احتواء التصعيد.. قراءة في زيارة الرئيس الفرنسي للقاهرة بالتزامن مع الحرب في غزة

قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة القاهرة يوم الأربعاء الموافق الخامس والعشرين من أكتوبر الجاري، التقى خلالها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمناقشة تطورات التصعيد الراهن بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في محاولة لاحتواء التبعات والحد من اتساع نطاق الصراع الجاري منذ السابع من أكتوبر 2023، على خلفية إطلاق عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حماس وعدد من الفصائل الفلسطينية الأخرى، وما تلاها من تداعيات تمثلت في شن قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا على قطاع غزة التي تعرف باسم عملية “السيوف الحديدية”.

جاءت زيارة الرئيس “ماكرون” للقاهرة كجزء من جولته الخارجية للشرق الأوسط التي شملت إسرائيل، ومدينة رام الله بالضفة الغربية، والأردن، الرامية لخفض التصعيد العسكري بين طرفي الصراع، تمهيدًا للوصول إلى تسوية للقضية الفلسطينية، بجانب التأكيد على أهمية استئناف العملية السياسية مع الفلسطينيين، وإجراء مشاورات قادة دول المنطقة الفاعلين في الأزمة الحالية للحد من تفاقم الوضع الإنساني في القطاع، فضلًا عن تفادي اتساع نطاق الصراع إلى جبهات أخرى. والتي تتزامن مع استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، وتنامي عدد الضحايا الفلسطينيين، وعدم تمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من اتخاذ موقف حاسم بشأن التصعيد الراهن، نتيجة حالة الاستقطاب الدولي والدعم الغربي لإسرائيل للدفاع عن نفسها.

أولويات مُلحة

شهدت زيارة الرئيس الفرنسي للقاهرة جُملة من المناقشات بشأن عدد من الملفات ذات الاهتمام المشترك بين الجانبين، في سياق التصعيد الراهن في غزة، وهو ما تجلى خلال المؤتمر الصحفي على النحو التالي:

  • إحياء العملية السياسية: انطلاقًا من تأكيد الجانبين على أهمية التسوية السياسية المرتكزة على حل الدولتين باعتباره الضامن الرئيسي لاستقرار وأمن المنطقة، أوضح السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن غياب الأفق السياسي هو ما أدى للصراع الحالي، بل والجولات الخمس من المواجهات خلال العشرين عامًا السابقة. مشددًا على أن الاجتياح البري لن يحقق لإسرائيل هدفها المعلن في القضاء على حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، بل ما سينتج عنه هو سقوط المزيد من الضحايا من المدنيين، كما ربط ما بين مسألة تصفية القضية الفلسطينية من خلال عملية النزوح أو التهجير باتجاه الأراضي المصرية، وعرقلة حل الدولتين، وأشاد الرئيس المصري في هذا السياق بتفهم نظيره الفرنسي لخطورة هذا الأمر. في المقابل صرح الرئيس الفرنسي بأن الجانب السياسي هو الأصعب في الصراع، ولكنه السبب الرئيسي وراء تغذية الصراع، مُشيرًا إلى ضرورة بذل كافة الجهود للوصول لحل الدولتين، مؤكدًا على عمل بلاده على الدفع بهذا المسار مرة أخرى للواجهة، مع كافة شركائها بالمنطقة.
  • الحرب على الإرهاب: جاء هذا الملف على قائمة أولويات الجانبين، وهو ما تمثل في تصريح الرئيس السيسي الذي أوضح أن وجود أي فرصة حقيقية لمحاربة الإرهاب ستأتي بشكل أساسي من حل تلك القضية، مُضيفًا أن فكرة الإرهاب ظهرت في مخيمات اللجوء الفلسطينية مدفوعة بفقدان الأمل في وجود دولة مستقلة لهم، تم تغذيتها كذلك بالانتهاكات للمقدسات والتوسع الاستيطاني. في المقابل، اعتبر الرئيس الفرنسي أن هذا الملف يأتي كجزء أساسي من مبادرة السلام الذي يريد وضعها لحل الصراع، داعيًا لتعزيز التعاون الاستخباراتي في هذا الملف مستفيدًا بذلك من دروس التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”. 
  • ملف الرهائن لدى حماس: يُعد هذا الملف على رأس أولويات الحكومة الفرنسية شأنها شأن كافة الحكومات الأجنبية، لما يمثله من تهديد لمصالحها المباشرة المتعلقة بضمان سلامة مواطنيها. وهو ما أكده الرئيس الفرنسي خلال لقائه بالسيد الرئيس المصري موضحًا أن عدد الرهائن يصل لما يقرب من 200 رهينة منهم 9 فرنسيين، ومُثمنًا الجهود المصرية والقطرية في هذا الصدد. كما أعرب الرئيس السيسي عن توافقه مع نظيره الفرنسي على أهمية إطلاق سراح المزيد من الرهائن من القطاع، مُعتبرًا أن السبيل لتحقيق ذلك سيكون من خلال تهدئة الوضع الراهن في غزة.
  • السعي لاحتواء الصراع وعدم تمدده إقليميًا: تتخوف فرنسا من اتساع نطاق التصعيد الراهن في منطقة الشرق الأوسط، منذ اندلاع الحرب في غزة، الأمر الذي دفعها للعمل والتنسيق مع الفاعلين الدوليين للحد من هذا الأمر، بجانب تحذير إيران بشكل مستمر من الانخراط في هذه الحرب عبر وكلائها، أو بشكل مباشر في الصراع الحالي، وهو ما تمثل في 15 أكتوبر مع إعلان الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون “حذّر نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في اتصال هاتفي من أي تصعيد أو توسيع للنزاع بين إسرائيل وحماس، خاصة في لبنان”. وأعاد الرئيس الفرنسي هذا التحذير خلال لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، مُحذرًا إيران وحلفاءها من حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، من المجازفة بفتح جبهات جديدة وتوسيع الصراع الدائر. وهو ما توافق أيضًا مع الموقف المصري؛ حيث أكد الرئيس السيسي أن الأزمة الحالية لا تتحمل أن تتسع لتشمل أطرافًا أخرى، وأن ما يجب القيام به هو تكثيف الجهود بشكل مشترك لاحتواء الأزمة وعدم تصعيدها.
  • المساعدات الإنسانية ورفض مخططات التهجير: احتل هذا الملف أولوية ملحة بالنسبة للجانبين؛ حيث أكد الرئيس الفرنسي على ضرورة تدفق المساعدات للفلسطينيين، شاكرًا جهود مصر في هذا الملف، وبجانب حماية الفرنسيين الموجودين بغزة، والذين يصلون لـ54 مواطنًا، بالإضافة لـ170 فرنسيًا عاملين في المؤسسات المختلفة وأسرهم هناك، وداعيًا لإخراجهم. وأوضح أن هناك طائرتين فرنسيتين ستصلان مصر محملتين بالمساعدات، علاوة على عزمه إرسال سفينة تابعة للبحرية الفرنسية لدعم مستشفيات غزة.

مُحفزات عدّة

تأتي الاستجابة الفرنسية تجاه التصعيد الراهن في ضوء الموقف التاريخي لباريس الداعم لإسرائيل في حق الدفاع عن نفسها، بما بتوافق مع القانون الدولي، علاوة على التأكيد على أهمية حل الدولتين، واستئناف العملية السياسية بين الفلسطينيين تمهيدًا لاحتواء تبعات الوضع القائم، ويرجع ذلك لعدد من الدوافع التي تتمثل أبرزها فيما يلي:

  • الموقف التاريخي من طرفي الصراع: بالرغم من أن فرنسا كانت في مقدمة الدول التي اعترفت بقيام دولة إسرائيل، وأقامت معها علاقات دبلوماسية منذ عام 1949، واستمرت في الدفاع عن حقها في الوجود والعيش بأمان، إلا إنها أيضًا دعمت إنشاء دولة فلسطينية تعيش داخل حدود آمنة ومعترف بها إلى جانب إسرائيل، على أن تكون القدس عاصمة للدولتين. كما صوتت لصالح الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كمراقب في الأمم المتحدة في نوفمبر 1974، فيما عبر الرئيس فرانسوا ميتران عن إنشاء دولة فلسطينية أمام الكنيست في عام 1982، كأول رئيس فرنسي يُصرح بذلك. هذا بجانب تصويت باريس لصالح فلسطين باعتبارها دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، في نوفمبر 2012. واتصالًا بذلك؛ جاء الموقف الفرنسي من الأوضاع الراهنة متوافقًا مع موقفها التاريخي، ففي حين أكد الرئيس الفرنسي على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وشدد على أهمية إعادة إحياء العملية السياسية بين الفلسطينيين على نحو حاسم، وهو ما صرح به إبان زيارته لإسرائيل قائلًا: “يجب الاستماع إلى القضية الفلسطينية بتعقل (…) سأكون غدًا مع العديد من قادة المنطقة للمضي قدمًا بشكل ملموس في جدول الأعمال الذي وضعناه”.
  • تسوية القضية وفقًا للقانون الدولي: تدعم فرنسا حل الصراع التاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقًا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، سيما حل الدولتين بموجب القرار رقم (181)، علاوة على تسوية ملف اللاجئين بشكل عادل بموجب قرار رقم (194) الصادرين من الجمعية العامة للأمم المتحدة، والامتثال للقرار رقم (242) الصادر من مجلس الأمن الدولي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، بجانب الحفاظ على وضع القدس وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم (476) و(478). وبناءً على ذلك “يدعو طرفا القضية إلى إعادة تأكيد التزامهما بالتسوية التفاوضية وحل الدولتين، والامتناع عن أي عمل أحادي من شأنه تقويض شروط تحقيق ذلك”، كما تدعو إسرائيل إلى الامتثال الكامل للقانون الإنساني الدولي المطبق في الأراضي الفلسطينية. علاوة على إدانة سياسة الاستيطان المتنامية التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة في إسرائيل. وهنا يمكن الإشارة إلى أن الرئيس ماكرون أكد على هذا النهج في سياق الحرب الأخيرة على غزة، مُشددًا على ضرورة احترام القانون الدولي الإنساني، في إطار أي مواجهة أو تحرك إسرائيلي في غزة، علاوة على إدخال المساعدات الإنسانية، وعدم إغلاق معبر رفح أمام تلك المساعدات.
  • تفاقم الوضع الإنساني: تسعى فرنسا لاحتواء التصعيد الراهن تمهيدًا لوقف إطلاق النار، بما يضمن تقديم المساعدات بشكل مستدام، وهو ما تمثل في مطالبة رئيسة الحكومة الفرنسية بـ “هدنة إنسانية يمكن أن تفضي إلى وقف لإطلاق النار”، خلال كلمتها أمام الجمعية الوطنية، كما ربطت ما بين تصويت فرنسا على المشروع البرازيلي في مجلس الأمن الدولي وهذا الهدف، لكونه تضّمن في أحد بنوده مسألة الهدنة الإنسانية لإيصال المساعدات. وبالتوازي مع جولة الرئيس للمنطقة أكدت وزيرة الخارجية الفرنسية في الرابع والعشرين من أكتوبر الجاري في مجلس الأمن على هذا التوجه قائلةً: “إن فرنسا مثل الاتحاد الأوروبي زادت من قيمة مساعداتها لسكان القطاع بنحو 20 مليون يورو، وتم توجيهها إلى الأونروا ومنظمة الأغذية العالمية، وبرنامج (WFP)، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمنظمات غير الحكومية”. كما استأجرت رحلة خاصة محملة بالمساعدات الإنسانية الطارئة للفلسطينيين، لمساعدة جهود مصر، مُضيفة أن إجمالي المساعدات التي تقدمها بلادها للفلسطينيين ستصل إلى 100 مليون يورو في عام 2023.
  • ضمان الإفراج عن الرهائن: يمثل ملف الأسرى لدى حماس أحد أهم الدوافع التي ساهمت في سعي الرئيس الفرنسي لتعزيز التعاون والتنسيق مع القوى الفاعلة في الحرب لتسويته، باعتباره أولوية مُتقدمة لفرنسا، وهو ما أشار إليه أيضًا خلال اجتماعه مع نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، قائلًا: “إن فرنسا تقف كتفًا بكتف مع إسرائيل، وإن الهدف الأول يجب أن يكون تحرير الرهائن في غزة”. وفي سياق دعمه لتسوية هذا الملف، التقى ماكرون عقب وصوله تل أبيب بأسر القتلى الفرنسيين، وأسر الفرنسيين الإسرائيليين الذين قتلوا أو تم أخذهم رهائن عقب وصوله إلى تل أبيب، والبالغ عددهم ما يقرب من 30 فرنسيًا على الأقل، وهو ما يمثل رقمًا كبيرًا بالنسبة لفرنسا منذ هجوم نيس الواقع في يوليو 2016 وأسفر عنه نحو 86 ضحية.
  • التخوف من الهجمات الإرهابية: جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن مكافحة الإرهاب خلال جولته للمنطقة، مدفوعة بتخوف فرنسا من احتمالية أن تشهد موجة جديدة من الهجمات الإرهابية على خلفية ما حدث خلال عام 2015، سيما تعرض أحد مواطنيها لحادث طعن في مدينة أراس الواقعة شمال البلاد، والذي أعلنت على إثره حالة تأهب قصوى لمكافحة الإرهاب، وذلك عقب اندلاع الحرب في غزة. وفي هذا السياق قال وزير الداخلية جيرالد دارمانين: إنه “لا يوجد شك في وجود صلة بين هجوم أراس والصراع بين إسرائيل وحماس”. ويذكر “أن الهجوم قد جاء بعد ما يقرب من ثلاثة أيام من الذكرى الثالثة لحادث قطع رأس مدرس في المنطقة الباريسية في 2020 لعرضه رسومًا كاريكاتورية للنبي محمد على تلاميذه خلال حصة دراسية.
  • الحد من الاستقطاب السياسي: قد يكون لدى الحكومة الفرنسية تخوف من احتمالية أن تساهم تبعات الحرب في غزة إلى إحداث المزيد من التباين، وعدم الاصطفاف السياسي في فرنسا، نتيجة المواقف المختلفة من التصعيد الراهن، ففي الوقت الذي أدانت فيه الحكومة الفرنسية هجوم حماس، ودعمت حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، امتنع الحزب اليساري المتشدد “فرنسا الأبية” عن وصف الهجوم بأنه “إرهابي”، كما اتهم رئيسه “جان لوك ميلانشون” رئيسة الجمعية الوطنية يائيل برون بيفيه بأنها: “تدعم المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، على خلفية قيامها بزيارة إسرائيل في الثاني والعشرين من أكتوبر الجاري. في المقابل أدان حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الهجوم؛ حيث تسعى الأحزاب لتوظيف التصعيد الراهن بما يتوافق مع مصالحهم، وتمهيدًا لتوسيع قاعدة ناخبيهم.
  •  التخوف من انقسام المجتمع: قد يكون لتطورات الوضع الراهن في المنطقة تداعيات مُحتملة على المجتمع الفرنسي، الذي يضم أكبر جالية يهودية على المستوى الأوروبي، وهي ثالث أكبر جالية عالميًا بعد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، بالتوازي مع وجود أكبر جالية مسلمة في أوروبا بفرنسا. وهو ما قد يبرر حظر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين يوم الخميس الموافق الثاني عشر من أكتوبر الجاري كافة المظاهرات الداعمة للفلسطينيين، وتفرقة المتظاهرين باستخدام الغاز المسيل للدموع والمياه. ولهذا وجّه الرئيس “ماكرون” دعوة الفرنسين خلال خطابه في الثاني عشر من أكتوبر الجاري إلى الاصطفاف والوحدة، قائلًا: “إن الذين يخلطون بين القضية الفلسطينية وتبرير الإرهاب يرتكبون خطأ ثلاثيًا: أخلاقيًا وسياسيًا واستراتيجيًا”.

ختامًا، عكست جولة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المنطقة في ظل الحرب في غزة، رغبة فرنسا في لعب دور محوري في دعم واستقرار أمن إسرائيل الحليف التاريخي لباريس، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من توجهها الأكبر لإقليم الشرق الأوسط، الذي أضحى ميدانًا للتنافس بين القوى الدولية والإقليمية التي تسعى لإعادة التموضع فيه بما يتوافق مع مصالحها، في سياق حالة الاستقطاب الدولي التي تزايدت بالتزامن مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وتجلت تبعاته في الجولات المتتالية في مجلس الأمن الدولي بشأن الوضع الراهن في غزة، والتي لمّا تسفر عن أي تقدم. لذا فمن المتوقع أن تسعى الأطراف الفاعلة في القضية الفلسطينية إلى تعبئة الجهود الدولية والإقليمية، لإعادة إحياء عملية السلام في المنطقة، والمرتكزة على تسوية الصراع على أساس حل الدولتين.

 

المصدر:

https://t.co/trNvtOljV7

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M