خالد عكاشة
هناك الكثيرون ممن بدأوا مؤخراً يستحثون الولايات المتحدة على نزع رداء «الغموض الاستراتيجى» فى مواجهة الخصوم والمنافسين، والذهاب نحو الإفصاح عن موقف واضح لا يقبل اللبس. على الأقل فى حدود المدى الذى يتعين على واشنطن الالتزام بالمضى تجاهه للحفاظ على مصالحها، وتأمين مصالح الحلفاء والشركاء، وقبلهما المساحة القابلة للقياس بدقة فى معادلات التوازن الاستراتيجى ما بين القوى الكبرى.
من هؤلاء زميل الأبحاث فى معهد الدراسات الاستراتيجية الوطنية بجامعة الدفاع الوطنى الأمريكية «جيفرى مانكوف»، وله كتاب قيد النشر بعنوان «إمبراطوريات أوراسيا.. كيف تشكل الموروثات الإمبراطورية شكل الأمن الدولى»، أظنه سيتناول فيه تفصيلاً المهددات الراهنة للأمن الدولى، وحجم التحديات التى باتت تواجه الولايات المتحدة، وفق مستجدات ما يجرى فى الفضاء الآسيوى على وجه التحديد. ويشير «مانكوف» فى ورقة بحثية حديثة نشرها على موقع (INSIDER)، إلى حالتى الصين مع تايوان، وروسيا وأوكرانيا، وكلتاهما شهدت تفاعلات متسارعة خلال هذا العام. فالتعزيزات والحشد العسكرى الروسى الأخير على طول حدودها مع أوكرانيا، تزامناً مع حملة الترهيب والضغط العسكرى المتصاعد الذى تمارسه الصين ضد تايوان، فتح السؤال الشائك حول المدى الذى يمكن لواشنطن الذهاب إليه فى حال قررت الدفاع عن تايوان وأوكرانيا؟ فإصرار كلتا القوتين على وضع استخدام القوة العسكرية فى هذه الساحة للتنافس الاستراتيجى مع الولايات المتحدة، يضع الأخيرة فى حرج الإعراب عن مصداقية وجدية تعهداتها بتأمين تايوان، ومن ثم ضمانة تأمين المجال الحيوى الشرقى لحلف «الناتو». سابقاً كان «الغموض الاستراتيجى» يستخدم كوظيفة ردع من قبَل واشنطن، وكانت القوى الدولية المنافسة تتوخى حذر الدخول فى صدام مباشر مع القوة الأولى، هذا أتاح للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة وضعاً مريحاً، وسمح لشركائها ببعض من التحركات تحت غطاء آمن وفر لهم ميزات استراتيجية، مثل إعلان تايوان استقلالها، وسعى أوكرانيا لاستعادة منطقة «دونباس» المحتلة. الحالتان الماثلتان اليوم تسببتا فى قلب تلك المعادلة على نحو مثير، بوضعهما الولايات المتحدة أمام اختبار فك أغلفة «الغموض» الذى صار اليوم على المحك. فواشنطن إزاء استخدام القوة العسكرية لكل من روسيا والصين فى ترسيخ شكل جديد لهيمنتهما الإقليمية، قد لا يكون مناسباً لها تقديم التزامات دفاعية متقدمة أكثر وضوحاً، فى ظل خطر نشوب نزاع على أبواب دولتين مسلحتين نووياً. والأهم أن الدولتين لم تضيعا وقتهما خلال السنوات الماضية عن المضى قدماً فى عمليات تحديث وتعزيز قدراتهما التسليحية، المتوسطة والنوعية فائقة القدرة التى تمكنهما من التفوق فى إنجاز مهام لها طابع قريب الشبه بما تقومان به مع تايوان وأوكرانيا، حتى وإن استلزم الأمر مجابهة دعم أمريكى متوقع لقدراتهما دون الوصول لنقطة المواجهة المباشرة.
بالنظر إلى حجم الإنفاق العسكرى الصينى لعام 2020، يلاحظ بسهولة دلالة حفاظه على مستوى «نمو متصاعد» يخضع لخطة استراتيجية كلية للدولة الصينية، فالإنفاق فى 2020 بلغ 1.27 تريليون يوان (178.8 مليار دولار)، محققاً نسبة نمو تبلغ 6.6% عن العام السابق له، الذى شهد أيضاً نسبة نمو وصلت لـ7.5% عن 2018. لتواصل بكين بذلك حقبة بدأت منذ 25 عاماً من تنامى الإنفاق دون انقطاع، وضعتها فى مرتبة ثانى أكبر ميزانية عسكرية فى العالم بعد الولايات المتحدة. أما روسيا الاتحادية فقد سجل حجم إنفاقها العسكرى فى 2019 أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب الباردة، وفى العام 2020 زاد بنسبة نمو 2.5% ليبلغ (61.7 مليار دولار)، لتحتل روسيا المرتبة الرابعة يفصل بينها وبين الولايات المتحدة والصين، الهند التى تأتى فى المرتبة الثالثة. ويبقى التطوير النوعى الذى شهده إنتاج كلتا الدولتين، بالأخص فى مجال الأسلحة غير التقليدية، التى يمكنها صياغة معادلات ردع جديدة تم اختبارها فى أكثر من حلبة صراع، مثل «المسيرات» و«الصواريخ» وأنظمة «الدفاع الجوى» والذخائر والمقذوفات ذات التقنيات الذكية وقدرات التدمير الواسعة.
حتى وقت قريب حرصت الصين وروسيا على عدم الوصول مع الولايات المتحدة إلى مستوى «التوتر الشديد»، الذى قد يتصادم مع حسابات واشنطن على نحو غير متوقع. لكن مما هو واضح الآن أنه رغم عدم وجود تنسيق بين كلتا الدولتين، فإن كلتيهما تقف بوضوح فى ذات الموقع من اختبار جدية الولايات المتحدة، فى التزاماتها تجاه دول يحكمها مع واشنطن ميثاق للشراكة وقانون للعلاقات، ربما لم يصل لحد اعتبارها حليفاً رسمياً للولايات المتحدة، لكن هناك تعهداً بالحماية من خلال القيام بـ«الإجراء المناسب» تجاه تأمينها ضد الجار الأكبر. معضلة المشهد أن ضمانة أمن الشركاء بثمن بخس من خلال سياسة الغموض يبدو أنها تقترب من نهايتها، وقد تحتاج واشنطن الآن أكثر من أى وقت مضى، للإفصاح المزدوج فى رسائل صريحة لروسيا والصين من جانب، وأوكرانيا وتايوان من جانب آخر. ففى حالة روسيا على سبيل المثال؛ جاءت مطالب الكرملين مؤخراً بضرورة تقديم ضمانات أمنية جديدة شاملة من جانب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى، سعياً للحصول على تعهدات من شأنها أن توقف توسع حلف الناتو شرقاً وتقيد الروابط العسكرية الأمريكية مع الدول السوفيتية السابقة. وهو إعادة إنتاج لمبدأ «مجال النفوذ» الروسى غير المقبول من قبَل مسئولى حلف الأطلسى، وقد سبق إخطار موسكو بهذا الرفض، لذلك ذهب البعض إلى أن تقدم روسيا بطلبات تعلم مسبقاً رفضها من الجانب الآخر، يمثل تصعيداً روسياً واضحاً مع الغرب بشأن أوكرانيا، وبمثابة خلق ذريعة لعمل عسكرى محتمل ضد أوكرانيا بمجرد رفض تلك المطالب.
لم تقف روسيا عند هذا الحد؛ بل قامت بنشر قائمتين من المطالب تقدمت بهما للولايات المتحدة ولحلف شمال الأطلنطى، وجميعها لها علاقة بالبنية العسكرية للحلف وللقوات الأمريكية. لهذا يعد الأمر أكبر تحدٍ جدى تواجهه نظرية الردع الأمريكية، مع الوضع فى الاعتبار ترقب الصين، التى لم يخل تحركها من ضغط مماثل على ذات الشاكلة وفى نفس التوقيت!
نقلا عن جريدة الوطن بتاريخ 20 ديسمبر 2021
.
رابط المصدر: