تعتبر الدراسة احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 علامة فارقة في تاريخ الاحتجاجات في العراق بعد العام 2003، فهي غير مسبوقة، شكلًا ومضمونًا، سواء من حيث سعة انتشارها، أو عمقها الشعبي، أو استمراريتها رغم حملات العنف التي تعرضت لها، أو بمطالبها ذات البعد الاجتماعي السياسي، والأهم دورها في تشكيل هوية وطنية جامعة عابرة للتقسيمات الطائفية والدينية والعرقية.
ولعل من بين أبرز ما يميز الاحتجاجات في العراق، بحسب الأكاديمي عبد الجبار عيسى عبد العال السعيدي، أستاذ الاجتماع السياسي في الجامعة المستنصرية بالعراق، أن الجزء الجوهري منها يحدث في عمق البيئة الشيعية في وسط وجنوب العراق؛ حيث تسود الأَدْلَجَة الدينية، ويغلب فيها الطابع الطقوسي المحافظ وسيطرة أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة، والتي يمتلك معظمها فصائل مسلحة. كما أن هذه الاحتجاجات مثَّلت خروجًا من تفكير الهوية الضيق وحالة الاستقطاب الطائفي إلى تفكير الهوية الوطنية والمواطنة في مجتمع عراقي تحكمه معادلة إثنو-طائفية ثلاثية الأبعاد (شيعة، سُنَّة، كُرد) تعمل فيه السلطة وفق منطق المكوِّنات بدل المواطنة، تلك المعادلة التي كان من نتيجتها سنوات من العنف الطائفي بين عامي 2006 و2007، وسنوات من الفشل على جميع الأصعدة منذ عام 2003.
وتحاول الدراسة الإجابة عن سؤال محوري: لماذا الاحتجاج في البيئة الشيعية؟ وهو السؤال الذي يُعبِّر في الواقع عن إشكالية بحثية مهمة تثير عدة أسئلة: ما دلالة أن تكون المناطق ذات الأغلبية الشيعية بؤرة الاحتجاج على السلطة التي يهيمن عليها أحزاب الإسلام السياسي الشيعي؟ ما دلالات استخدام عبارة “البيئة الشيعية” في هذا البحث؟ إن هذه الاحتجاجات لم تكن شيعية بالمعنى الهوياتي الطائفي طالما أنها تحمل أهدافًا عراقية وطنية، ولم تحمل أية شعارات طائفية أو مناطقية، كما أن المشاركة فيها اتسعت لتشمل كل المكونات الاجتماعية العراقية، لاسيما في العاصمة بغداد، ولذلك جرى استخدام عبارة “البيئة” في هذا البحث أصلًا لتجاوز المعنى الطائفي-السياسي السلبي، وأن هذه العبارة أكثر ملاءمة للتعبير عن الارتباطات المكانية-الثقافية لمجموعة من السكان، بعيدًا عما تعنيه الارتباطات المكانية-العقائدية.
إن محور المشكلة البحثية يكمن في دلالة أن تكون المناطق ذات الأغلبية الشيعية في وسط وجنوب العراق بؤرة مركزية فاعلة ونشطة لحملة الاحتجاجات الشعبية الواسعة والمؤثرة بشدة، وذلك رغم أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، التي تهيمن على السلطة والنفوذ في بغداد والحكومات المحلية في المحافظات، دأبت على نشر فكرة مفادها أن “حكم الشيعة في العراق هو بحد ذاته مكسب تاريخي”.
وتنطلق فرضية البحث من أن احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي كانت ساحتها مناطق البيئة الشيعية، والتي كانت ذروة لسنوات من الاحتجاج، مثَّلت مدركات جديدة مغايرةً سيكون لها تأثير على طبيعة الاجتماع السياسي في تلك البيئة، وبالتالي، على عموم الاجتماع السياسي في العراق بشكل يمكن أن يعيد التماسك للمجتمع بدلًا من التنافر، ويؤسس أيضًا لعلاقات سلطة جديدة قائمة على أساس توزيع هذه السلطة بدلًا من تركُّزها، وذلك ما يسهم بحلِّ مشكلة السلطة وأزمة الحكم التي عانى منها العراق طيلة تاريخه الحديث. ويعتمد الباحث مقاربة سوسيو-سياسية تبحث فيما يمكن أن يُحْدِثه هذا الاحتجاج من إمكانيات تُغيِّر نمط الاجتماع السياسي في البيئة الشيعية من خلال المدركات التي أفرزها.
لقد جرى التركيز على هذا المحور لأهميته البالغة، كما يرى الباحث، في التأسيس لسياق جديد ومتقدم من المتغيرات الاجتماعية في مناطق مهمة وكثيفة السكان من العراق، كانت تعتبر عند كثير من السياسيين ورجال الدين وحتى الباحثين، محسومة الولاء للنظام السياسي الذي تأسَّس بعد عام 2003. وبالتالي، فظهور هذه الاحتجاجات لن يُغيِّر هذا المفهوم النمطي فقط، لكنه سيؤثر على ما يرتبط به من متغيرات سياسية واجتماعية مؤثرة بقوة في مستقبل العراق.
ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن التركيز على هذا المحور ليس ترويجًا لهوية طائفية للاحتجاجات، بحسب الدكتور عبد الجبار عيسى عبد العال السعيدي، لكن مقتضيات البحث العميقة اقتضت هذا التصنيف للمشكلة، كما أن من المهم التنويه إلى أن العاصمة بغداد شهدت مشاركة في الاحتجاجات شملت جميع المكوِّنات، وقد سقط ضحايا من بين المحتجين يمثِّلون كل هذه المكوِّنات إلا أن محدودية المشاركة في محافظات أخرى (سنية وكردية) كانت له ظروفه الخاصة.
ويعاني العراقيون بصورة عامة من تردي الأوضاع الحياتية كالبطالة ومستويات الفقر والفساد وشُحِّ الخدمات المقدمة من قبل الدولة، لكن وطأة هذه الأوضاع كانت الأثقل في مناطق الوسط والجنوب. أما فيما يخص المكوِّنات الاجتماعية الأخرى، فبالنسبة للمناطق الغربية ذات الأغلبية السُّنِّية فإنها قد تعرضت لحملة نزوح كبرى غداة اجتياح تنظيم “الدولة الإسلامية” وما تلاه من معارك تحرير تخلَّلها تدمير شبه كامل لمدن وقرى تلك المناطق التي ما زال قسم من أبنائها في مخيمات النزوح، هذا علاوة على أن تلك المناطق كانت متهمة بأنها مناطق حاضنة لتنظيم الدولة وتنظيمات مسلحة أخرى تناهض النظام السياسي الجديد في العراق. ولذلك يخشى أبناؤها من الخروج بأي مظهر احتجاجي، فقد سبق وأن شهدت هذه المناطق موجة احتجاجات في نهاية عام 2012 والربع الأول من 2013 تطالب بحقوق المنطقة الغربية والكف عن تهميشها، وتم قمعها بالقوة في مطلع العام 2014. أما بالنسبة لإقليم كردستان، فإن التنشئة السياسية ذات النزعة الاستقلالية التي تلَّقاها جيل ما بعد 2003 في الإقليم جعل من الصعوبة بمكان أن يكون هناك اهتمام بالاحتجاجات في المناطق الأخرى من العراق، إلا أن هذا لا يعني عدم الاشتراك المطلق أو التضامن من قبل أبناء هذه المناطق مع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، فقد شارك الكثير من السُّنَّة في بغداد ومن خارجها، وكذلك مواطنون من إقليم كردستان، في العمل الاحتجاجي مع أقرانهم من المناطق الشيعية في بغداد، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحيين وديانات أخرى، كما أن هذه المشاركة لم تكن بالحضور فقط، بل أحيانًا بالدعم المادي والمعنوي. والواقع، أن مشاركة شباب من السُّنَّة بالذات مع أقرانهم الشيعة في تظاهرات الطلبة أو في اعتصامات ساحة التحرير في بغداد قد أعطى زخمًا للفضاء الاحتجاجي الوطني، بعد سنوات من الزخم الطائفي.
وفي إطار المقاربة السوسيو-سياسية التي اعتمدها الباحث وعنوان وفرضية البحث ومشكلته، تعالج الدراسة مسألة العلاقة بين الاحتجاجات، والاجتماع السياسي في محورين رئيسين أحدهما يناقش موضوع الاجتماع السياسي الشيعي، كضرورة تحليلية، بينما يتناول المحور الثاني ما أفرزته الاحتجاجات من مدركات جديدة تتعلق بذلك الاجتماع.
ومن خلال البحث في موضوع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول وما أفرزته من مدركات يمكن أن تؤثر في طبيعة الاجتماع السياسي، خلص الباحث إلى النقاط الآتية:
- إن مجموعة الإدراكات الاجتماعية-السياسية، والسايكو-سياسية التي أفرزتها تلك الاحتجاجات لدى قطاع واسع من جيل الشباب في مناطق البيئة الشيعية، لابد أن تؤدي إلى إعادة نظر في طبيعة الاجتماع السياسي الشيعي. لقد أسهم غموض وتشتت هذا الاجتماع في إشكالية واضحة في عملية بناء الدولة الوطنية الجامعة في العراق، فقد ظلت الدولة منذ تأسيسها تعاني من عقدة اشتراك أو عدم اشتراك الطرف الشيعي في الحكم. ومن أجل ذلك لابد من تمْثِيل تلك المدركات المذكورة بصورة عملية. فعملية إعادة الهندسة الاجتماعية في تلك البيئة -من خلال إعادة بناء المجتمع المدني والطبقة الوسطى والنخبة، وكذلك انتهاج البراغماتية في العمل السياسي، وعدم الارتهان إلى سرديات تقليدية عجزت عن تحقيق تعاطٍ سياسي صحيح، وهي التي ستغيِّر، أو تعدِّل، نمط الاجتماع السياسي في البيئة الشيعية.
- إن مهمة تمْثِيل هذه المدركات تقع على عاتق عدة أطراف بما يشبه المسؤولية التضامنية. فعملية تكامل الاجتماع السياسي العراقي لابد أنها ستعود بالفائدة على جميع المكونات (الشيعية والكردية والسُّنِّية) كونها ستنتج نظامًا ديمقراطيًّا تشاركيًّا حقيقيًّا. ولذلك، ينبغي إسناد واستيعاب هذه التَّمثُّلات الجديدة في البيئة الشيعية حال حصولها من قبل جميع الطيف الوطني، وألا يتم استقبالها وفق منطق تاريخي ثقافي يحيل إلى نزعات واستحقاقات هوياتية. ولعل مهمة التصدي الأكبر لتمثيل تلك الإدراكات الجديدة تقع على عاتق النخب الفكرية والأكاديمية والثقافية، فضلًا عن إسناد النخب الدينية المتنورة سواء أكان ذلك في داخل البيئة الشيعية أم في البيئات العراقية الأخرى.
- من أجل تعزيز اجتماع سياسي جديد في البيئة الشيعية، ينبغي استثمار زخم احتجاجات تشرين في نواح عدة؛ فمن الناحية التنظيمية، ينبغي أن يتم استيعاب الظاهرة الاحتجاجية في العمل السياسي من خلال إنشاء بنى مدنية، تحمل المضامين التي خرج من أجلها المحتجون، وهذه البنى يمكن أن تؤسس لظاهرة حزبية جديدة تحمل برامج أكثر من الأيديولوجيات. ومن ناحية أخرى، ينبغي الانهماك في ملء فراغات الفضاء العام (المنتديات الثقافية العامة، وسائل التواصل الاجتماعي، وسائل إعلام مستقلة، مؤسسات مجتمع مدني، منتديات قراءة…إلخ)، ذلك الفضاء الذي طالما احتلته السلطات السياسية ومن بعدها التكوينات الدينية-السياسية، فهو يوفر فرصة للتحاور الاجتماعي ولممارسة الوظيفة النقدية الفعالة عند الأفراد والجماعات، والاشتراك في صنع السياسة، عن طريق توجه مدني حر غير خاضع للوصاية، فضلًا عمَّا توفره تقنيات الفضاء العام من تحدٍّ لهيمنة القوى التقليدية سواء في المجتمع أو في سلطة الدولة، لكي تحول دون محاولتها الحد من حرية التعبير عن الأفكار العقلانية التي تخدم المصلحة العامة.
رابط المصدر: