الاستقامة والصبر وتربية النفس على العفو والتسامح من جهة، والتحاور وتبادل الآراء والأفكار وفهم الحقائق بين الخصوم من جهة أخرى، عناصر مهمة وفعالة لمكافحة آفة العنف، وهي قيم ومبادئ استقتها الحركات اللاعنفية والقادة اللاعنفيون والمدافعون عن اللاعنف في مختلف الأزمان والأماكن من الاديان السماوية لدعم عملهم اللاعنفي…
إذا مورس العنف، في أي مكان، وضد أي شخص، أو ضد أية مجموعة، وتحت أي سبب أو مبرر، فمن المرجح التوقع بحدوث عنف مضاد، يوازي فعل العنف أو يتعدى حدوده في أكثر الأحيان.
ومن الصعوبة بمكان أن يطلب الداعمون للعمل اللاعنفي من أطراف العنف أن يكفوا عن ممارسته؛ ويعفو بعضهم عن بعض، أو يتصالحوا وينسوا بطريقة “ننسى الماضي ونبدأ من جديد” كأن لم يكن شيء؛ لان المتضررين من أعمال العنف يعيشون – في الأغلب- حالة الاستذكار الدائم للحظة ممارسة العنف ويتألمون باستمرار لأثاره، لانهم إما في حالة الشعور بالغبن واستمرار الاضطهاد، وإما في حالة انتظار فرصة الانتقام من الجاني، لرد اعتبارهم” معنوي”، أو لاسترجاع حقوقهم المغصوبة “مادي” أو هم في حالة طلب الأمرين معا.
العنف ظاهرة شائعة في عالمنا، وهو أمر مرفوض أخلاقيا وتشريعيا، ولكنه واقع موجود، لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فهو يمارس في كل لحظة من قبل فرد قوي أو مجموعة قوية ضد فرد ضعيف أو مجموعة ضعيفة، وهو لا يستتبع بالضرورة حالة العداوة، واقله التعنيف الكلامي، وأكثره العنف الجسدي مقرونا بالإهانة، وأسبابه لا تكاد تنحصر في دائرة محددة، فهو موجود ومتوقع حدوثه من الآخرين، سواء الذين تربطنا بهم علاقات أسرية، أو وظيفية، أو حزبية، أو علاقات مواطنة، أو الذين لا تربطنا بهم أية علاقة، كل ما في الأمر إننا لا نستطيع أن نحدد لحظة وقوع العنف فقط.
لا تبدأ مشكلتنا كبشر، في أننا لا نعتقد بالعنف، أو لا نتوقع حدوثه، ولكن مشكلتنا تبدأ لحظة التعامل مع العنف؛ فهي لحظة من أهم لحظات الفرد المتضرر أو المجموعة المتضررة، لكونها لحظة عصيبة تستلزم اتخاذ قرار مستعجل وآني، لكنه قرار مهم وخطير لا يحدد مستقبل أطراف النزاع فقط، ولا مستقبل وطن أو أمة أو عرق فقط، بل ربما يحدد مستقبل أجيال وأجيال.
صور الاقتتال الداخلي المتكرر في الدول التي تضعف فيها سيادة القانون، كالصراعات بين عشيرة وعشيرة أخرى، أو بين أنصار دين ودين آخر، أو بين أتباع مذهب ومذهب آخر، تبدأ باستخدام العنف من طرف؛ ولكنها تستمر بقبول خيار مواجهة العنف بالعنف من طرفها الثاني، بقرار مستعجل، يريد مبدأ الرد بالمثل، أو “أخذ الثار”.
وهناك الكثير من الحروب العالمية بدأت شرارتها الأولى بتصرف أحمق من قبل أشخاص كانوا أعلاما في دولهم أو كانوا مغمورين، لكنهم كانوا واقعين تحت تأثير وضع نفساني، أو عقائدي، أو سياسي، كاغتيال ملك أو اعتداء على حدود، أو اهانة مواطن، قابلها قرارات انفعالية عنيفة من الطرف الآخر، كاحتلال دولة أو قصف سكانها، أو حصارها وتدمير اقتصادها. ونتائجها كانت ملايين من القتلى وملايين من الجرحى، وما لا يعد ولا يحصى من الآليات والأبنية والمزارع المدمرة.
علينا في البدء أن نكون واقعيين، وعلينا أن نعترف بان العنف جزء من علاقاتنا أو لنقول هو الجزء السيئ من علاقتنا، ولكن لا يجب أن تنحصر خياراتنا للمطالبة بحقوقنا المترتبة على استخدام العنف في أمرين فقط؛ إما الاعتداء أو الاستسلام. لان كلا الخيارين – وهما أكثر الخيارات شيوعا واعتمادا لدى أطراف العنف-لا يوفران -تكتيكيا- قيم التعايش السلمي، ولا يولدان -استراتيجيا-حياة آمنة ومستقرة للمجتمع. وهذا يعني أننا لا يجب أن نذعن كليا إلى فكرة الانتقام أو فكرة الاستسلام، ولا يجب أن نقبل بهما على أساس أنهما نتاج علاقات إنسانية حتمية.
الاعتراف بوجود عنف بشري متزايد لا يعني إعطاء شرعية وجود أو تبرير لسلوك عدواني، ولكن تجاهله وإنكاره أو تكفير أثاره وطمسها، لا يعني إننا تخلصنا من العنف، ولا يعني إننا لن نواجه العنف في دائرة علاقاتنا.
بعض المدافعين عن اللاعنف ممن لا يقبلون بالعنف المضاد ولا يرتضون لغة الاستسلام أو “المسالمة” قالوا بخيار” اللاعنف الروحي” المتضمن إحداث تغيير في سلوك المعتدى عليه أو المعتدى عليهم، مما يؤثر إيجابيا على سلوك المعتدي و(يدعون إلى احترام أو إلى محبة أعدائهم. وهذا النوع هو الأكثر قرباً من البعد المثالي في فهم اللاعنف، ويجادل أنصار هذا الأسلوب بأن من غير المنطقي أساساً أن يستخدم العنف لتحقيق مجتمع مسالم، وهذا ملاحظ في موعظة الجبل التي ألقاها المسيح: “أحبوا أعداءكم”، أو محبة الخير لكل المخلوقات، أو اللاعنف تجاه أي كائن، في البوذية. إن لمحبة الأعداء أو احترامهم تبريره العملي البراغماتي، فالفصل بين الفعل وبين الفاعل يترك الباب مشرعاً أمام الفاعل ليغير سلوكه ويتراجع عن أفعاله أو قناعاته.
وقد قال مارتن لوثر كينغ: “اللاعنف لا يعني تجنب العنف المادي مع الآخرين، بل أيضاً العنف الروحي الداخلي. إنك لا ترفض إطلاق الرصاص على شخص آخر فقط، بل ترفض أن تكرهه أيضاً”. وقال عبد الغفار خان “سأقدم لكم سلاحاً فريداً لا تقدر الشرطة ولا الجيش علي الوقوف ضده. إنه سلاح النبي، لكن لا علم لكم به. هذا السلاح هو الصبر والاستقامة. ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع الوقوف ضده”.
ويؤكد الإمام السيد محمد الشيرازي على جانب اللاعنف القلبي، والذي يعتبره أصعب الأقسام، ومعنى ذلك ان لا يملأ الإنسان الداعية قلبه بالعنف بالنسبة إلى خصومه ومناوئيه، وكثيراً ما يسري العنف القلبي إلى ملامح الوجه وحركات الأعصاب. وكان الإمام الشيرازي يعتقد بأن هذا القسم يحتاج إلى جهاد طويل، ومكابرة مستمرة حتى يحصل الإنسان على ملكة قوية، وقوله أيضاً: أن نتمتع ببعد نظر وصدر يتسع لاستقبال الآراء المغايرة لوجهات نظرنا وأن نستثمر هذا الاختلاف لنخرج بالرأي الصائب ونرتقي إلى هذه الحالة الإيجابية.
وبعض المدافعين عن اللاعنف يضيف خيار “التحاور لفهم الحقيقة” بين أطراف العنف، وهو يفسر صدور العنف على أساس عدم المعرفة الكاملة بالحقيقة، فلو اتضحت الحقيقة لزال العنف والعنف المضاد، وهو (المنهج اللاعنفي عند غاندي حيث تبدو كلمة ساتيا، أو الحقيقة أمراً مركزياً. فغاندي يعتبر الحقيقة بأنها متعددة الأوجه لا يمكن لشخص واحد أن يفهمها بشكل متكامل. الجميع إذن يملكون أجزاء من الحقيقة حسب اعتقاده، وكلهم يحتاجون إلى الأجزاء التي يملكها الآخرون وبالتالي السعي نحو الحقيقة الأكبر. وهذا ما دعاه إلى الإكبار من شأن الحوار مع الأعداء والمخالفين في الرأي، من أجل فهم الدوافع. ومن أجل أن يستمع إليك الآخرون، يجب أن تتحلى بالقدرة على الإصغاء).
لا شك أن الاستقامة والصبر وتربية النفس على العفو والتسامح من جهة، والتحاور وتبادل الآراء والأفكار وفهم الحقائق بين الخصوم من جهة أخرى، هي عناصر مهمة وفعالة لمكافحة آفة العنف، وهي قيم ومبادئ استقتها (الحركات اللاعنفية والقادة اللاعنفيون والمدافعون عن اللاعنف في مختلف الأزمان والأماكن من الاديان) السماوية لدعم عملهم اللاعنفي في كفاحهم من أجل التغيير.
ولكن يبدو لنا، أن ثمة نوع آخر من أنواع اللاعنف، يمكن أن يكون مقبولا وفعالا وعمليا عند أكثرية المضطهدين والمعنفين، وهو ندعوه بـ” إستراتيجية إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي” قبل بدء أعمال العنف، أو بالأحرى ” إستراتيجية إعادة الأمور إلى ما يقرب من نصابها الطبيعي” لأنه إذا ما صدر العنف من طرف فلا يمكن إعادة الأمور على ما كانت عليه من قبل، ولكن يمكن إصلاحها على نحو يقرب على ما كانت عليه، وهي إستراتجية مرنة ومتحركة وفعالة ومتناسبة مع طبيعة العنف وآثاره النفسانية والاجتماعية والسياسية.
فليس كل مضطهد لديه قابلية للعفو عمن اضطهده، وليس كل مظلوم يسامح ظالمه، أو يدعو له بالمغفرة، وأيضا ليس كل معتدى عليه، يقبل أن يجلس ويتحاور بروح شفافية مع المعتدي، ثم يلتمس له عذرا أو مبررا فيما صدر منه من تجاوز أو اهانة.
ولكن يمكن أن تتحقق هذه الأمور تدريجيا إذا ما أخذنا بـ”إستراتيجية إعادة النصاب إلى وضعه الطبيعي”، وهي إستراتيجية تتضمن الإقرار بحق المعنف “بفتح النون” أو المعنفين من قبل المعنف “بكسر النون” أو المعنفين، وذلك بالاستعداد لإصلاح الأمور بأساليب متعددة منها: كشف الحقيقة، والتعهد بالكف عن عدم تكرار الفعل، والاعتذار، والاستعداد للمحاكمة، وقبول التعويض العادل وغيرها.
ومن الفوائد المنظورة، لتفعيل هذه الإستراتيجية هي:
– التقليل من ردود الفعل العشوائية التي تتضمن عنفا مضادا.
– تقضي على ظاهرة قبول الاستسلام، وتعطي أملا متزايدا للضعفاء بان حقوقهم ستكون مضمونة في كل الأحوال.
– تتيح فرص كبيرة لحوار مفتوح بين أطراف العنف لتوضيح مواقفهم.
– سرعة تحقيق العفو والتسامح من الأعماق.
– تُعيد الكرامة المهدورة للمعنفين “بفتح النون”.
– توفر للمتضررين حياة مستقرة إذا ما صاحبها تعويض معنوي أو مادي عن الضرر الحاصل.
– تردع المعتدين عن ارتكاب العنف في مواطن أخرى ضد آخرين، لأنها تتضمن توضيحا لحقيقة واعتذارا وتعويضا