التزامه بالتعهدات وفق اتفاق فيينا”.
ويعني ذلك في المقام الأول، أن إيران لن تسارع، في الغالب، إلى إنضاج تسوية لا تستوعب تحفظاتها، بل ستسعى للحصول على تلك الضمانات، التي كان لافتًا في تصريح عبد اللهيان أنها تكتسب طابعًا سياسيًا وقانونيًا واقتصاديًا، بما يعني أن المسألة لا تقتصر فقط على مجرد رفع العقوبات، وإنما على “ديمومة” هذا الإجراء، بمعنى أن ترفع هذه العقوبات وأن يستمر ذلك بصرف النظر عن هوية الرئيس الموجود في البيت الأبيض.
نقل اليورانيوم
ومن دون شك، فإن ما يزيد من حدة المخاوف التي تنتاب إيران من الصفقة المحتملة هو أنها سوف تكون ملزمة، في حال الوصول إليها، بنقل كميات اليورانيوم التي قامت بإنتاجها بمستويات أكبر من 3.67% (وهو المستوى المنصوص عليه في الاتفاق الحالي)، أي الكميات المنتجة بنسبة 20 و60% إلى الخارج. وسوف يسري ذلك أيضًا على أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورًا التي قامت إيران بإنتاجها واستخدامها في عمليات التخصيب، بدلًا من الطراز الأول “IR1” (المنصوص عليه أيضًا في الاتفاق).
وهنا، فإن المشكلة تبدو أكبر بالنسبة لإيران. إذ تخشى من أنها يمكن أن تقوم بذلك ثم تُقْدِم أي إدارة أمريكية جديدة، أو حتى الإدارة الحالية في مرحلة لاحقة، على الانسحاب مجددًا من الاتفاق، بما يعني أنها سوف تفقد في هذه الحالة ورقة الضغط الأهم التي تمتلكها وتستخدمها في المفاوضات الحالية، وهي مواصلة الأنشطة النووية على هذا المستوى الذي يقربها بشكل كبير من “العتبة النووية”، أو بمعنى أدق يساعد في تقليص المدى الزمني الذي تحتاجه للوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
لذا، لم تُبدِ طهران اهتمامًا كبيرًا بالقرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 5 فبراير الجاري، بمنح إعفاءات تسمح للدول، لا سيما روسيا والصين وبريطانيا، بالتعاون مع إيران في برنامجها للأغراض السلمية، خاصة ما يتعلق بمفاعل طهران المخصص للأبحاث ومنشأة آراك لإنتاج المياه الثقيلة، دون التعرض لعقوبات أمريكية، وهي الإعفاءات التي سبق لإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب إنهاء العمل بها في إطار سياسة “الضغوط القصوى” التي تبنتها تجاه إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي.
ففي رؤية طهران، فإن هذه الخطوة لا تمثل “تنازلًا” من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز فرص الوصول إلى صفقة جديدة، وإنما محاولة من جانبها لتسهيل الجانب المتعلق من المفاوضات بنقل المواد والمعدات النووية الإيرانية (اليورانيوم المخصب بنسب تتجاوز 3.67% وأجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورًا) إلى الخارج، حيث كان من الصعب القيام بذلك في ظل وجود تلك العقوبات.
من هنا، فإن إيران بدأت في التركيز على مبدأ “التوازن” كما جاء في تصريح شمخاني، بما يعني -في رؤيتها- الوصول إلى اتفاق يتضمن من العوائد الاقتصادية والتكنولوجية ما يوازي التنازلات التي سوف تقدمها، ليس فقط فيما يتعلق بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67% واستخدام أجهزة الطرد المركزي من طراز “IR1” فقط، وحصر عمليات التخصيب في مفاعل ناتانز (بدأت إيران في تخصيب اليورانيوم داخل مفاعل فوردو أيضًا في إطار تخفيض التزاماتها النووية ردًا على العقوبات الأمريكية)، وإنما أيضًا فيما يتصل بنقل كل المواد والمعدات الأكثر تطورًا إلى الخارج.
وربما يكون ذلك هو نقطة الانطلاق الأساسية للمفاوضات في مرحلة ما بعد عودة وفود التفاوض من عواصمها، حيث ستكون الفترة المتبقية من المفاوضات حاسمة في الإجابة عن السؤال الأهم حول مدى إمكانية الوصول إلى اتفاق جديد يُنهي الأزمة الحالية من عدمه.
.
رابط المصدر: