د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
توضع التشريعات في العادة لتنظم حياة الأفراد ولابد لها لتكون شرعية أن تتوافق مع الدستور وان تشكل ضمانة للحقوق والحريات العامة والخاصة، ولا تتسبب على الأقل بانتهاكها كونها تمثل الميثاق الاجتماعي والسياسي الأقدس وما وضع الدستور نفسه إلا ليكفل تلك المبادئ والقيم التي تمثل أعلى مراتب تطور الحياة الإنسانية على الأرض.
ويتفق الفقه الدستوري على أهمية تنظيم رقابة حقيقية وفاعلة على دستورية القوانين والأنظمة في العراق والعالم لتحقيق غايات على رأسها (ضمان سمو الدستور وتطبيقه بشكل حقيقي على الأرض ومنع كل ما من شأنه تعطيل أحكامه الأساسية لاسيما تلك المتعلقة بتشكيل السلطات العامة وعلاقتها مع الفرد أي ملف الحقوق والحريات) وقد تباينت الدساتير في تبني نوع الرقابة وتوقيتها والجهة القائمة بها لتتوافق مع ما تقدم من غايات، لذا يمثل الادعاء العام في العراق والدول التي تبنت هذا الجهاز المهم كجزء من منظومة تحقيق العدالة في البلاد ضمانة حقيقية لسمو الدستور وعدم المساس بالحقوق والحريات كونه جهاز رقابي غايته تحقيق العدالة والمساواة وشرعية الأعمال القانونية الصادرة عن أي هيئة من هيئات الدولة.
وبعد صدور قانون الادعاء العام الحالي رقم (49) لسنة 2017 ورد بالمادة الخامسة منه (البند الحادي عشر) من اختصاصات جهاز الادعاء العام في العراق “الطعن بعدم دستورية القوانين والأنظمة أمام المحكمة الاتحادية العليا” مما تقدم حري بنا أن نضع النص المتقدم قيد الدراسة للتمعن في الغاية من تشريعه وتحديد أسباب تدخل الادعاء العام وآليات التدخل وصولاً إلى تقييم التجربة ككل بوصفها ضمانة من ضمانات حقوق الإنسان العراقي.
فالادعاء العام في العراق والدول التي تبنت هذا الجهاز يعد رأس الهرم في النيابة عن المجتمع بتحريك الدعاوى ومتابعة إجراءاتها وتحقيق العدالة وضمان صحة الإجراءات القضائية لهذا منح الحق بالتدخل في مختلف مراحل الدعوى للمطالبة بحق المجتمع من جهة وحماية المصلحة العامة لاسيما في الدعاوى المتعلقة بالمال العام، والغاية الأساسية التي ينبغي ان يحرص على تحقيقها هي صيانة النظام الديمقراطي في العراق وحماية الحقوق والحريات وهذا ما عبرت عنه المادة (2) من قانون الادعاء التي بينت أهداف هذه المؤسسة ومنها “دعم النظام الديمقراطي الاتحادي وحماية أسسه ومفاهيمه في إطار احترام المشروعية واحترام تطبيق القانون، والإسهام في حماية الأسرة والطفولة” وبما إن الخطر الأكبر الذي يتهدد الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للعراقيين في الباب الثاني منه يتمثل فيما يصدر عن السلطتين التشريعية والتنفيذية من نصوص بحجة تنظيم ممارسة الحقوق والحريات بيد ان الحقيقة ان هذه النصوص تصادر الحقوق والحريات، والأخيرة تعد الحد الأدنى فلابد من توفير الحماية اللازمة لها لتحقيق مضامينها السامية من الحق في المساواة والحياة والأمن ومرورا بحرية التعبير والتظاهر انتهاءً بحرية تأسيس منظمات المجتمع المدني، وقد ربط الدستور كل ما تقدم بقوانين ستصدر عن البرلمان أو صدرت تنظم الحق أو الحرية وتبين نطاقه وضوابط ممارسته وبما إن الانحراف ليس مستبعداً ولا مستغرباً ومحاولة السلطتين التنفيذية والتشريعية في بعض الأحيان متوقعة لخنق الحقوق وتقييد الحريات لغرض تحقيق المآرب البعيدة عن المصلحة العامة.
لهذا لابد من تنظيم الرقابة على ما يصدر من البرلمان بصيغة القانون أو النظام كالنظام الداخلي للمجلس النيابي أو ما يصدر عن الحكومة استناداً للمادة (80) من الدستور من أنظمة تسهل تنفيذ القوانين ويحدث في الكثير من الأحيان أن تتصرف الحكومة بنوع من الدهاء أو الخطأ للتوصل بالنتيجة إلى تعطيل النص الدستوري أو القانوني أو إفراغهما من مضامينهما بإضافة أحكام لم ينظماها او التوصل لتعديل الأحكام بغير حق بطريقة ما، بما يخالف الغاية التي ابتغتها السلطة التأسيسية التي سنت الدستور وقررت الحق أو أتاحت الحرية ولهذا ورد بالمادة (93) من الدستور إن المحكمة الاتحادية العليا ستختص برقابة دستورية القوانين والأنظمة، ومن هنا حق لنا التساؤل عن دور المدعي العام في تحقيق ما تقدم أي تحريك الرقابة الدستورية ضد أي قانون أو نظام يخالف النص الدستوري صراحة أو يتعارض مع روح الدستور ومضمونه.
وبالاستناد لما تقدم نجد ان جهاز الادعاء العام في العراق مختص برقابة ما يصدر عن البرلمان أو الحكومة من قواعد قانونية ان خالفت الدستور والتفت على المبدأ الديمقراطي، وما تقدم وظيفة صرح بها المشرع العراقي فلا يجوز للمدعي العام التقاعس عنها أو التسويف في أدائها، ولكن السؤال الأهم كيف تتحرك هذه الرقابة؟ وما هو نطاق هذه الرقابة؟ بعبارة أخرى هل يكتف المدعي العام بما يكتشفه بنفسه أثناء أداء واجبه الوظيفي من مخالفات تكتنف القوانين والأنظمة للدستور؟ أم يمكنه ان يسمع الشكاوى من المواطنين مباشرة ضد النصوص القانونية؟ فلو افترضنا إن هنالك دعوى معروضة أمام القضاء وأثناء عمل المدعي العام اكتشف نص يخالف الدستور فهل يمكن ان يقدم طلب إلى المحكمة لجعل الدعوى مستأخرة لحين الفصل في دستورية النص؟ من جهة أخرى لو تبادر إلى علمه من وسائل الإعلام أو غيرها ان هنالك نص يخالف الدستور فهل له المبادرة بالطعن مباشرة؟ هذه أسئلة وهنالك الكثير منها أيضا نحاول الوقوف عندها فيما يلي من سطور.
فنطاق اختصاص المدعي العام في الطعن ضد النصوص الواردة في القوانين والأنظمة لم يتحدد موضوعياً بنوع معين من النصوص دون غيرها فالقاعدة القانونية المتسالم عليها إن “المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم الدليل على تقييده” وطالما النص الوارد في البند الحادي عشر من قانون الادعاء العام مطلق لجميع النصوص التي تكون موضوعاً للتطبيق في إحدى الدعاوى المعروضة على القضاء ام تلك التي يتبادر إلى علم المدعي العام انها تخالف الوثيقة الدستورية صراحة أو ضمناً أو تتعارض مع المبادئ الدستورية الراسخة والتي تمثل فلسفة نظام الحكم الديمقراطي الاتحادي فيمكنه الطعن ضدها.
ونضيف إلى ما تقدم إننا نعتقد جازمين ان اختصاص الادعاء العام برقابة النصوص والطعن ضد ما خالف منها ما تقدم شامل من حيث الزمان والمكان، فمن حيث الزمان أي نص قانوني نافذ في العراق صدر بعد أو قبل صدور قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017 يمكن ان يكون موضوعاً للطعن بعدم الدستورية يتقدم به الادعاء، ومن حيث المكان حيث يمكن للمدعي العام ان يطعن ضد القوانين الصادرة من البرلمان العراقي في بغداد أو برلمان إقليم كردستان في شمال العراق، أو ضد نظام صدر عن الحكومة المركزية أو أي محافظة عراقية.
وما تقدم ضمنه الدستور العراقي في المادة (13) التي أثبتت أعلوية الدستور العراقي على جميع النصوص الأخرى النافذة في البلاد حيث صرحت بأن “يعد هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق، ويكون ملزماً في أنحائه كافة وبدون استثناء. لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانوني أخر” وكذلك ما ورد في المادة (93) التي بينت أن “ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة” ومما لاشك فيه ان الادعاء العام مخاطب بالنص الدستوري أعلاه كما ورد في النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2005 ما نصه “إذا طلبت إحدى المحاكم الفصل في شرعية نص في قانون أو قرار تشريعي أو نظام أو تعليمات أو أمر بناءً على دفع من أحد الخصوم بعدم الشرعية فيكلف الخصم بتقديم هذا الدفع بدعوى، وبعد استيفاء الرسم عنها تبت في قبول الدعوى فإذا قبلتها ترسلها مع المستندات إلى المحكمة الاتحادية العليا للبت في الدفع بعدم الشرعية، وتتخذ قرار باستئخار الدعوى الأصلية للنتيجة”.
والنص المتقدم يجيبنا عن بعض تساؤلاتنا فقد يتقدم المدعي العام بدفع أمام محكمة الموضوع بمناسبة دعوى يراد تطبيق نص قانوني عليها وهنالك ينبغي على محكمة الموضوع التوقف عن تطبيق النص المشكوك بشرعيته أي دستوريته لحين فصل المحكمة الاتحادية بالطعن، ويفضل ان يتم النص على ما تقدم في قانون المحكمة الاتحادية العليا المزمع تشريعه في هذه الدورة البرلمانية رغم الصعوبات التي تكتنف ذلك بعد ان فشل البرلمان في تشريع هذا القانون المصيري في الدورات الثلاثة السابقة، والعلة فيما ندعو إليه لكي لايقع أحد العراقيين تحت ظلم النص غير الدستوري فيستحيل أو يصعب إصلاح الضرر الذي يلحق بالمواطن وما ينبغي له من ضمانات ضد تعسف البرلمان والإدارة في سن النصوص التي تنتقص أو تعدم الحقوق والحريات.
كما أننا ندعو مجلس القضاء الأعلى بوصفه الجهة المختصة بإصدار تعليمات تسهل تنفيذ أحكام قانون الادعاء العام رقم (49) لسنة 2017 بمقتضى ما ورد بالمادة(16) إلى تفعيل رقابة جهاز الادعاء العام الواردة بالمادة(5) من القانون المذكور وفق الآتي:
1- لعضو الادعاء العام قبول الطلبات التي يتقدم بها أي مواطن يدعي فيها ان نصاً ورد في قانون أو نظام أو غيرها من القرارات كقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل والأوامر التشريعية الصادرة عن سلطة الائتلاف المؤقتة أو غيرها، ويدعي مخالفة ما تقدم للدستور فيتولى جهاز الادعاء دراسة الطلب ورفع الدعوى أمام المحكمة الاتحادية العليا ومتابعة إجراءاتها وإشعار المواطن مقدم الطلب بالنتيجة.
2- لعضو الادعاء العام وأثناء سير المرافعات في الدعاوى كافة واللجان والمجالس التي يواكب سير أعمالها ان يقبل من أي طرف من الأطراف طلباً بعدم دستورية نص يراد تطبيقه عليه، ليقدم بذلك دفعاً ان كان مقتنع بصحة الطلب إلى المحكمة لجعل الدعوى مستأخرة لحين رفع الشخص أو الادعاء العام دعوى عدم الدستورية أمام المحكمة الاتحادية العليا.
3- لجهاز الادعاء العام ان يشكل مجلس تدقيق دستورية القوانين تحال إليه جميع القوانين حال تشريعها من البرلمان لينظر في توافقها من عدمه مع الدستور.
4- إمكانية تعديل قانون مجلس الدولة العراقي رقم (65) لسنة 1979 المعدل والمختص بإعداد مشروعات القوانين والأنظمة ومراجعتها قبل تشريعها لتشكيل هيئات متخصصة بالصياغة يشرك فيها جهاز الادعاء العام لمنع أي تعارض ممكن بين النص المقترح والدستور.
5- إمكانية تشكيل لجان مشتركة من جهاز الادعاء العام ومجلس الدولة وهيئة المستشارين في مجلسي النواب والوزراء لمراجعة التشريعات النافذة لاسيما قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل وقرارات سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة والتوصية بإلغاء أو تعديل ما خالف منها الدستور من قبل البرلمان العراقي وفي حال التأخر في ذلك يصار إلى رفع دعاوى أمام المحكمة الاتحادية لإلغاء هذه النصوص.
رابط المصدر: