عقب القضاء على زعيم تنظيم الدولة داعش أبو بكر البغدادي، يسود جدل بين الأوساط المختلفة حول مصير هذا التنظيم في ظل تراجع نفوذه العسكري وانحساره ضمن جيوب جغرافية محددة في العراق وسورية، وانتقاله من النشاط العسكري المنظم المرتبط بسيطرة على بقع جغرافية مترابطة جيوعسكريًا فيما بينها إلى العمل كخلايا صغيرة في مناطق متفرقة. نشاط هذه الخلايا الإرهابية لا يزال يجعل المخاطر متزايدة لإمكانية شن عمليات انتقامية في أماكن مختلفة ردًا على مقتل البغدادي وهو ما يرفع من الاستحقاق الأمني لدى قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يساندها لمواجهة احتمال شن مزيد من العمليات الإرهابية.
ويرتبط الطرح السابق بمناقشة جدوى السياسات الدولية المعتمدة في مكافحة التنظيم وفاعليتها أمام تباينات عديدة ووجهات نظر مختلفة للتعامل مع هذا الملف، وخصوصًا فيما يتعلق بأسرى التنظيم الأجانب وهروب بعض منهم مؤخرًا من أماكن احتجازهم في سورية ما يعني أن آليات المكافحة لم تنته عمليًا بعد أن انتهت نظريًا بمقتل زعيم التنظيم البغدادي.
وفيما يخص البنية التنظيمية لداعش، فإن امتصاص صدمة مقتل البغدادي لا تزال تنذر بحدوث تغييرات على مستوى قادة الصف الأول، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير استراتيجيات تنظيم الدولة داعش على أصعدة مختلفة منها تأمين الدعم اللوجستي والمالي وتغيير النمط التكتيكي للعمليات الإرهابية بالإضافة إلى اتباع آليات مختلفة للاستفادة من العنصر البشري لديه وخصوصًا النساء. ما سيؤثر بدوره على سلوك التنظيم وإحداث خلافات وانشقاقات في بنيته الداخلية على مستوى القادة والعناصر.
تقييم سياسات الدول الفاعلة في مكافحة تنظيم الدولة داعش
حينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب هزيمة التنظيم بعد قتل البغدادي ومن كان معه في هجوم قوات خاصة أمريكية على مكان سكنه في منطقة باريشا بريف إدلب([1])، رأى مراقبون أن هذا الإعلان لم يكن إلا تسويقًا دعائيًا لحملة الرئيس ترمب القادمة، لأن خطر التنظيم ما يزال محدقًا وموت البغدادي لا يعني بالضرورة نهاية داعش، لأن التنظيمات الإرهابية بشكل عام تستطيع تطوير بنيتها والتأقلم مع المتغيرات التي تحدث، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تطور تنظيمات جهادية تنتمي للقاعدة إلى تنظيمات ذات تماسك وقوة أكبر شكلت في النهاية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ومن ثم تحولت إلى ما بات يُعرف بـ “دولة الخلافة”. فتطور الفكر الجهادي من سلوك الميليشيات إلى فكر إنشاء الدولة وإدارتها كان حجر الزاوية في قدرة داعش على التأثير بشكل أكثر فاعلية لشنِّ هجمات وتهديدات أكثر من بقية التنظيمات الأخرى، وعليه فإن فرضية انتهاء التنظيم بانتهاء قائدته كما كانت ترى القيادة الأمريكية في عهد أوباما عندما أعلنت عن مقتل أسامة بن لادن([2])، لن تكون كافية للحد من النشاط الإرهابي، كما أن قرار ترمب سحب معظم القوات الأمريكية من سورية قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة عن طريق استثمار خلايا التنظيم المتبقية للثغرات العسكرية والأمنية التي سيحدثها هذا الانسحاب لشن عمليات إرهابية حساسة تستهدف في المقام الأول حلفاء واشنطن والتحالف الدولي على الأرض وهي قوات سوريا الديمقراطية والقوات العراقية لمكافحة الإرهاب. وقد كانت عملية انسحاب القوات العسكرية الأمريكية من العراق في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 أحد العوامل الهامة في ظهور التنظيم في العراق، حيث أدى ذلك إلى “الانهيار السريع للتدريب والدعم اللوجستي لقوات الأمن الأمنية العراقية، وعلى إثره حصلت هناك ثغرات أمنية أدت إلى ضعف في جمع معلومات استخباراتية شاملة على الأرض، وتوقف الملاحقة الاستباقية لقادة التنظيم الأمر الذي صعّد وتيرة الهجمات التي خلّفت وراءها أعداد هائلة من الضحايا في المدن بين عامي 2012 و2014”([3])، بالتالي فإن الانسحاب الأمريكي الجزئي الذي كان سببًا في مضاعفة نشاط التنظيم في البداية قد يؤدي إلى نظير مماثل له في الوقت الحالي والعودة خطوة إلى الوراء في آليات مكافحة التنظيم.
إلى ذلك فإن توجهات الرئيس ترمب ورؤيته حول آليات مكافحة التنظيم ذاته تحمل آثارًا سلبية على سياسة التحالف الدولي ككل، حيث أن التراجع في فاعلية الدور الأمريكي في هذا التحالف بعد مقتل البغدادي ستؤدي إلى إضعاف الجهود الأخرى الأوروبية والعربية والإسلامية، ويبدو أن البيت الأبيض يحاول توجيه سياسات تلك الدول نحو التركيز على ما خلفه التنظيم من أسرى ونساء وأطفال([4])، معتبرًا أن هذه الآلية المتمثلة بتقليل عناصر التنظيم وتفريقهم إلى دولهم سيؤدي إلى إضعافه وتفكيك تواصلاته العابرة للحدود، بالمقابل قد يكون هذا التوجه الأمريكي غير فعَّال إذا لم يتم العمل على مسارين مزدوجين الأول استهداف عناصر التنظيم وتفكيكهم والثاني استهداف قادة الصف الأول الذين تمكنوا من إدارة شؤون داعش خلال فترة تنقل واختفاء زعيمهم البغدادي بعد سقوط الرقة عاصمة الخلافة([5]) ما يعني أن عدم التركيز على استهداف القادة المؤثرين في داعش لن يؤدي بالضرورة إلى إنهاكه والتخلص منه.
ماذا تبقى من تنظيم الدولة داعش؟
لا يزال عناصر التنظيم ينتشرون بشكل خلايا في ثلاث مناطق رئيسية أو جيوب صغيرة في سورية تقع بين جنوب دير الزور ومدينة السخنة بريف حمص الشرقي. وفي العراق بالقرب من الشريط الحدودي السوري العراقي جنوب مدينة البعاج. وشن التنظيم قبيل موت البغدادي انطلاقًا من تلك المناطق سلسلة عمليات إرهابية منذ أواخر آذار/مارس حتى 24 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في العراق وسورية وصلت إلى حوالي 330 هجومًا في دير الزور، و103 في الحسكة، و99 في الرقة، و33 في حمص، و10 في درعا، و9 في حلب، و3 في محافظات دمشق. و275 في ديالى و111 في كركوك و95 في نينوى و94 في الأنبار و92 في بغداد و46 في صلاح الدين و25 في بابل([6]). وتشير هذه الأرقام إلى أن معدل نشاط التنظيم كان مرتفعًا خلال سبعة أشهر قبل موت البغدادي، ثم انخفضت فاعلية هذه الهجمات بعد ذلك بسبب دخول التنظيم في إعادة هيكلة لإدارته واختيار الخليفة الجديد ورسم الاستراتيجيات الجديدة لعملياته ما يرفع احتمالية عودة هذه الهجمات بقوة كرد فعل انتقامي على موت البغدادي لكن بعد ترتيب صفوف عناصر التنظيم مرة أخرى، وتعتبر هذه المرحلة فارقة في عملية مكافحة نشاط التنظيم إذ إن عدم ملاحقة الخلايا الإرهابية بشكل سريع وفعال سيكسبها مزيدًا من الوقت الذي ستستثمره لإعادة تنظيم نفسها والهجوم مجددًا، خصوصًا بعد هروب عناصر متطرفة من أماكن احتجازهم في سورية وكذلك في العراق مؤخرًا، وإمكانية انضمامهم إلى تلك الخلايا.
أما الذين لا يزالون قيد الاحتجاز، فمعظمهم في مخيم الهول شرق سورية، الذي يعيش فيه 68 ألف امرأة وطفل مع ملحق للأجانب يضم 11 ألف شخص، ينحدرون من ستين دولة. والوضع في المخيم سيء إلى حد كبير حيث يطبق القاطنون به قوانين تنظيم الدولة داعش حيث تم تشكيل جهاز حسبة لإجراء محاكمات سرية أودت بحياة العديد من النساء والأطفال الذين انتهكوا قواعد التنظيم في المخيم([7]). لذلك تحاول الولايات المتحدة الضغط على حلفائها لاستعادة المحتجزين إلى بلادهم لتنجب خيارات سيئة تتمثل بهروبهم وتكرر سيناريو هروب سجناء سجني أبو غريب والتاجي في العراق عام 2013([8]).
كما أن الوضع في المخيم أيضًا قد يعتبر دافعًا معنويًا لعناصر التنظيم لتنفيذ هجمات تهدف إلى تحرير النساء والأطفال بشكل خاص لإعادة تجنيد النساء والاستفادة من تغطية النقص العددي بسب ازدياد أعداد قتلى التنظيم بالإضافة إلى استكمال عملية بناء جيل جديد من داعش باستغلال الأطفال، أو على الأقل لنقلهم إلى مناطق أخرى خارج العراق وسورية لتشكيل نواة جديدة للتنظيم تنشط خارج منطقة حدود عمليات التحالف الدولي.
وفيما يخص البنية الداخلية للتنظيم، فقد حاولت قيادات الصف الأول تصدير صورة متماسكة لفروعها (ولايات داعش) عن طريق إظهار الإجماع على اختيار الخليفة الجديد “أبو إبراهيم الهاشمي”([9])، ولكن في واقع الأمر فإن المعلومات تشير إلى وجود خلافات حادة داخل التنظيم قبيل موت البغدادي، الذي ظهر في آخر فيديو له وهو يتصفح مجلدات مكتوب عليها أسماء فروع التنظيم في مختلف المناطق وقد كان إثباتًا من قبل البغدادي أن مركزية القرار تعود له([10])، التي حاول تثبيتها أيضًا في عام 2016 عندما “ألغى منصب نائب الخليفة، وشكّل اللجنة المفوضة؛ التي مثلت ثالث قوة تنظيمية في الترتيب التنظيمي، من بعد الخليفة ومجلس الشورى، وكان الهدف منها الإشراف على الولايات الفرعية، ومتابعة ما يسمى بالوزارات أو الدواوين. إلا أن الخطوة لم تثمر نتائج إيجابية في علاج تهتك العلاقة ما بين القيادة المركزية والولايات”([11]). وهو بالنتيجة قد يفضي إلى حصول انشقاقات داخل التنظيم وتشكيل جماعات مصغرة أخرى في المدى القريب.
وبناء على ما سبق فإن مصير داعش لا يزال معلقًا بجدوى آليات مكافحته من الولايات المتحدة والتحالف الدولي في وقت بالغ الحساسية لعدم منح التنظيم وقتًا لترتيب صفوفه مجددًا، لكن إذا لم تكن تلك الأدوات ناجعة فإن عملية إنهاء داعش قد تدخل مرحلة جديدة تؤدي إلى ظهور تنظيمات أخرى متفرقة جغرافيًا لكنها متحدة في الأهداف إذ سيكون الانتقام لموت البغدادي دافعها الرئيسي للتطرف ما يعني أن تنظيم الدولة داعش حتى لو انقسم على نفسه فإن ذلك لا يعني أنه سينتهي.
([1]) “أبو بكر البغدادي: ترامب يعلن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في عملية عسكرية أمريكية شمالي سوريا”. بي بي سي، 27-10-2019. https://bbc.in/2Dq5yhl
([2]) “نص كلمة أوباما عند الإعلان عن مقتل بن لادن”. بي بي سي، 2-5-2011. https://bbc.in/2XVmjuc
([3]) “مؤشرات حول ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» من جديد في العراق”. معهد واشنطن للدراسات، 15-10-2019. https://bit.ly/2R1wLiE
([4]) “ترامب يهدد أوروبا بإطلاق معتقلي داعش عند حدودها إذا لم تُعدهم لبلادهم”. عربي بوست، 21-9-2019. https://bit.ly/2DnHPi1
([5]) “قوات سوريا الديمقراطية تعلن السيطرة على مدينة الرقة”. بي بي سي، 17-10-2017. https://bbc.in/2qYMG6D
([6]) “بعد البغدادي: كيف يجدد تنظيم «الدولة الإسلامية» نشاطه”. معهد واشنطن للدراسات، 28-10-2019. https://bit.ly/2q4Z6JK
([7]) المرجع السابق.
([8]) “هروب مئات من السجناء في اقتحام سجني التاجي وأبوغريب بالعراق”. بي بي سي، 22-7-2013. https://bbc.in/34t2tsY
([9]) “من هو “القرشي المجهول” خليفة داعش؟”. اندبندنت عربي، 1-11-2019. https://bit.ly/2OTeWj5
([10]) “في فيديو جديد.. أول ظهور لـ “البغدادي” منذ 5 سنوات”. الأناضول، 29-4-2019. https://bit.ly/2XYhLmM
([11]) “مقتل البغدادي: وعن ظهور خلافات داعشية صغرى”. ميدل إيست أونلاين، 31-10-2019. https://bit.ly/2L703bQ
“مقرب من البغدادي يكشف خلافات داخل «داعش» والحالة الصحية لزعيم التنظيم”. الشرق الأوسط، 5-9-2019. https://bit.ly/2rwRL6b
رابط المصدر: