عريب الرنتاوي
نشطت الدبلوماسية الإماراتية خلال الأسابيع القليلة الفائتة، على محاور وجبهات عدة: إقليمياً، حفز مسار التطبيع “الإبراهيمي” مع إسرائيل، اختراق على محور العلاقة مع تركيا، زيارة غير مسبوقة منذ سنوات لرجل الإمارات الغامض ومستشارها لشؤون الأمن القومي إلى طهران… كل ذلك، معطوفاً على علاقة “استراتيجية” مع الولايات المتحدة، ومقاربات “دافئة” حيال الصين وروسيا، دولياً.
هذا الحراك النشط، وغير المألوف، أثار وما زال يثير أسئلة من نوع: ما الذي تريده أبوظبي؟ وهل تتجه الإمارات لإعادة تموضع على ساحة الإقليم؟…ما الذي حفز الدبلوماسية الإماراتية لاستحداث هذه الاستدارات حتى بدا وكأنها في سباق مع الزمن؟…وكيف تبدو علاقاتها مع شركائها “التقليديين” في المنطقة، سيما مصر والسعودية؟
طيلة سنوات “عشرية الربيع العربي”، لعبت الإمارات دوراً نشطاً في مواجهة ثوراته وانتفاضاته، سيما بعد أن نجح “التيار الإسلامي-الإخواني” في قطف ثمارها واعتلاء سدة الحكم في عدد من الدول العربية، ولم تخف أبوظبي عداءها الشديد لهذا التيار والقوى الإقليمية الداعمة والحاضنة له، وبالذات قطر وتركيا… انخرطت بقوة في سباق تسلح، ولجأت إلى العسكرة، ودعمت جنرالات وأنظمة ديكتاتورية وأنشأت ميليشيات واستحضرت المرتزقة من كل فجّ عميق، أنفقت عشرات مليارات الدولارات في حروب ومغامرات في اليمن وليبيا وسوريا والعراق ودول الساحل، واعتمدت مزيجاً من الأدوات الناعمة والخشنة لتقطيع السبل في وجه من صنفتهم خصومها، واعتبرتهم تهديداً لأمنها الوطني في نهاية المطاف، حتى وإن كانوا على مبعدة ألوف الكيلومترات عنها، حتى بات يُطلق على الإمارة الصغيرة، لقب “أسبارطة العصر الحديث”.
نجحت الإمارات حيناً وأخفقت أحياناً، وهي نتيجة لم تكن من نصيب الإمارات وحدها، فمعظم، إن لم نقل جميع الأطراف الإقليمية المتصارعة، أصابها الإنهاك والإعياء جراء استطالة صراعاتها وحروبها في الزمان والمكان، ومن دون أن تقوى على إقصاء خصومها، أو تنجح في إغلاق أي من الملفات بوسائل الحسم العسكري.
سنوات ترامب الأربع، كانت فرصة ذهبية مكّنت الإمارات من اختبار الحدود التي يمكن أن تصل إليها “أوهام القوة” و”طموحات الزعامة”…حظيت بـ”شيك” ممهور على بياض من سيد البيت الأبيض، نظير تسهيل مهمته في استهداف إيران وتمرير “صفقة القرن”، ذهبت في أقل من عام واحد، إلى حيث لم تصل مصر في أربعين عاما والأردن في ربع قرن من السلام “الفاتر” مع إسرائيل… وبدا أن حلفاً شرق أوسطياً “استراتيجياً” قيد التشكل في مواجهة إيران وحلفائها، وصار المسار الإبراهيمي، هو مظلة هذا الحلف وغطاؤه، من دون التخلي عن مقارعة “الإخوان” وحواضنهم الإقليمية.
لكن هذه الرهانات والطموحات ستصطدم بثقل التاريخ وعبء الجغرافيا، وستكتشف الإمارات قبل فوات الأوان (من حسن حظها)، بأن زعامة الإقليم و”المنظومة الخليجية”، بحاجة لما هو أكثر من “الاقتدار المالي”، وأن مهمة تحييد إيران واحتواء تركيا، وإخراجهما من المنطقة، أكبر بكثير من طاقتها، وأن نجاحها في بعض مغامراتها، لا يتناسب مع “الفاتورة” المترتبة عليها، إذ دللت تجربة السنوات العشر العجاف أن “المعادلة الصفرية” في تنظيم العلاقة بين دول الإقليم ومحاوره، ليس خياراً واقعياً، وأن أزمات المنطقة وصراعاتها المفتوحة، وصلت بكل الأطراف إلى معادلة “خاسر – خاسر”.
وجاء انتخاب إدارة أميركية جديدة، بأولويات جديدة، ليس الشرق الأوسط ولا نفط الخليج، في صدارتها، إدارة ما زالت تضع في الحسبان ملفات منسية كحقوق الإنسان والديمقراطية، ليشعل أضواء حمراء في عدد من عواصم المنطقة، ومن بينها أبوظبي، فزمن “المغامرات” و”الحروب خارج الحدود”، وقرع طبول الحرب على إيران، وشطب الإجماع الدولي على “حل الدولتين”، انتهى… فيما زمن إطفاء الحرائق وإخماد الأزمات، بحلها أو احتوائها، قد بدأ، وعلى الجميع التكيف مع هذا المعطى، سيما الدول الصغيرة، ذات الاعتمادية الكبيرة على واشنطن، كمظلة وحامية لأمنها واستقرارها.
ويُشهد للدبلوماسية الإماراتية أنها كانت شديدة المرونة وسريعة التكيف، واستباقية أحياناً، يساعدها في ذلك، أنها تستطيع نقل بندقيتها من كتف إلى كتف، دون مساءلة أو محاسبة، دون اعتراض أو معارضة، وربما تكون الإمارات بهذا المعنى، الدولة الوحيدة في الإقليم، التي لا تخشى رأياً عاماً أو تتحسب لردود أفعاله، محلياً كان أم إقليمياً.
ستحافظ أبوظبي على المسار الإبراهيمي مع إسرائيل، بكامل زخمه الثنائي، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وحتى أمنياً، بيد أنها ستُخرجه عن سكته بوصفه حلفاً استراتيجيا ضد إيران وحلفائها… هذا سيزعج إسرائيل التي ستنظر بقدرٍ من الخيبة لفقدانها شريكاً عربياً نشطاً في حربها المفتوحة مع إيران… التطبيع بين الإمارات وإسرائيل سيستمر وربما يتنامى، ولكنه سيأخذ منحى مختلفاً، وستصبح له وظيفة جديدة من وجهة نظر أبوظبي: تعزيز مكانة الإمارات داخل المنظومتين الخليجية والعربية، بل وعلى مستوى الإقليم.
وستضرب “أسبارطة” صفحاً عن كل اتهاماتها لإيران بزعزعة الاستقرار الإقليمي ودعم الإرهاب وإطلاق سباق تسلح نووي، بل وستُبقي قضية جزرها الثلاث المحتلة في “الثلاجة”، طالما أن الباب بات مفتوحاً للانتقال من موقع الشريك الاقتصادي الثاني لإيران إلى موقع الشريك الأول، وطالما أن العلاقة مع إيران قد توفر لها “طريق حرير” خاص بها، للوصول إلى الأسواق الأوروبية، بوقت أقل، من إيران وعبر تركيا، وطالما أن طهران مستعدة لتطوير علاقاتها الثنائية معها، من دون شروط مسبقة، بل حتى وهي تمارس ما اعتادت عليه طوال سنوات: شيطنة حلفاء إيران، من الحوثيين إلى حزب الله مروراً بالحشد الشعبي.
إن كانت واشنطن تفضل العودة إلى اتفاق فيينا النووي، واعتماد الدبلوماسية لحل خلافاتها مع إيران، فما المانع أن تسبقها أبوظبي على هذا المضمار، وتقطف أفضل الثمار من الدولة الجارة، بدل أن تلحق بها، وتُجري مفاوضاتها ومقايضاتها مع “البازار” الإيراني، من موقع أضعف…هذا هو جوهر المقاربة الإماراتية مع طهران.
أما مع تركيا، فقد مضى الزمن الذي كان فيه إردوغان يمسك بورقة خطيرة بحسابات الأمن الوطني الإماراتية: ورقة الإسلام السياسي الإخواني، فالإخوان في أربع أرجاء الإقليم، يتهاوون، والبداية من مصر، مروراً بالمغرب وهزيمة العدالة والتنمية، إلى العراق وصفر مقاعد في الانتخابات الأخيرة، عطفاً على أزمة النهضة في تونس، وتراجع المكون الإخواني في مختلف الدول والمجتمعات العربية…
وطالما أن إردوغان نفسه، اكتشف “عقم” اللجوء إلى “كرت محروق”، فلماذا لا تلاقيه الإمارات في “نقطة ما”، وتحيل التحدي إلى فرصة، سيما وأن الرجل ليس في أحسن أحواله، بعد مسلسل الخيبات في سياسته الخارجية، وأزمة الليرة التركية التي أطاح بها، وربما تطيح به في انتخابات 2023.
ستكتشف أبوظبي أن الزمن الذي كان يقال فيه إن السياسة الخارجية السعودية تدار منها وليس من الرياض، قد انتهى، وأن ولي العهد السعودي قد شبّ عن طوق نظيره الإماراتي، وأن رؤية 2030، تحمل في طياتها تهديداً لمكانة الإمارات ودورها التقليدي، وأن “نيوم” السعودية تصعد على المسرح الدولي، كمنافس لدبي وليس كمكملة لها، تماماً مثلما هو حال الدوحة، مثل هذه التطورات، معطوفة على ميل إماراتي للخروج من تحت العباءة السعودية، يملي عليها تحصين مكانتها بأوثق العلاقات مع اللاعبين الإقليميين الكبار: تركيا، إيران وإسرائيل.
ومن الآن وصاعداً، ستتغلب المنافسة على التعاون، في تقرير شكل ومستقبل العلاقات بين المملكة والإمارة، وأن ميادينها ستتخطى سوق الطاقة إلى الاستثمار والترانزيت والتجارة والترفيه والسياحة، بعد أن أطلق محمد بن سلمان، مساراً سريعاً للفكاك من أسر “المحافظة” و”التقليد” و”المؤسسة الدينية”، وأدخل السعودية في سياق جديد، يجد المراقبون صعوبة في مواكبته.
أما مصر، الحليف الكبير الثاني للإمارات منذ يونيو 2013، وبالأخص زمن الحصار على قطر، فستجد أبوظبي نفسها في مسار مفارق عنها، فالأخيرة ما انفكت تبحث عن طرق بديلة لقناة السويس (إيلات – عسقلان بالأمس، وإيران – تركيا اليوم)، والبلدان يقفان في خندقين متقابلين في أثيوبيا، منذ أزمة السد وحتى الحرب بين أديس أبابا وجبهة تيغراي، دع عنك ما يقال عن خلافات في “العاصمة الإدارية الجديدة” وغيرها من ملفات.
الخلاصة أن أبوظبي تتجه لتطوير علاقاتها الثنائية مع دول الجوار الإقليمي للعالم العربي، مولية اهتماماً أقل، بعلاقاتها وتحالفاتها التقليدية، وأنها وهي تفعل ذلك، إنما تضع معادلة الأمن والاقتصاد في صدارة أولوياتها، من دون أن تسقط من حسابها، تعزيز مكانتها في المنظومتين الإقليمية (مجلس التعاون) والعربية، وهي إذ تدير علاقاتها الناشئة مع خصوم الأمس، إنما تُبقي عيناً على “نيوم” وأخرى على “الدوحة”، وربما هذا ما تنبهت إلى المملكة السعودية، التي تقود منذ عدة أشهر جهوداً لترميم مجلس التعاون، وإعادة الاعتبار لدورها القيادي فيه، بعد أن صار قاطرة بثلاثة رؤوس وليس برأس واحد كما نشأ قبل عقود أربعة.
.
رابط المصدر: